في مدارس دمشق كان يقف الشاب المسيحي الأرثوذوكسي الأسمر النحيل ميشيل عفلق العائد من السوربون أمام طلابه في دروس التاريخ ليفتنهم بمنطقه وسعة اطلاعه وأفكاره المناهضة للاحتلال الفرنسي، فيهيج مشاعرهم ويسلب عقولهم وألبابهم، كانت المدارس هي ساحة استقطابه لجمعيته التي أسسها في فبراير/شباط 1941 وأسماها “جمعية الإحياء العربي”.
وفي الـ7 من أبريل/نيسان 1947 عقد عفلق اجتماعًا في مقهى الرشيد بدمشق الذي غدا اسمه اليوم مقهى “الهافانا” وأعلن مع صاحب الدراسة والنضال صلاح البيطار إطلاق “حزب البعث العربي” آخذًا التسمية من أبرز مفكري القومية العربية آنذاك زكي الأرسوزي.
بدأت المفاوضات مع الحزب الاشتراكي الذي كان يتزعمه أكرم الحوراني لتصل إلى اندماج الحزبين عام 1952 في حزب واحد غدا اسمه “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي أعلن أهدافه في ثلاث كلمات هي “وحدة، حرية، اشتركية”، أما شعاره الذي يحفظه السوريون عن ظهر قلب فهو “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”.
موقف ميشيل عفلق من الإلحاد والإسلام
لم يكن عفلق سياسيًا فحسب بل كان فيلسوفًا ومفكرًا وأديبًا، وكانت له رؤى فكرية تنظم عمله السياسي، فكان يؤمن بالقومية العربية وهو أبرز منظريها على الإطلاق إلى جانب زكي الأرسوزي.
كان كذلك مناهضًا للشيوعية بوصفها مدرسة فكرية وتوجهًا سياسيًا، وكان يعلن رفضه للإلحاد تحت ستار العلمانية، ويتحدث على الدوام بإيجابية عن رسالة الإسلام بوصفها إحدى مكونات القومية في الأمة العربية.
ويتجلى تناقض عفلق مع أفكاره هذه حين سمح للحزب الشيوعي بالعمل والنشاط بينما حظر الأحزاب والجماعات ذات المرجعية الإسلامية عقب انقلاب عام 1963 في سوريا الذي خطط له وقاده مع رفيقه أمين الحافظ.
موقفه من الانقلابات بين الفكر والممارسة
كان عفلق يعلن رفضه للانقلابات العسكرية، فلما وقع انقلاب حسني الزعيم عام 1949 زج به في السجن فما كان منه إلا أن أرسل إلى الزعيم رسالةً تفيض عباراتها بالتذلل والاعتذار واستجداء العفو ومساندة الانقلاب ووضع نفسه مع الرفاق البعثيين في خدمته، ومما جاء في هذه الرسالة:
“سيدي دولة الزعيم:
إن هذه التجربة الأخيرة قد علمتني أشياء، ونبهتني إلى أخطاء كثيرة، لقد انتهيت إلى أننا بحكم العادة، بقينا نستعمل أسلوبًا لم يعد يصلح في عهد الإنشاء والعمل الإيجابي، والحق أننا في قلوبنا وعقولنا أردنا هذا الانقلاب منذ الساعة الأولى، ولا نزال نعتبر أن واجبنا خدمته وتأييده، ولكن الأسلوب الذي اعتدنا طيلة سنين عديدة، من المعارضة للانتداب والعهد السابق، هو الذي بقيت آثاره في كياننا وبعض تصرفاتنا، وهو الذي أبعد عنكم ـ يا دولة الزعيم ـ حقيقتنا، وأظهرنا بمظهر المعارض لعهدٍ وضعنا فيه كل آمالنا، وصممنا على خدمته بتفانٍ وإخلاص.
سيدي دولة الزعيم:
إنني قانعٌ كل القناعة بأن هذا العهد الذي ترعونه وتنشئونه يمثل أعظم الآمال وإمكانات التقدم لبلادنا، فإذا شئتم فسنكون في عداد الجنود البنائين، وإذا رغبتم في أن نلزم الحياد والصمت فنحن مستعدون لذلك.
سيدي دولة الزعيم:
أنتم اليوم بمكان الأب لأبناء البلاد، ولا يمكن أن تحملوا حقدًا لأبنائكم، ولقد كان لنا في التجربة تنبيه كافٍ ومفيد.
اتركوا لنا المجال لكي نصحح خطأنا، ونقدم لكم البراهين، على وفائنا وولائنا”.
وهنا يناقض عفلق أفكاره ويخالف سلوكه الذي قضى وقتًا طويلًا ينظر له، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد من التناقض الصارخ بين الفكر والممارسة.
