قبل نحو 17 عامًا، أثبتت الصين قدرتها على السيطرة على تفشي وباء متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (السارس)، خلافًا لجارتها تايوان، الجزيرة التي فشلت نسبيًا في احتواء الوباء رغم تبنيها لنموذج حوكمة ديمقراطي. اليوم ينجح النظام الشمولي في الصين مجددًا في احتواء وباء فيروس كورونا المستجد عن طريق إبطاء تفشي المرض، أي تقعير منحنى الإصابة، بينما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون جاهدين عدم إلصاق لقب “بؤر الوباء” بالنموذج الليبرالي الديمقراطي.
إن مدى نجاعة نظامٍ سياسي معين في إدارة الأزمات تعتمد على ثلاث قواعد أساسية وهي: مركزية قرار الحكم وحجم ثقة العامة بأجهزة الدولة وتسخير وسائل الإعلام لتعبئة الجماهير ضد الخطر المحدق خلال بث رسائل موحدة، ومن الهين أن تطبق الصين الشيوعية هذه القواعد في محاربتها لفيروس كورونا، فتبرز حينئذٍ كنموذج منتصرٍ بديل عن الديمقراطية الغربية في تولي زمام قيادة العالم.
إن هذا الطرح مبني على منطقية أرسطو الصورية التي تعتقد بإصابة المقدمة الكبرى، باتباع هذا المنطق نستنتج أن النظم الاستبدادية أكثر فعالية في مواجهة الفيروس، ولكن ماذا لو كانت المقدمة الكبرى خاطئة؟
هل فعلًا نجح النظام الاستبدادي في الصين في مواجهة كوفيد-19؟
أظهرت دراسة جديدة أجرتها جامعة ساوثهامبتون الإنجليزية أنه إذا اتخذت الصين إجراءات الاحتواء ضد كوفيد-19 قبل ثلاثة أسابيع من تحول الفيروس إلى وباء أي عند الاشتباه بأولى الحالات في ووهان – موطن الفيروس – في الـ10 من ديسمبر العام الماضي، لاستطاعت جمهورية الصين تقليل الحالات فيها بنسبة 95%، ولو تصرفت الدولة قبل أسبوعين من التفشي بدلًا من غض الطرف عن تقارير مستشفى ووهان المركزي التي كانت تفيد بملاحظة فيروس جديد لا يتجاوب مع الأدوية المضادة للأنفلونزا الموسمية لكانت تمكنت من تقليل نسبة الحالات فيها 86%.
وأخيرًا لو أن الصين لم تكمم الأفواه ولم تحتجز الأطباء الذين أخطروا بظهور فيروس يشبه السارس في أوائل أيام السنة الجديدة، لخفضت نسبة الحالات إلى 66%، وبطبيعة الحال الحد من انتشار الفيروس جغرافيًا. للأسف تبقى هذه النسب رهينة الافتراضات فقد فات أوان الاستفادة منها على الأقل في الأزمة الراهنة.
الدراسة نفسها أفادت أنه لولا الإجراءات والتدابير الصحية والتكنولوجية التي اتخذها النظام الصيني من فرض حظر التجوال إلى وضع الملايين في الحجر الصحي لتضاعف عدد المصابين 67 مرةً من العدد الفعلي، و”هنا تكمن عبقرية النظام الشمولي” في الحد من تفشي كوفيد-19.
امتدح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، الدكتور تيدروس غيبرييسوس، أداء الحكومة الصينية في مكافحة الفيروس قائلًا: “سرعة الاستجابة والكفاءة التي تحلت بها الصين، أظهرت مزايا نظامها السياسي”، انتقدت بعض الصحف الغربية بشدة إشادة الدكتور غيبرييسوس بالنظام الصيني، معتبرة أنها تمثل تشجيعًا للأنظمة الاستبدادية مقابل الليبرالية، ووصل الأمر في البعض إلى اقتراح معاقبة الصين على إخفاء الحقيقة وإنكار وجود الفيروس في البداية.
