قبل أيام، ورغم توجه أنظار العالم إلى تداعيات انتشار جائحة فيروس كورونا ـ كوفيد 19-، فإن دولة موزمبيق جذبت اهتمامات الكثيرين بعدما أعلن تنظيم “داعش”، مسؤوليته عن الهجوم المسلح في شمال البلاد، بالقرب من موقع مشروعات للغاز بقيمة 60 مليار دولار، تطورها شركات كبرى منها إكسون موبيل وتوتال، ما يستدعي تحليل الصورة، لماذا موزمبيق الآن؟ وما سر العمليات المجاورة لحقول الغاز؟
قبل سرد تقدم موزمبيق بشكل هائل على خريطة العالم في الدول الواعدة باكتشافات الغاز، يجب الإشارة إلى أن السلطات في البلد الإفريقي أكدت طرد مسلحي تنظيم الدولة الذين هاجموا بلدة موسيمبوا دا برايا وسيطروا لفترة قصيرة على بعض المناطق بما فيها ثكنات عسكرية لبعض الوقت، قبل طردهم منها بعد الهجوم بيوم واحد فقط، الذي أعلنه التنظيم عبر وكالة أعماق للأنباء التابعة له، التي زعمت أن العشرات من جنود الجيش وضباط الشرطة سقطوا بين قتيل وجريح.
ويبدو أن تنظيم الدولة يراقب عن كثب كما غيره، ما يحدث من تطورات في هذا البلد الإفريقي وتطورات عمليات اكتشاف النفط فيه التي تتخذ أبعادًا أخرى منذ ظهور نتائج عمليات الحفر الاستكشافية الأولية عام 2007، التي أكدت تغير أحجام الغاز الطبيعي البحرية، بما يضع موزمبيق في المرتبة الرابعة لأكبر مصادر الغاز الطبيعي في العالم، وتصبح بذلك قوة عظمى للطاقة في الكوكب.
كيف تغير الوضع؟
قبل هذه النتائج، لم يكن معروفًا عن موزمبيق أن لديها موارد ملموسة في هذا القطاع يمكن الاستناد إليها، ولكن بدأ الوضع يتغير فور إصدارها تراخيص التنقيب البحري لشركة أناداركو الأمريكية، وسرعان ما ظهرت الاكتشافات، ومع المزيد من الحفر أصبح من الواضح أن مياه موزمبيق، وخاصة حوض روفوما، تحتوي على احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي عالي الجودة.
وتختلف تقديرات حجم هذه الاحتياطات، بعضها تنبأ بـ100 تريليون قدم مكعبة من احتياطات الغاز الطبيعي المؤكدة، ما يعني أن اقتصاد الهيدروكربون المزدهر في موزمبيق سيخلق ثروة من فرص العمل والعقود للمغتربين والعمال المحليين على حد سواء، فضلًا عن خلق مجموعة واسعة من الفرص عبر دورة حياة النفط والغاز أيضًا، من مشروعات الإنتاج البحرية الخارجية، وصولاً إلى مشروعات التكرير النهائية، وجميع المراحل ستوفر آلاف الوظائف المتاحة خلال العقد القادم.
مثل العديد من البلدان الأخرى التي وجدت فجأة موارد طبيعية غنية ووفيرة داخل حدودها، تحاول موزمبيق بذل جهود استباقية لضمان استفادة السكان المحليين والشركات، وتم بالفعل تنفيذ حزمة سياسات تعرف باسم “إستراتيجية المحتوى الوطنية”، لتطوير عمليات البنى التحتية، وكان لافتًا المساعدة الجادة من المؤسسات الإفريقية وخاصة مجموعة البنك الإفريقي للتنمية التي منحت موزنبيق تسهيلًا ائتمانيًا أو قرضًا قدره 400 مليون دولار، لدعم إنشاء مصنع للغاز المسال، ضمن تحالف استثماري ضم شركات توتال العالمية وأويل إنديا وأورنج جي فيديش المحدودة وشركة النفط والغاز الوطنية بموزنبيق العام الماضي.
تتدخل الجهات المانحة الدولية، بشكل غير أمين في الأوضاع داخل البلاد
المشروع الاستثماري الأكبر على مستوى إفريقيا الذي يأخذ طابعًا عالميًا، سيتم التعاون لإنجازه مع عدد من البنوك العالمية والتجارية ومؤسسات تمويلية لتوفير الائتمان الملائم للمشروع، لا سيما أن الاكتشافات الموزمبيقية الجديدة تتماشى مع الأولويات الإستراتيجية الخمسة العليا للبنوك التي تركز على توطين التصنيع في إفريقيا ودعم قطاع الطاقة النظيف وتحسين نوعية الحياة للأفارقة وتوفير فرص عمل للشباب والمرأة وإتاحة الفرص للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، بما يدعم التأثير الإيجابي على استقرار الاقتصاد الكلي وديناميات التكامل الإقليمي الشامل.
