في الوقت الذي تعمل فيه وزارة الصحة وغالبية الشعب التونسي جاهدين لإيجاد حلول تمكن البلاد من مجابهة خطر انتشار جائحة كورونا، عكف بعض نواب البرلمان لصياغة مشروع قانون يهدف إلى تحصينهم من الانتقادات التي تطال سلوكهم على منصات التواصل الاجتماعي.
مشروع قانون جديد تقدم به أكثر من 40 نائبًا، مستغلين الهلع والقلق الشعبي الكبير من أزمة وباء كورونا، الهدف منه، وفق العديد من التونسيين، تشديد التشريعات التضييقية وضرب الحريات في بلادهم، وهو ما يفسر المعارضة الكبيرة التي وجدها، ما سرع بتجميده.
تقييد حرية التعبير
يتضمن مشروع القانون المقترح لتحوير الفصلين 245 و247 المتعلقين بالجرائم الإلكترونية من المجلة الجزائية، عقوبات سجنية ومالية لكل من ينشر أخبارًا يتم التأكد من زيفها بعد نشرها، فيما تضمن القانون عقوبات صارمة لقضايا الثلب على منصات التواصل الاجتماعي.
وينص مشروع هذا القانون الذي تقدم به 46 نائبًا ينتمون إلى أغلب الكتل البرلمانية، على أن يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين سنة واحدة وسنتين وبغرامات مالية تتراوح بين 10 و20 ألف دينار تونسي (نحو 6.5 آلاف دولار أمريكي) كل من يتعمد الإساءة إلى الغير أو إزعاج راحتهم عبر الشبكات العمومية للاتصالات.
ويرفع العقاب إلى الضعف إذا كان القذف واقعًا في أثناء عملية انتخابية أو في الستة أشهر السابقة لوقوع الانتخابات، كما يضاعف العقاب إذا تم القذف من شخصيات مستترة أو متنكرة تحت أي مسمى، ويضاعف العقاب في حالة العود، وفق نص مشروع القانون.
مشروع هذا القانون أعده النائب عن حركة تحيا تونس والوزير السابق مبروك كورشيد، بهدف محاربة الأخبار الكاذبة وكذلك “أخلقة الحياة السياسية والاجتماعية عبر التصدي للجريمة الإلكترونية المتعلقة بهتك الأعراض والمساس بشرف الأفراد”، وفق قوله.
عبر العديد من الصحفيين التونسيين عن رفضهم لمشروع هذا القانون، كونه سيكون مقيدًا لحرية النشر والتعبير في البلاد
يرجع سبب تقديم مشروع هذا القانون وفق القائمين عليه إلى رغبتهم في “حماية الديمقراطية وترسيخ قدمها في تونس ودعم الإعلام النزيه والشفاف وإبعاد عبث المال الفاسد داخليًا وخارجيًا والتصدي للجريمة الإلكترونية المتعلقة بهتك الأعراض والمساس من شرف الأفراد والجماعات والحد من انتشار الشائعات”.
ويرى صاحب هذا المقترح ضرورة محاربة الأخبار الكاذبة التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، معتبرًا أن هذه الأخبار تشكل تهديدًا للأمن القومي، وتم تقديم هذا المقترح للبرلمان منذ شهر فبراير/شباط الماضي وأحيل إلى لجنة التشريع العام، دون أن يتفطن إليه الرأي العام التونسي.
واعتبر كورشيد أن الجريمة الإلكترونية باتت تهدد العملية الديمقراطية برمتها في تونس، مما يستوجب إصدار القانون في مدة معقولة ”وعلى اعتبار أن الانتخابات المقبلة ستكون بالنسبة للمجالس الجهوية في أفق سنة 2021 وهو ما يتطلب صدور القانون سنة قبلها حسبما أكدته لجنة التوافقات”.
معارضة كبيرة
ما إن خرج مشروع هذا القانون إلى العلن وتداوله التونسيون بينهم، حتى تعالت الأصوات المستنكرة والرافضة له، باعتباره قانونًا رجعيًا يهدف إلى ضرب حرية التعبير في البلاد وتكميم الأفواه فيها وتشديد الرقابة على النشر، ويحصن نواب البرلمان من أي نقد يتعرضون له في مواقع التواصل الاجتماعي.
وعبر العديد من الصحفيين التونسيين عن رفضهم لمشروع هذا القانون، كونه سيكون مقيدًا لحرية النشر والتعبير في البلاد ويحصن أعضاء مجلس نواب الشعب من أي نقد، ما سيجعل تونس تعود إلى الوراء في مجال حرية التعبير وفق قول العديد منهم.
