من الواضح أن التقارير الصحفية التي تحدثت في السابق عن عمليات التجسس التي قامت بها السلطات السعودية من أجل اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في إسطنبول، أكتوبر 2018، لم تكن حالة فردية عارضة كما صورها الإعلام السعودي، فربما تكون مراقبة هواتف المعارضين لنظام المملكة جزءًا من حملة تجسس أكبر وأوسع، وفق ما ذهبت صحيفة “الغارديان” البريطانية.
الصحيفة في تقرير لها أمس أشارت إلى أن السعودية في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، ونجله ولي العهد محمد بن سلمان، تستغل نقاط الضعف في شبكة اتصالات الهاتف المحمول العالمية لتعقب مواطنيها أثناء سفرهم إلى الولايات المتحدة، في إشارة إلى الثغرات الموجودة في نظام التراسل العالمي الذي يسمى SS7.
التقرير المنشور استند إلى ما كشفه أحد المبلغين الذين يسعون إلى كشف نقاط الضعف في نظام التراسل العالمي، بشأن شنً المملكة حملة تجسس منهجية ضد مواطنيها في الخارج، إذ تبين وفقا لخبراء المعلومات أن شركات الاتصالات السعودية قدمت ملايين طلبات التتبع السرية لهواتف السعوديين في الولايات المتحدة، على مدار أربعة أشهر منذ نوفمبر الماضي، وحتى الأول من مارس الجاري.
الكثير من الخبراء عبروا عن انزعاجهم الشديد حيال طلبات التتبع السعودية غير المسبوقة، والتي فاقت كافة النسب المألوفة على مدار السنوات الماضية، والتي يبدو كذلك أنها صادرة عن مشغلين سعوديين يسعون إلى تحديد مواقع المشتركين فيها بمجرد دخولهم أمريكا، الأمر الذي ينتهك حريتهم الشخصية، وقد يضع حياتهم في خطر خاصة عقب عودتهم إلى بلادهم مرة أخرى.
تجسس ممنهج
وتُظهر البيانات التي استندت إليها الصحيفة البريطانية في تقريرها طلبات من شركات “الاتصالات السعودية” و”موبايلي” و”زين” للحصول على بيانات موقع الهاتف المحمول لعدد من المواطنين السعوديين من خلال نظام SS7 الذي يبلغ عمره عقودًا طويلة، ويسمح لمشغلي الهاتف المحمول بربط المستخدمين حول العالم. على سبيل المثال، مستخدم الهاتف المحمول من الولايات المتحدة الذي يسافر إلى ألمانيا ويسعى لإجراء مكالمة هاتفية مع الولايات المتحدة متصل عبر شبكة SS7 ويمكن معرفة موقعه بسهولة عبر هذا النظام.
وتييح هذا النظام كذلك تتبع الهواتف، وهي الميزة التي ظلت لسنوات طويلة مدعاةً للقلق من قبل خبراء الأمن والمهتمين بالشأن الحقوقي، ويتم استخدام هذه الطلبات بشكل مشروع لمساعدة المشغلين الأجانب على تسجيل رسوم المكالمات عبر البحار، لكن الاستخدام المفرط لمثل هذه الرسائل معروف في صناعة الاتصالات المتنقلة بأنه مؤشر على تتبع الموقع.
المبلغ الذي سعى إلى كشف نقاط الضعف في نظام التراسل العالمي، قال – بحسب التقرير- إنهم لم يتمكنوا من العثور على أي سبب مشروع لزيادة حجم طلبات الحصول على بيانات الموقع، مضيفاً “لا يوجد تفسير آخر، ولا يوجد سبب فني آخر للقيام بذلك، إن المملكة العربية السعودية تقوم باستخدام تقنيات الهاتف المحمول كأسلحة”.
ولم تجزم الصحيفة بعد ما إذا كانت شركات الهاتف المحمول السعودية التي كانت تطلب كميات كبيرة من بيانات تتبع الموقع حول المشتركين فيها متواطئة عن قصد في أي برنامج مراقبة تديره الحكومة، غير أنها أشارت إلى أن إجمالي طلبات التتبع الصادرة عن الشركات السعودية الثلاث بلغت 2.3 مليون طلبًا شهريًا من 1 نوفمبر 2019 إلى 1 مارس 2020.
واختتمت الغارديان تقريرها بأن البيانات التي اطلعت عليها لم تحدد هوية مستخدمي الهاتف المحمول السعوديين الذين يتم تعقبهم، بينما قالت إنّ السفارتين السعوديتين في واشنطن ولندن لم تجيبا على طلبات متعددة للتعليق، كما لم تفعل الاتصالات السعودية أو زين أو موبايلي.
ليست المرة الأولى
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتهم فيها السعودية باستغلال الأسلحة السيبرانيّة لاختراق المعارضين ومنتقدي ولي عهد المملكة محمد بن سلمان، ففي يناير الماضي، كشفت الصحيفة البريطانية نفسها أن هاتف مالك “أمازون” الملياردير جيف بيزوس قد تم اختراقه في عام 2018 بعد تلقي رسالة “واتساب”، تم إرسالها على ما يبدو من الحساب الشخصي لبن سلمان.