إن تحامل الإعلام الغربي عامة والأمريكي خاصة يكاد يكون مفهومًا ويحمل شيئًا من الصحة كذلك، لكنه لا يراعي الدور الدبلوماسي لمنظمة الصحة العالمية في محاولة المقاربة بين الأطراف العالمية المتنافسة بدلًا من تعميق الشرخ فيما بينهم، وأن المنظمة تتحدث من وجهة نظر صحية، لأنه وبحسب ما قاله المندوب الصيني لدى الأمم المتحدة “لا تحارب الصين من أجل نفسها فحسب، بل من أجل العالم أيضًا”.
أنصار النيوليبرالية يحاولون تبرير ضعف استجابة أوروبا في احتواء تفشي فيروس كورونا المستجد
لقد استغلت جمهورية الصين مركزية نظام الحكم فيها لفرض تدابير رقابية صارمة والتأكد من خضوع العامة لها، فمنذ أواخر السبعينيات أجرت الصين إصلاحات اقتصادية ضخمة، أدت بالنظام إلى توسيع نطاق اللامركزية في البلاد، استمر تغير شكل الحوكمة الصينية مع مرور السنوات في التبلور بهدف تحسين قدرة الدولة على التكيف مع زيادة تعقيد الاقتصاد الصيني، لكن على الرغم من هذا الاتجاه نحو اللامركزية المالية بقيت الصين محتفظة بالمركزية السياسية وخاصة في القضايا ذات الأهمية الكبرى مثل انتشار الأوبئة، وهذه المرونة والسرعة في اتخاذ القرارت العظمى تعد إحدى “ميزات النظم الشمولية” عامة والصين الشعبية خاصةً.
ميزة أخرى ساهمت في نجاح الصين النسبي في احتواء فيروس كورونا، وهي سيطرتها على وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية، حيث تحتل الصين حسب مؤشر حرية الصحافة للعام 2019 المرتبة الـ177 من 180 دولة متضمنة، أي أن الدولة تفرض سيطرتها شبه الكاملة على وسائل الإعلام.
بالطبع الإشارة إلى هذا العنصر ليست بهدف مدح الرقابة الإعلامية وتقييد الحريات، إنما لتبيان كيفية استفادة النظام الاستبدادي من هذه السيطرة في مواجهة أزمة فيروس كورونا، إذ تحرص الصين على نشر معلومات دقيقة وحديثة، ذات طابع إيجابي غالبًا لمواجهة الشائعات والمعلومات المزيفة والحد من ظاهرة الهلع بين المواطنين وترويج قصة نجاح النظام في السيطرة على انتشار المرض، على عكس بعض الدول مثل إيطاليا التي تعد أكبر بؤرة للمرض في أوروبا للآن، حيث قال روبرتو بوريوني، أستاذ علم الأحياء الدقيقة والفيروسات بجامعة فيتا-سالوت سان رافاييل في ميلانو، تعليقًا على تسريب تفاصيل خطة عزل أكثر من 16 مليون شخص للصحافة: “ما حدث من تسريب الأخبار تسبب في محاولة العديد من الأشخاص للهروب إلى مناطق أخرى، مما أدى إلى نتائج عكسية لما يحاول المرسوم تحقيقه، لسوء الحظ، سيصاب بعض الذين فروا بالمرض”.
إن امتثال العامة في الصين – قسرًا أو طوعًا – لإجراءات الحجر الصحي الصارمة التي فرضت وطبقت بسرعة قياسية هو المفتاح الأساس لاحتواء انتشار المرض وكسر حلقات انتشار العدوى، فقد منعت السلطات التجمعات وألغت الفعاليات والأنشطة الثقافية والرياضية، وأغلقت المدارس والجامعات والمسارح، وفرضت السلطات الصينية أيضًا الغرامات على من لم يلتزم بإجراءات العزل أو حتى عدم ارتداء الكمامات، إضافة إلى تشييدها مستشفيات ميدانية في أيام فقط لاستيعاب عدد المرضى الكبير.
