الأمراض المعدية وسرعة انتشارها تخيفنا، تمامًا كما يمكن للأخبار الخاطئة أن تنتشر بسرعة وتولد الشك بسهولة.
تعتبر دراسة العواطف في الصحافة الجديدة الآن مادةً لا يمكن تجاوزها لفهم طبيعة تأثير العمل الصحفي على الناس، فصناعة الإعلام تحدث تأثيرًا وتغييرًا في كل وقت، وفي حين أن المشاعر أشياء نحسّها كأفراد فإنها يمكن أيضًا أن تكون مشتركة وجماعية تنتشر عبر المجموعات والمجتمعات وتشكل ردود الفعل تجاه حدث ما.
فالخوف مثل المرض ومثل الأخبار الزائفة، معدٍ ويمكن أن ينتشر بسرعة، بينما تزداد مسؤولية الإعلام، الوسيلة الأقوى والأسرع في نشر وإيصال الخبر والمعلومة، في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فكيف لو كانت هذه الأزمة تلعب فيها العاطفة والحالة النفسية التحدي الأصعب في التخطي بأقل قدر من الخسائر.
نال تفشي فيروس كورونا (كوفيد-19) التغطية الإعلامية الأكبر من بين كل الأوبئة التي اجتاحت العالم على مرّ العصور، بما في ذلك تفشي إيبولا الأخير، إذ تظهر دراسة أجرتها مجلة التايمز الأمريكية أن عدد الصحف التي تناولت خبر انتشار الفيروس كان أكثر بـ23 مرةً مقارنةً بالفترة الزمنية نفسها لوباء إيبولا في 2018 وخلال الشهر الأول فقط من تفشي الفيروس.
كيف تابع الإعلام العربي وباء كورونا؟
حاول الإعلام العربي منذ بدء انتشار فيروس كورونا حول العالم نقل الأخبار وتعقب سير الفيروس وانتشاره ومدى جدية تهديده، في الوقت الذي كان لا يزال انتشاره أكبر خارج حدود المنطقة، في الصين وأوروبا ومناطق أخرى، فكان نشاطه ـ حينها – مقتصرًا على نقل أخبار الدول التي تفشى فيها الفيروس والخطط التي تسعى الحكومات لتطبيقها أو فرضها للسيطرة على الوضع.
كما استمرت التغطيات بمتابعة ماهية الفيروس وكيف وصل إلى مرحلة “الجائحة”، مستعينًا بنقل الأخبار عن مصادر موثوقة أو غير موثوقة أحيانًا، الأمر الذي ساهم لاحقًا في انتشار كميةٍ مهولة من المعلومات غير الصحيحة مثل أن انتشار الفيروس نشأ من “شوربة خفافيش” في الوقت الذي ما زال مصدر هذا الفيروس غير معروف حتى الآن، كما تبيّن منظمة الصحة العالمية على موقعها بالإنترنت.
يقول المختصون إنه يمكن أن يكون المرض قد نشأ في مكان آخر إنما اكتشف في الصين.
إذ لم تشر المنظمة حتى الآن إلى أي مصدر للفيروس وبالأخص كونه آتيًا من حيوان الخفاش، بل اقتصر تعريفها على أنه تم تحديد منشأه من سوق اللحوم البرية في مدينة ووهان الصينية، وهو المكان الذي لوحظ فيه الفيروس لأول مرة، بينما يقول المختصون إنه يمكن أن يكون المرض قد نشأ في مكان آخر إنما اكتشف في الصين.
أنتج انتشار وتفشي هذه المعلومات الخاطئة في كل مواقع التواصل الاجتماعي وتناقل الناس لها بالشك مرة والتهكم مرات، عنصريةً تجاه ثقافة الأكل الصينية بل والآسيوية بشكل عام، حتى وصل الأمر إلى التعامل بحدة أو الرفض مع الآسيوين المقيمين في بعض الدول العربية كما رأينا في النموذج أدناه.
بينما كان من المفترض بالكثير من المنصات الاعتماد فقط على تصريحات منظمات الصحة العالمية والمحلية الموثوقة، وأداء المهمة الكبرى التي تقع على عائق الإعلام في هذا النوع من الأزمات، وهي الحدّ من انتشار المعلومة الخاطئة أو تصحيحها على أقل تقدير باستخدام كل أنماط صناعة المحتوى البسيط والمؤثر، بل وتوجيه الناس للاستماع إلى ما تصدره الجهات الطبية والرسمية في الدولة، ففي حالات كثيرة يكون الناس بحاجة ماسة للتوجيه والإرشاد وسط تخبط الكثير من المنصات.
