يواجه عالمنا اليوم أحد أكبر التحديات لهذا القرن، وبكل تأكيد هذا التحدي هو “تفشي فيروس كورونا المستجد”، وفتكه ببلدان لم نتوقع أنها ستنهار لهذا السبب، أبرزها إيطاليا، أحد أهم دول الاتحاد الأوروبي التي سقطت أمام الجائحة في أيام، وتأثرت به أكثر من الصين نفسها، مصدر الوباء.
ما يحدث في إيطاليا اليوم، أمر كارثي وفاجعة حقيقية، فقد ارتفع عدد الوفيات هناك بسبب فيروس كورونا إلى 10 آلاف و779، وعدد إصابات مسجلة تبلغ نحو 98 ألف حالة، وفقًا لآخر إعلان للحكومة الإيطالية.
وهنا، لا بد أن نتوقف قليلًا أمام أحداث إيطاليا، لأنها بالفعل درس للتاريخ وستبقى علامة فارقة ومحلًا للدراسة عبر الأجيال، لا بد أن تستفيد منه جميع الدول، ونتساءل عن الأسباب التي أدت إلى سقوط بلد كبير كإيطاليا أمام فيروس كورونا المستجد.
استهتار الحكومة ومن ثم الشعب
أكدت تقارير مختلفة أن تقارير المخابرات نبهت الحكومة الإيطالية إلى الوباء المحتمل بعد أيام فقط من تسلله إلى الصين في أواخر 2019، ولكن الأسابيع مرت قبل اتخاذ أي إجراء جدي في إيطاليا، علاوة على أن الكثير من المسؤولين كانوا يدعون الناس لعدم الخوف وممارسة حياتهم بشكل طبيعي، على اعتبار أن مشكلة الفيروس في الصين البعيدة ولن تأتي إلى بلادهم.
وبعد إعلان أولى حالات الإصابة بكورونا، بدأت الحكومة الإيطالية في نشر التحذيرات بين الناس، ولكن غالبية الشعب لم يستجب لها واستهتروا بها ولم يصدقوا ما كانت ستؤول إليه الأوضاع، وتعاملوا مع تعليق المدارس والجامعات على أنها إجازة، فخرجوا للحدائق وازدادت نسب الاختلاط ليتفشى الفيروس بينهم.
وما زاد الأمر سوءًا، هو انتقال ساكني الشمال – بؤرة تفشي الفيروس – إلى كل المناطق، بعد تردد أنباء عن غلق المناطق الشمالية لتحجيم الفيروس، مما أجبر البلاد على فرض الحجر الصحي على كل البلاد بسبب هذا السلوك الذي تسبب أيضًا في توسيع رقعة انتشار الفيروس الذي يحصد الأرواح بلا رحمة.
ضعف نظام الرعاية الصحية
صنف العديد من الخبراء أن الذي حدث في إيطاليا كارثة صحية في هذا القرن، فرغم أن مستشفيات البلاد مجهزة بأجهزة صحية مهنية جدًا، فإن سوء تقدير الموقف منذ البداية وتكرير خطأ ووهان الصينية في التعامل مع مفهوم الحجر الصحي، أدى إلى ضعف كبير في نظام الرعاية الصحية بسبب الضغط الهائل.
وبسبب هذا الضغط، لم يعد هناك ما يكفي من أسرّة للعناية المركزة أو أجهزة التنفس الصناعي لكل مريض، مما يجبر الأطباء على اتخاذ قرار باختيار من يحصل على سرير وحدة العناية المركزة ولديه فرصة البقاء على قيد الحياة، مقابل الذين لا يمكنهم الحصول على سرير وعلى الأرجح لن يستطيعوا البقاء على قيد الحياة، وفي الأغلب هم كبار السن أو الأشخاص الأضعف صحيًا.
بلد عجوز
أحد أهم العوامل التي أدت لما حدث، أن إيطاليا واحدة من أكبر الدول في العالم من حيث نسبة كبار السن، حيث إن 23.3% من المواطنين فوق سن الـ65، ومتوسط العمر الإجمالي للسكان 45.4، وقد أظهرت الأرقام الرسمية الصادرة أن عمر الإيطاليين الذين يموتون من كورونا يبلغ نحو 80 عامًا.
وعلى إثر ذلك، حذر الكثير من الأطباء المختصين أن البلدان ذات السكان الأكبر سنًا، ستحتاج إلى اتخاذ إجراءات وقائية أكثر شراسة للبقاء تحت عتبة الحالات الحرجة التي تفوق قدرات النظام الصحي، ولكن تجدر ملاحظة أن متوسط عمر اليابان البالغ 47.3، لديها حالات وفاة مسجلة قليلة.
لذا قد يكون كثرة كبار السن وعدم الجاهزية، مرتبطين ببعضهما البعض، ففي مدينة تورينو الواقعة في شمال البلاد اقترح فريق إدارة الأزمات بالمدينة بروتوكولًا يحرم كبار السن وتحديدًا من تتجاوز أعمارهم حاجز الـ80 عامًا من الدخول إلى وحدات العناية المركزة لصالح المرضى الأصغر سنًا، وذلك في ضوء أزمة نقص أسرة المستشفيات وعدم كفاية وحدات العناية المركزة.