إرث الاستعمار والحرب الأهلية
عانت موزمبيق من الفقر المدقع كثيرًا بسبب الهيمنة البرتغالية الطويلة التي سيطرت على موارد البلاد، وبعدها فجرت الحرب الأهلية الدامية بين مقاتلي الاستقلال السابقين لفريليمو ـ الحزب الحاكم حاليًّا ـ وقوات المتمردين المعرفة باسم رينامو، بدعم جزئي من جنوب إفريقيا، التي انتهت باتفاقية سلام برعاية الأمم المتحدة عام 1992، وضعت حدًا للقتال الدائر بين الطرفين.
عام 2004 تنحي الرئيس يواكيم تشيسانو بعد 18 عامًا في منصبه، وجاء خلفه أرماندو جوبوزا ليقضى فترتين فقط ورحل ليأتي رئيس آخر، ورغم هذه الملامح الديمقراطية، فإن القوات المسلحة انخرطت بشكل متقطع في تمرد منخفض المستوى منذ عام 2012، وساد نوع من التوتر المسلح على مدار أربع سنوات لاحقة، وتجدد عام 2018، بعد تعديل دستوري، نقل بعض الحكم إلى المحافظات، وكانت أكثر المناطق توترًا مقاطعة كابو ديلجادو الشمالية التي شهدت موجات من التطرف العنيف منذ نهاية الحرب الأهلية.
بجانب ذلك كان واضحًا أن الجهات المانحة الدولية تتدخل بشكل غير أمين في الأوضاع داخل البلاد وتورط بعضها في تدخلات سياسية، فضلًا عن برامج التكيف سيئة السمعة في صندوق النقد الدولي التي حاولت تطويع الاحتياطي الجديد للغاز المكتشف في موزمبيق والتحكم في عوائده وأولوية الصرف من أرباحه التي قد تصل إلى مئة مليار دولار، أي نحو ثلاث مرات من الناتج القومي الإجمالي للبلاد، كما يتوقع الخبراء زيادة الدخل القومي على مدى السنوات الثلاثين القادمة إلى نحو 500 مليار دولار من الضرائب الإضافية بفضل الغاز، مما يعني نقل البلاد من أسفل درجات مؤشر التنمية للأمم المتحدة إلى وضع بلد متوسط الدخل.
يتعرض سكان القرى للترهيب من السلطات الموزمبيقية، مما أشعل صراع قوى داخل المجتمع
هذه العقبات عرقلت البدء في تصدير الغاز اعتبارًا من عام 2018 فصاعدًا، ولهذا تحولت الأنظار إلى عام 2023 أو حتى وقت لاحق، خاصة أن شركة إيني الإيطالية العملاقة أفصحت عن رغبتها في بناء منصة للغاز الطبيعي المسال العائم أولًا، بقيمة 7 مليارات دولار على بعد 40 كيلومترًا من الساحل، في الوقت الذي أبرمت فيه شركة أناداركو الأمريكية اتفاقية هي الأخرى مع حكومة موزمبيق، وعطلتها بحجة انتظار الضوء الأخضر حتى الانتهاء من المفاوضات مع مشتريي الغاز المحتملين.
عقبات تقف في طريق تطوير موزمبيق
ليس سهلًا على البلاد النامية التخلص من الإرث الطويل للصراع بمجرد تغّير مصادر الدخل، ولهذا لا يمكن لموزمبيق نسيان تاريخها الطويل في إعادة التوطين القسري الذي بدأ خلال الحقبة الاستعمارية وأصبح الحل الأسهل الآن لإفساح الطريق أمام بناء المشاريع الضخمة الحديثة مثل مناجم الفحم، الأمر الذي استلزم إعادة توطين المجتمعات القروية، بما أثار مشاكل كبرى في البلاد، خاصة أن الحكومة تلجأ للعنف المفرط وتعالج القضايا بأساليب غير شفافة.