أما عند اقتراب الفيروس من الدول العربية من إيران نحو العراق ولبنان وانتشاره لاحقًا على نطاق أوسع في باقي الدول العربية، كان الجمهور العربي قد شكّل بالفعل صورةً مغلوطة عن ماهية الفيروس، وغاب كليًّا عن الطريقة التي يجب بها التعامل مع هذا الوضع من حجر صحي أو تطبيق تقنية المسافة الآمنة وغيرها من طرق التباعد، نتيجة غياب الاهتمام بالمعلومات المتعلقة بالصحة الجسدية والنفسية أيضًا.
فالمحتوى المنشور صنعه صانعو المحتوى وهواة وليس المختصين، فنتج عنه محتوى مكررًا ولا يصب في هدف ما، وبالتالي انتشر الفيروس أسرع داخل دولنا العربية التي يفتقر أغلبها لنظام صحي قادر على مجابهة وباء كهذا.
يعزى قصور الإعلام العربي في تقديم أفضل ما لديه بالحالة التي عليها الإعلام والصحافة في وطننا العربي.
مهمة وسائل الإعلام تكمن في التوعية بالوباء والحد من التهويل والتهوين الذي يسهم في تصاعد حالة الخوف والهلع، ومن الأجدر الاستعانة بأهل التخصص وإعطائهم المجال للمشاركة في تصحيح وتقديم المعلومة الطبية، من خلال تسخير الشاشات والصفحات لهم كونهم خط دفاعنا الأول أمام هذا الوباء.
تلعب الكثير من الأمور دورًا في الشكل الذي تختاره المنصة الإعلامية للمشاركة في أزمات كهذه، بدايةً من مراقبة القرارات الحكومية ونقدها سعيًا لتحقيق المصلحة العليا أو انتقاء الأخبار والحقائق والإحاطة المطلوبة في التعاطي مع الأخبار السلبية واستعراض الإيجابية منه والمشاركة في صنع التسلية والترفيه بهدف خلق نوع من التوازن بتقديم الحلول والبدائل، إلى جانب نقطةٍ تكاد تكون الأهم في عالم التلفاز الذي شهد عودة جمهوره إليه بعد فرض الحجر المنزلي وحظر التجول في الكثير من الدول حول العالم وهي أسلوب المقدّم أو المذيع في استعراض الأخبار السلبية أو المحزنة، إذ استطاع الإعلام الغربي من خلال مقدّمي الأخبار تقديم صورة أقرب لرباطة الجأش منها للشك أو الحيرة.
فكيف لو كان هذا المذيع يساهم في نشر الهلع أو الخوف عبر حساباته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الذي يتابعه الآلاف متخذين منه مثالًا مؤثرًا.
وفي نفس الوقت، يعزى قصور الإعلام العربي في تقديم أفضل ما لديه بالحالة التي عليها الإعلام والصحافة في وطننا العربي، إذ إن الكثير من الحكومات العربية لا تتعامل ـ حتى الآن ـ بشفافية ووضوح مع منصات الإعلام والتليفزيون فيما يخص أعداد المصابين أو توضيح خططها لوسائل الإعلام للتعامل مع الجائحة.
وسائل الإعلام الأجنبية والدور الذي لعبته خلال الأزمة
على عكس المتوقع، لم يسجل الإعلام الأجنبي موقفًا أفضل بكثير من العربي في تقديم هذه الأزمة لجمهوره، فرغم أنه يصعب رصد تعامل مختلف وسائل الإعلام الغربية وطريقتها في معالجة الأزمة، فإن الأرقام كفيلة بتوضيح بعض زوايا الإخفاق والنجاح.
إذ يشير بحث صغير لكارين وال جورجينسين، وهي مديرة تطوير البحوث والبيئة في كلية الصحافة بجامعة كارديف البريطانية، أن الخوف كان السمة الأبرز في كل وسائل الإعلام الأجنبية في تقديمها لجائحة كورونا المستجد، فمنذ أن نُشر الخبر للمرة الأولى في 12 من يناير، وحتى 13 من فبراير الماضي تم نشر 9387 مقالًا عن تفشي الفيروس، من بينها 1066 مقالًا تطغى عليه سمة “الخوف” أو كلمات ذات صلة بالهلع والتهويل.
على سبيل المثال، استخدم 50 مقالاً عبارة “فيروس قاتل”، ملحق بصور من مدينة ووهان الصينية، فيما تداولها الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت أغلب التعليقات عنصرية تجاه ثقافة الطعام الآسيوي، أما باقي القصص فكانت تنقل صورةً عن أناس يرتدون الأقنعة الواقية بينما يفقدون وعيهم في الشارع، مما أدى لاحقًا إلى تشكك المئات من المواطنين الخائفين الذي يسكنون نفس المنطقة التي تم تداول الصور منها بأنهم مصابون بالفيروس.
ساهمت هذه الأخطاء التي ربما تكون بنظر البعض ممكنة وقابلة للتعويض أو التراجع بأضرار مباشرة على أشخاص كثر.