في السابع والعشرين من يناير الماضي نقلت وكالة Bloomberg الأمريكية عن خبراء ومسسئولين حكوميين سابقيين اعتقادهم أن المملكة تتبنى خطة ممنهجة للحصول على ترسانة قوية من الأسلحة الإلكترونية المتطورة، فيما رأوا أن تلك الترسانة تتألف بالأساس من أدوات تجسس تشتريها من جهات خارجية، ومعها تكتيكات تضليل على الشبكات الاجتماعية.
ويرى الخبراء في الأمن السيبراني لدى مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أن الأدوات السيبرانية التي اشترتها السعودية هي وسيلة فعالة لتمكين النظام الحاكم من فرض سيطرته، بنشر هذه الأدوات للتجسس على المعارضين والصحفيين السعوديين، في الداخل والخارج على حد سواء.
وتتراوح التقديرات حول توقيت بدء السعودية شراء الأدوات السيبرانية من نصف عقد إلى عقدين من الزمن، ويبدو أنَّ المملكة تركز على أنشطة المراقبة، بحسب ما نقلته الوكالة الأمريكية عن الخبراء الذين قالوا إنه على الرغم من أنَّ الأدوات السيبرانية يمكن استخدامها لحذف بيانات أو تغييرها واحتجاز الأنظمة كرهائن وتعطيل حركة المرور، ركزت السعودية على استخدامها للتجسس.
كما لم تكتفِ السعودية بشراء قدرات سيبرانية، بل أصبحت بارعة في شن حملات مُضلِلة للترويج لمصالحها القومية، فعلى سبيل المثال، حذفت شركة فيسبوك في شهر أغسطس2018، مئات الحسابات والصفحات المرتبطة بالحكومة السعودية التي شاركت في شن حملة فرض نفوذ متطورة وواسعة النطاق تثني على النظام السعودي وتنتقد الدول المجاورة، غير أنه وبعد شهرين فقط، حذفت شركة تويتر آلاف الحسابات السعودية المدعومة من الدولة، وعلَّقت كذلك عشرات الآلاف من الحسابات الأخرى، التي استغلت المنصة من أجل تعزيز المصالح الجيوسياسية للمملكة وتضخيم الدعم الذي تحظى به سلطاتها.
وفي السادس من نوفمبر الماضي كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن ضلوع ثلاثة أشخاص (أمريكي وسعوديَّين) بجريمة التجسس داخل الولايات المتحدة في أثناء عمل اثنين منهم بموقع “تويتر”، وتسريبهم معلومات عن عملائه، حيث نقلت الصحيفة عن وزارة العدل الأمريكية اتهامها للموظفين بالتجسس لحساب السعودية على حسابات منتقدين لسياساتها، فيما كان همزة الوصل بينهم “بدر العساكر”، مدير المكتب الخاص لمحمد بن سلمان، وأحد أبرز المقربين منه.
1/4 #FBI San Francisco is seeking Ali Alzabarah (https://t.co/DbJ5RvefJu)and Ahmed Almutairi (https://t.co/Hg0xEfJE2i) for allegedly acting as unregistered agents of a foreign government pic.twitter.com/ZMUE0nYFvK
— FBI SanFrancisco (@FBISanFrancisco) November 7, 2019
الصحيفة قالت إن “توجيه التهم جاء بعد يوم من اعتقال المواطن الأمريكي أحمد أبو عمو، الموظف السابق في تويتر، وهو المتهم الأول، في حين أن المتهم الثاني مواطن سعودي يدعى عليّ آل زبارة، وقد اتُّهم بالوصول إلى المعلومات الشخصية لأكثر من ستة آلاف حساب على تويتر عام 2015″، وأضافت – نقلاً عن وزارة العدل- أن “المتهمَين عملا معاً لحساب الحكومة السعودية والعائلة المالكة، من أجل كشف هويات أصحاب حسابات معارضة على تويتر”.
وأشارت الصحيفة الأمريكية إلى أن من بين الحسابات التي استُهدفت حساب المعارض السعودي عمر عبد العزيز، الذي كان مقرباً من الصحفي الراحل جمال خاشقجي، فيما نشر مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي”، صور المتهمين السعوديين على موقعه الرسمي، وأدرجهم ضمن قائمة المطلوبين، بشكل رسمي.
وبالعودة إلى الوراء قليلًا، يلاحظ أن هذه الحادثة وما سبقها فيما يخص عمليات القرصنة والتجسس على المعارضين بالمملكة، كانت جزءًا من سلسلة انتهاكات، فمنذ صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد بدعم من حليفه الإماراتي ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، انتهج البلدان سياسة ممنهجة في التنكيل بالمعارضين واستهدافهم، سواء من كان في الداخل عبر الاعتقالات واستراتيجيات الترهيب والتخويف، أو في الخارج عبر الملاحقات والتجسس والتهديدات المتواصلة.
بل إن الأمر تجاوز المعارضين المعروفين إلى كافة المواطنين العاديين في محاولة لتطويق الخناق على أي محاولات ولو صفرية التحرك للوقوف في طريق الأمير الشاب نحو خلافة والده على عرش المملكة، الذي بات من الواضح أنه لأجله لا يمانع في التضحية بأي شيئ.