الترابط الأسري
يؤكد المختصون الإيطاليون أن الترابط العائلي والثقافة التي تحدد طريقة الحياة الإيطالية قد تكون في هذه الحالة أدت إلى تفاقم تفشي الفيروس، والعديد من الأسر متعددة الأجيال، إما ما زالت تعيش تحت سقف واحد أو قريبة من بعض وتحيي المناسبات العائلية الكبيرة بشكل متكرر، وبما أن الأكبر سنًا هم الأكثر عرضة، فجميع من في هذا المجتمع معرض للإصابة.
الحظ السيئ
يلعب الحظ دورًا كبيرًا في مجريات الأحداث، وكان حظ إيطاليا هذه المرة هو الأسوأ، فأول حالتين مصابتين بالمرض، وصلتا إيطاليا قبل نحو عشرة أيام من وصولهما إلى ألمانيا أو الولايات المتحدة، وذلك يعني أن مسافرين يحملون فيروس كورونا وصلوا إيطاليا قبل غيرها من البلدان.
حدثت الكارثة في إيطاليا وبدأت دول الاتحاد الأوروبي في أوروبا الغربية تصاب بهذه الكارثة بشكل جنوني، مثل إسبانيا وفرنسا الآن، وقد تكون إيطاليا أحد أهم العوامل التي أدت لتفشي الفيروس في دول أوروبا الجنوبية والغربية، ولكن هل استفاد الجميع من هذا الدرس؟
كارثة جديدة قد تحدث في أوروبا الشرقية
تُعَدّ أوروبا الآن مركزًا لوباء فيروس كورونا، وتستعد جميع الدول لمواجهته بكل قوة، حتى لا تتكرر كارثة إيطاليا، لكن يبدو أن جمهورية بيلاروسيا “روسيا البيضاء” لا تكترث لما يحدث، ولم تتجه السلطات هناك إلى إجراء أي تغييرات جذرية في مجريات الحياة اليومية.
وبينما بدأت دول جوار بيلاروسيا اتخاذ الإجراءات، كأوكرانيا التي فرضت حالة الطوارئ في العاصمة كييف وغيرها من المناطق، وفيما تغلق روسيا المدارس وتلغي كل الحفلات الجماعية وتحظر كل الرحلات الجوية الداخلية والخارجية، فإن مجريات الحياة في بيلاروسيا تسير كأن شيئًا لم يحدث في العالم.
وعلى الرغم من تسجيل نحو 94 إصابة بفيروس كورونا في البلاد، ولا وفيات حتى اليوم، فلا تزال حدود بيلاروسيا مفتوحة ولا يزال الناس يذهبون إلى أعمالهم، فضلًا عن استمرار إقامة مباريات بطولة الدوري الممتاز حتى اليوم، ولم يتم إغلاق دور السينما ولا المسارح، كما لم تحظر أي احتفالات جماعية.
إهمال واستهتار حكومي
أغرب ما في الأمر، هو تصريح رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو الذي نال سخرية مستخدمي التواصل الاجتماعي، بقوله إنه لا حاجة لكي تتخذ بلاده أي تدابير وقائية ضد انتشار فيروس كورونا، وقال في اجتماعه مع السفير الصيني في العاصمة مينسك “هذه الأمور واردة، وأهم شيء هو عدم الذعر”.
وحدث لوكاشنو الناس عن أفضل طرق لمعالجة الكورونا، وهي المحاريث، أي العمل الجاد في المزارع، وشرب الخمر، حيث اعتبر الرئيس أن بعضًا من الفودكا لا يضرّ على كل حال في محاولة وقف انتشار المرض.
قلق شعبي
كثيرون من أبناء بيلاروسيا يبدون قلقًا بالغًا إزاء تفشي الفيروس، نظرًا لوقوفهم على مستجدات الأخبار خارج بلادهم، ويحاول الطلاب عدم الذهاب إلى أماكن دراستهم بشتى الطرق، ويحاول الناس تخفيف التجمعات في الشوارع والأماكن العامة، وذلك لأن لديهم وعيًا بأن كبار السن أكثر عرضة للخطر من غيرهم، لكن معظم هذا الوعي لم يكن مصدره السلطات.
ويطمئن الرئيس لوكاشنكو شعبه قائلًا: “لا يوجد ما يدعو للقلق، لأن كل الوافدين من خارج البلاد يخضعون للفحص الطبي، وذلك للكشف عما إذا كانوا مصابين بفيروس كورونا، ويوميًا تُظهر الفحوصات إيجابية اثنين أو ثلاثة أشخاص للإصابة بالفيروس، وعندئذ يوضع المصابون في الحجر الصحي قبل أن يُفرَج عنهم بعد أسبوع ونصف أو بعد أسبوعين”.
هذا الاستهتار الذي تمارسه الحكومة البيلاروسية، نموذجًا على عدم الاستفادة من أخطاء الغير التي تجلب الكوارث، فلم يمر إلا شهر على إعلان إيطاليا عن أول حالة إصابة بكورونا إلا وأصبح الوضع هناك بائسًا، ففي مدينة بيرماجو الواقعة في إقليم لومبارديا الإيطالي لم يعد بإمكان ثلاجات الموتى المحلية استيعاب أعداد الوفيات، وهو ما دفع الجيش إلى نقل الكثير منهم في توابيت خشبية تحملها عربات عسكرية إلى مناطق نائية من أجل حرقها.