بدورها، عبرت النقابة العامة للإعلام التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل عن رفضها لهذه المبادرة التشريعية التي تتعلق بتنقيح الفصلين 245 و247 من المجلة الجزائية، ورأت النقابة أن مشروع هذا القانون يتعارض مع الدستور ويضرب حرية النقد والتعبير ويعيد إلى أذهان التونسيات والتونسيين فرق الرقابة الإلكترونية وتعقب المدونين زمن بن علي.
سرعة سحب مشروع هذا القانون، تؤكد قوة المجتمع المدني في تونس وعدم قابلية الشعب التونسي للتراجع عن مكاسب ثورة الكرامة والحرية
إلى جانب ذلك أكد الاتحاد العام التونسي للطلبة أن مقترح المبادرة التشريعية التي تقدم بها مجموعة من أعضاء مجلس نواب الشعب تعيد للأذهان صورة من صور ضرب الحقوق والحريات الأساسية وعلى رأسها حرية التعبير والصحافة وغيرها مما كرسه دستور الثورة ترجمة لنضالات وتضحيات الشعب التونسي.
ويرى العديد من التونسيين أن مشروع هذا القانون يؤسس لعودة البلاد إلى مربع الاستبداد الذي كان سائدًا قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ويشرع لعودة الديكتاتورية في تونس، بعد أن حققت البلاد أشواطًا كبيرةً في مجال حرية التعبير.
وجاء في صفحة الفكر السياسي “نواب على مصالحهم، نواب ضد الشعب.. إن ما تم تداوله على صفحات الفيسبوك لمقترح القانون المصادر للحريات من طرف النائب المبروك كرشيد، النائب عن حزب تحيا تونس ومن معه من النواب الذين ساهموا بالإمضاء على هذا المقترح هو دليل على قبحهم واستبدادهم والحنين إلى العودة إلى أيام القمع والظلم”.
بدورها كتبت خلود معلقة على نص مشروع هذا القانون: “سنبقى شوكة في حلق كل ظالم، سياسة تكميم الأفواه انتهت. لقد فاتكم القطار الذي حمل معه من كانوا قبلكم لا تلعبوا هذه اللعبة لأن الشرفاء والحرائر ستجدونهم في الشوارع مثل السيل الجارف”.
وكتب الناشط أحمد الجديدي: “انتظرنا من مجلس النواب دورًا أكبر وأرقى من عرض هكذا مقترحات خلسة زمن الحرب التي يقودها الإطار الطبي والشبه طبي والأمني والعسكري وكل مرافق الدولة للسيطرة على هذا الوباء، لكن ما بالطبع لا يتغير فالشعوب تصنع روادها إلا نحن نفرز في بعض من الأحيان أخطاء صندوق قاتلة، يسقط هذا التنقيح”.
تراجع ثم سحب مؤقت
نتيجة هذا الرفض الكبير، قرر مجموعة من أعضاء مجلس نواب الشعب، ليلة الأحد، سحب توقيعاتهم من المبادرة، مشددين على أنهم “سيبقون مدافعين عن مكاسب الثورة وحرية التعبير”.
وأعلن النائب في البرلمان، صافي سعيد، في تدوينة على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، سحب توقيعه من مشروع القانون، مشددًا أنه “سيظل مقاومًا لكل أنواع الغطرسة والشتم والقذف البذيء والعشوائي”.
كما أعلن النواب الآخرون على غرار فيصل التبيني عن صوت الفلاحين، وخالد الكريشي وليلى حداد عن الكتلة الديمقراطية وسفيان طوبال عن حزب قلب تونس، سحبهم توقيعهم عن هذا المقترح الذي أثار حفيظة التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه الانسحابات المتتالية، جعلت صاحب المبادرة مبروك كرشيد يعلن سحب مشروع القانون الذي تقدم به على أن يعمل عليه لاحقًا بعد أن يتم تجاوز جائحة كورونا، ورغم تعليقه لهذه المبادرة، أبدى كرشيد تمسكًا كبيرًا بها، حيث أكد في تدوينة نشرها على صفحته الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أن “هذا المقترح لا يمس الحريات ولا يستهدف أي مدون شريف ولا يطال إلا شبكات الكذب والإشاعة المغرضة التي تلوث حياتنا جميعًا”.
سرعة سحب مشروع هذا القانون، تؤكد قوة المجتمع المدني في تونس وعدم قابلية الشعب التونسي للتراجع عن مكاسب ثورة الكرامة والحرية وعلى رأسها حرية التعبير التي ناضل من أجلها التونسيون وراح ضحيتها العشرات منهم.