كما كانت هناك صحف مثل The Sun وThe Daily Mail أكثر استخدامًا للغة التي تثير الخوف، فعلى سبيل المثال تشير مدونة Live Sun Virusavon Coronavirus Live بشكل مباشر للفيروس على أنه “مرض قاتل” رغم أنه يعتبر أقل خطورةً من السارس الذي انتشر عام 2010 حسب منظمة الصحة العالمية.
ساهمت هذه الأخطاء التي ربما تكون بنظر البعض ممكنة وقابلة للتعويض أو التراجع بأضرار مباشرة على أشخاص كثر، فعلى سبيل المثال ذكرت صحيفة مانشستر إيفننج نيوز أن خوف الناس من فيروس كورونا كوفيد -19 عاد بالضرر على الكثير من الشركات الصينية، حيث أبلغت بعض الشركات عن انخفاض بنسبة 50% في عائداتها منذ تفشي المرض نتيجة إحجام الناس عن التعامل معها بناءً على دوافع عنصرية أو عرقية.
سقط الإعلام الغربي كما فعل العربي في عدة اختبارات مهنية وإنسانية وضعتها جائحة كورونا أمامه، وتسبب بأضرار مباشرة وغير مباشرة لأشخاص حول العالم، لكنه حقق أيضًا تنازلات ربحية مادية كبعض المواقع التي تقوم على الاشتراكات المدفوعة، حين جعلت المحتوى المتعلق بالوباء متاحًا للجميع دون الاضطرار للدفع مقابل تصفحه، وبالفعل أنتجت هذه المنصات محتوى ضخمًا وشاملًا رغم إهمالها الجوانب النفسية للمرض أو طرق تقوية المناعة وغيرها.
على الهامش.. هل أثّر الوباء على الإعلام؟
يناقش الكثيرون في كل مكان من علماء اجتماع وخبراء اقتصاد ومراقبين، مدى التأثير الذي سيتسبب به هذا الوباء على العالم أجمع، مقدمين العديد من الأطروحات والافتراضات التي يمكن للعالم أن يبدو عليها، ابتداءً من النظام الصحي والسياسي وحتى مدى تأثيره على عادات البشر لاحقًا بتغييره لشكل التواصل الجسدي على وجه الخصوص.
بينما نتساءل هنا عن ما إذا كانت مهنة الإعلام والصحافة سينالها جزءًا من هذا التغيير، وبالفعل، يمكن القول إن الإعلام اليوم يعتبر من أول المجالات التي تشهد تغييرًا حقيقيًا.
ففي تقرير لكريغ سيلفرمان، صحفي ومحرر بصحيفة “باز فييد نيوز” يقول إن الكثير من المواقع الإخبارية التي تبثّ عبر الإنترنت تشهد ازديادًا كبيرًا في عدد الزيارات اليومية من القرّاء نتيجة قضاء الناس أوقاتًا أكثر في تصفح الإنترنت وقراءة المحتوى الطويل، بينما تعاني هذه المواقع من تراجع حركة الإعلان والدعاية فيها.
من الواضح أن هذا الوباء يحمل في طياته الكثير من التحديات الاقتصادية والمهنية، حتى يثبت الإعلام قدرته كمهنة في المحافظة على السمة الإنسانية المتأصلة به.
وحسب شركة Fisco فإن الاشتراكات – التي تمثل أكثر من 60% من عائدات الشركة – ترتفع، لكن الإيرادات لا تعوض الانهيار التام للإعلانات، ومن غير الواضح ما إذا كان هذا الوضع سيعود إلى وضعه الطبيعي بعد انتهاء أزمة الوباء أم لا.
الأمر الذي يمكن أن يتسبب لوسائل الإعلام الإخبارية بأزمة أسوأ من الأزمة المالية لعام 2008 التي شهدت انخفاضًا في الإيرادات بنسبة 19%، وفقًا لمحلل صناعة الأخبار في موقع أخبار الاقتصاد “Newsonomics” الدكتور كين، الذي قال: “إنها أزمة للصحف والمواقع “أسوأ مما كانت عليه عامي 2008 و2009″، متوقعًا “سنرى للأسف المزيد من الصحف المغلقة، والمزيد من الفراغ في الصحافة نتيجة لذلك”.
من الواضح أن هذا الوباء يحمل في طياته الكثير من التحديات الاقتصادية والمهنية، حتى يثبت الإعلام قدرته كمهنة في المحافظة على السمة الإنسانية المتأصلة به، ونهايةً، إدراك مدى تأثير كل كلمة تُكتب في مقال أو خبر أو فيديو هو ما يجب وضعه نصب عيني كل صحفي أو صانع محتوى في هذا الحقل، فالخوف سيجعل المتلقي يشعر بالذعر ومن ثم سيدفعه لفعل أشياء أسوأ كتعميم الشائعات أو الوقوع فريسةً لها أو إلقاء اللوم على مجموعة معينة ومعاملتها على هذا الأساس.