يتعرض سكان القرى للترهيب من السلطات الموزمبيقية، مما أشعل صراع قوى داخل المجتمع وأحدث فجوة بين القادة والسكان وأثر بشكل أو بآخر على عمل الشركات الدولية، ولهذا طلبت شركتا إكسون موبيل وتوتال من موزمبيق، إرسال المزيد من القوات لحراسة عملياتهما في أقصى شمال البلاد بعد تصاعد الهجمات الإرهابية ضدهم، لا سيما إقليم كابو ديلجادو بشمال موزمبيق الذي يضم أحد أكبر اكتشافات الغاز في العالم خلال السنوات العشرة الأخيرة، الذي شهد توترات كبيرة أسفرت عن مقتل 300 مدني وتهجير الآلاف، وأرجعت الدولة المسؤولية إلى تنظيم “داعش”، لكن خبراء كثيرين يشككون في مدى نفوذه في المنطقة ومسؤوليته عن الأحداث والتوترات الأمنية في البلاد!
كل هذه المعطيات تؤكد أن توقعات الثراء عالية للبلاد بالفعل، ولكن المخاطر أيضًا، لا سيما أن موزمبيق أصبحت تعاني مما يسمى “لعنة الموارد”، وهي متلازمة تحدث دائما للبلدان النامية التي تملك فجأة موارد طبيعية كبيرة، ولكن لا تظهر لذلك أثرًا اقتصاديًا يُذكر ويتزايد عدم المساواة والصراع المسلح والفساد، مما أجبر الحكومة على إجراء عدة تخفيضات في الميزانية، بعدما أصبحت غير قادرة رغم كل هذه الثروات على سداد ديونها الوطنية والخارجية المتزايدة بسرعة، بل ولن يكون ممكنًا الوصول إلى أموال صندوق النقد الدولي المشروطة، بسبب قروض تبلغ قيمتها نحو ملياري دولار، كانت الحكومة قد حصلت عليها سرًا، دون أن تعلن عنها في الإعلام، مما فجر أزمة كبرى.
كما تواجه موزمبيق تحديات أخرى، تتلخص في التخمة التي أصابت أسواق الغاز الطبيعي المسال عالميًا، بعد التوسع الدولي في أستراليا وقطر ومصر بالإضافة إلى الغاز الصخري الأمريكي، مما يدفع الأسعار إلى مزيد من الانخفاض، في الوقت الذي وضع فيه فيروس كورونا، السوق العالمي على حافة الانهيار، بعدما تعرض الطلب على النفط والغاز إلى ضربة قاسية للغاية والخسائر مرشحة للزيادة خلال الأسابيع القادمة.
صراع
رغم كل هذه التحديات التي توجه عملية التحديث في موزمبيق، فإنها تبقى “كعكة” شهية للأطماع الدولية، وهو ما يفسر استمرار عمل الشركات الأجنبية المختلفة في مناطق اكتشاف الغاز الطبيعي، في ظهور متزامن للجماعات المتشددة التي أصبحت تهاجم كل مناطق البحث عن الطاقة التي تعمل بها شركات أجنبية، بأعلى مستوى من التنظيم، ما يدعو للغرابة والريبة في الوقت نفسه.
بحسب أوليفييه غيتا المدير الإداري لشركة جلوبال سترات، تعاظمت قوة “جماعة الشباب”، وهي جماعة أخرى مختلفة عن الجماعة المتشددة في الصومال، تمكنت من تطوير قدراتها خلال السنوات الأخيرة، ليصل عدد أفرادها إلى أكثر من 1500 مقاتل، مع تكثيف هجماتها ضد أهداف في الدولة، بلغت أكثر من 370 هجومًا، منذ هجومها الأول على مركز للشرطة في عام 2017، ونتج عن هذه الأحداث ما يقارب 1000 قتيل.
وتكمن خطورة الوضع في موزمبيق وفق ما يقول غيتا، بأن جماعة الشباب “تمكنت من إقامة روابط مع الميليشيات المتشددة في الصومال وتنزانيا وكينيا، ويحدث ذلك رغم وجود اتفاقيات أمنية مع تنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا، من أجل إنشاء قيادة عسكرية إقليمية ونقل المزيد من القوات إلى الشمال.
المثير في الأمر أن الشرطة التنزانية، كانت تمنع المتشددين المشتبه بهم من العبور إلى أي منطقة غنية بالغاز في موزمبيق، وخاصة منطقة “كابو ديلغادو”، إحدى أفقر مناطق موزمبيق، رغم غناها بالموارد المعدنية غير المستغلة التي تسيطر عليها شركة “إكسون موبيل”، ما يفتح الباب لكل التكهنات لقراءة المشهد، فالأسهل دائمًا اتهام التنظيمات المتطرفة بالمسؤولية عن كل شيء، ولكن الأصعب تفكيك منظومة الفساد والتصدي للأطماع الدولية وإنصاف المواطن!