إن النظام السياسي للصين ساهم في سرعة تنفيذ هذه الإجراءات والتأكد من التزام المواطنين بها، لكنه حتمًا ليس السبب الرئيس، فبعد لمس فعالية التدابير الصينية حاولت أوروبا نقل التجربة لبلدانها لكنها لم تلق نفس النتائج.
إن أنصار النيوليبرالية يحاولون تبرير ضعف استجابة أوروبا في احتواء تفشي فيروس كورونا المستجد، من خلال المقارنة الصماء بين شمولية الصين وديمقراطية أوروبا، غافلين أو متغافلين عن عناصر القوة والضعف الأخرى في كلا النظامين.
لم يخفق النظام النيوليبرالي في أوروبا بعد!
تساءل توني بلير رئيس الوزراء البيرطاني السابق، قبل 8 سنوات، عن مدى فعالية الديمقراطية والفجوة بين قيم الديمقراطية النظرية وتطبيقاتها العملية، قائلًا: “في عالمٍ دائم التغير حيث يجب على البلدان والمجتمعات والشركات التكيف باستمرار لمواكبة التطورات، تبدو الديمقراطية بطيئة وبيروقراطية وضعيفة. وبهذا المعنى، فإنها تفشل في إرضاء مواطنيها”.
يتفق العلماء السياسيون من الناقدين للديمقراطية بأن كل شيء يحدث في الديمقراطية يحدث على نار هادئة وفي بطء شديد، ولقد رأينا هذا جليًا في رد فعل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في مكافحة الفيروس، مع ذلك بالمقابل لم نر هذا التباطؤ المميت في تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، بل وفرت هذه البلدان أنموذجًا يحتذى به لاحتواء تفشي الفيروس.
لكل دولة خصوصيتها حتى إن تشابه نظام حوكمتها مع دول أخرى، في النطاق العريض للفرضية، تبدو مسألة المقارنة بين النظم الاستبدادية والديمقراطية منطقيًا، لكن عند الخوض في التفاصيل وإجراء دراسات المقارنة بين الدول نجد العديد من التناقضات التي تنفي صحة التعميم الأول.
لا تحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى أن تتحول لدول قمعية حتى تنجح في التغلب على فيروس كورونا
يعيد فيروس كوفيد-19 إلى ذاكرة الاتحاد الأوروبي سيناريو الأزمة المالية التي مرت بها منطقة اليورو قبل عشر سنوات، إلا أن هذه المرة لا تستطيع أي دولة في الاتحاد إلقاء اللوم على جارتها وعدم الرضوخ إلى توسلات رئيس وزراء إيطاليا بإنشاء “سند كورونا”، على غرار “سند اليورو” لإخراج الدول الأعضاء من الركود الاقتصادي وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية، لكن الاقتراح لم يلق تأييدًا من الجميع، لتزداد بذلك وتيرة المشاحنات بين الأعضاء في أزمة لا يحلها إلا التعاون والتعاضد.
بعد جدالات واتهامات كثيرة تمكنت دول الاتحاد الأوروبي من وضع خطة موازنة الاتحاد لعام 2020-2027، واليوم أعيد فتح الملف مجددًا مع احتمالات تغير خطة الميزانية نظرًا لتفشي فيروس كورونا الكبير في أوروبا، لعل الفيروس يكون جرس إنذار يساعد الأوروبيين على إعادة النظر في النظام الاقتصادي الحاليّ دون الحاجة إلى تفكيك هذه المنطقة كما يروج بعض المحللين السياسين.
إن شكل وتركيبة الاتحاد الأوروبي مستقبلًا يعتمد على تعاطي أعضائه مع بعضهم البعض ومع باقي اللاعبين الدوليين كالصين وروسيا اللتين لم تتوانيان عن تقديم المساعدات لإيطاليا وإسبانيا، سواء لأغراض إنسانية أم سياسية بحتة، الأهم هو ماذا على الاتحاد الأوروبي فعله حتى ينجو بنفسه في المرحلة الثانية من تفشي فيروس كوفيد-19 بعدما خسر في المرحلة الأولى؟
سياسة التقشف الدائم التي تتبعها الحكومات الأوروبية واقتطاع المبالغ الضخمة من المال العام لإنقاذ الشركات الكبيرة من الدمار الاقتصادي، ترك الأنظمة الصحية الوطنية مهملة وغير مجهزة لاستقبال عدد كبير من المرضى في آن واحد، مما جعلها غير متحصنة أمام أي وباء جائح كهذا الذي نشهده الآن.