ففيما يتعلق بالانقلابات التي طالما أعلن عفلق رفضه لها، كان من أبرز المخططين لانقلاب البعث عام 1963 برفقة أمين الحافظ الذي غدا رئيسًا لسوريا عقب ذلك، ليناقض عفلق من جديد ما يعلنه من أفكار تجاه الانقلابات بسلوك انقلابي دموي.
الحرية والديمقراطية عند عفلق بين النظرية والتطبيق
كان عفلق من أكثر المدافعين عن حرية الرأي والتعبير، ومن أكثر المنظرين للحرية بوصفها منهج حياة ينبغي ترسيخها في الواقع السياسي والاجتماعي، وعندما قامت الوحدة بين سوريا ومصر أصر جمال عبد الناصر على حل الأحزاب، فأصدر ميشيل عفلق بيانًا بتوقيعه لحل حزب البعث جاء فيه:
“في الساعة السادسة من مساء يوم الأحد 23/2/1958 عقد مجلس حزب البعث العربي الاشتراكي بالقطر السوري اجتماعًا استمع فيه إلى بيان القيادة القومية وقرارها بحل فرع الحزب في الجمهورية العربية المتحدة، وبذلك يعتبر حزب البعث العربي في الجمهورية العربية المتحدة منحلًا بكافة منظماته ومؤسساته”.
ليتضح بعد ذلك أن عفلق أصدر هذا البيان دون رجوع إلى الحزب أو استشارته ولم يكن هناك اجتماع للقيادة، ليجسد مجددًا حالة التناقض الصارخ بين الفكر والممارسة في شخصيته المعقدة.
وتجسد هذا التناقض الصارخ مجددًا بين شعارات الحرية ومساندة الاستبداد عندما تعرضت مجموعات من البعثيين للإعدام عام 1979 على يد الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان يحتضن عفلق ويحالفه في مواجهة البعث السوري، فلاذ عفلق بالصمت المطبق على إعدام رفاقه بسبب آرائهم الحزبية، وأقصى ما صدر هو ما ذكرته ابنته في إحدى المقابلات مؤخرًا بأنه كان في البيت يشعر بالألم لما جرى!
ومن تجليات التناقض بين فكره وسلوكه فيما يتعلق بالحرية والديمقراطية أيضًا أنه كان مع صاحبه أمين الحافظ أصحاب القرار في حل ومنع جميع الأحزاب السياسية عقب انقلاب عام 1963 ولم يسمح بالعمل إلا للحزبي الناصري والشيوعي كونهما أعلنا تأييدهما للانقلاب الدموي لحزب البعث ليظهر حجم التناقض الصارخ بين الحرية التي يدعو لها عفلق والحرية التي يمارسها في واقع الحياة السياسية والوطنية.
الشرب من الكأس نفسها
وبالعقلية نفسها تعامل الرفاق البعثيون مع ميشيل عفلق، فبعد انقلاب 1963 لم يعد له أي دور وغدا مجرد صورة ينفذ العسكر من خلالها استبدادهم تحت شعار الحرية وبه يمزقون الصفوف تحت شعار الوحدة ويتفردون بالسلطة تحت شعار الاشتراكية.
في 23 من فبراير/شباط 1966 قاد حافظ الأسد وصاحبه صلاح جديد انقلابًا داخل البعث نفسه، استهدف أمين الحافظ وميشيل عفلق، ليشرب عفلق من الكأس نفسها، كأس الانقلاب تحت ستار من شعارات البعث الرنانة، وليصدر بيانه الشهير والطويل يومها وفي آخره: “ليس هذا حكم البعث، وليست هذه ثورة البعث، ولا الأهداف أهداف حزبنا وشعبنا، ولا الأخلاق أخلاق حزبنا وشعبنا”.
ليهرب عقب ذلك إلى العراق الذي وصل فيه البعث إلى الحكم، ليعيش عفلق في حضنه ويكون صورةً ينفذ الرفاق تحت ظلالها طموحاتهم السلطوية وساديتهم الاستبدادية واستمر كذلك حتى مماته يوم 23 من يونيو/حزيران 1989.
وبقي الرفاق بعده على النهج ذاته يرفعون شعارات الوحدة وهم يمزقون الحزب والأوطان، ويهتفون بشعار الحرية وهم يقمعون بعضهم وشعوبهم بالانقلابات العسكرية ويخنقون الشعوب فلا تستطيع أن تتنفس، ويتبجحون بشعار الاشتراكية فيتفردون بالسلطة وينهبون موارد الأوطان وخيراتها، في أجلى صور النفاق السياسي والتناقض بين الشعار والممارسة.