ذلك بالنسبة إلى العوائق الاقتصادية، أما عند النظر إلى الناحية الاجتماعية ونمط حرية الأفراد القائم في الاتحاد الأوروبي والأنظمة الديمقراطية عامةً باعتباره عاملًا مشتركًا، سنجد أن معظم الدول الديمقراطية اتخذت إجراءات قاسية تشبه تلك الصينية، ففي إيطاليا مثلًا بعد أن وصلت الأمور إلى حد لا يمكن التهاون به حظرت السلطات مغادرة المنزل باستثناء أسباب العمل والصحة والطوارئ، وإغلاق جميع المدارس والجامعات والمسارح ودور السينما والمتاحف والحانات والمراقص والمطاعم، كذلك الشيء في إسبانيا وفرنسا.
وجدت الحكومات الديمقراطية في بدء الأمر صعوبة في تطبيق هذه التدابير الصارمة حتى أعرب أحد الأطباء الصينين المبعوثين إلى إيطاليا عن مدى استغرابه من تعامل السلطات اللين مع فرض حظر التجوال “إن هذا ليس بإغلاق تام للبلاد هذا تساهل كبير”، لعل هذا مثال على تأثير النظام السياسي على الثقافة والوعي الشعبيين.
إن الحديث عن الحقوق المدنية في أوقات الأزمات له إشكاليات عديدة، فيتحول المواطن صاحب الحقوق والحريات إلى أداة تلبي أوامر الحكومة للوصول للخلاص الجماعي الذي يعد الجوهر في هذه الأوقات، ولا يمكن تقييم الآثار السلبية لهذه الإجراءات إلا بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا، ولعل هنا مكمن الخطر الحقيقي ليس فقط على مواطني الدول الديمقراطية بل على الجميع دون استثناء، فقد استخدمت بعض الدول مثل النمسا وكوريا الجنوبية و”إسرائيل” وغيرهم تقنيات الذكاء الاصطناعي وأجهزة التتبع عن بعد لمراقبة حركة المصابين ومن حولهم، لك أن تتخيل كم المعلومات الهائل الذي تستطيع الحكومات جمعه وكيف يمكن استخدمه بعد مرور الأزمة.
لا تحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى أن تتحول لدول قمعية حتى تنجح في التغلب على فيروس كورونا، بل يمكنها تعويض “ميزة النظم الشمولية” في زيادة مساحة التعاون بين الدول الأعضاء لا غلق الحدود والتعاون على إدارة الأزمات بسرعةٍ من خلال إيجاد مؤسسات مختصة تعمل بشكل يوازي مركزية القرار لدى الأنظمة الشمولية، إضافة إلى تهيئة الناس المسبقة وتدريبهم على التصرف عند الأزمات وتوحيد رسائل الإعلام لصالح مصلحة الاتحاد، ناهيك عما يحتاجه الاتحاد من إعادة هيكلة بعيدًا عن حوار المقارنة بين الديمقراطي والاستبدادي.
كوفيد-19 يمنح العالم فرصة للتعاون
في زمنٍ يعد التباعد الاجتماعي من أهم طرق الوقاية، فإن التقارب السياسي هو العلاج، فقد دعت منظمة الصحة العالمية في أول قمة تعقد عبر الفيديو لزعماء قادة مجموعة دول العشرين، إلى التضامن في مواجهة فيروس كورونا لأنه السبيل الوحيد للقضاء عليه، بدورهم عبر قادة المجموعة بالتزامهم بمواجهة تداعيات الفيروس “بجبهة موحدة”.
إن الأمل ما زال موجودًا وهناك فرصة للتغلب على الجائحة “وإن كانت نافذة هذه الفرصة تضيق تدريجيًا”، كما قال أمين عام الأمم المتحدة.