ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال زيارة أجراها الصيف الماضي، عرض ولي عهد أبوظبي بناء مسجد كبير على أراضي مضيفه جوكو ويدودو، عندما كان يتجول في الحدائق الاستوائية بجوار القصر الرئاسي الصيفي في إندونيسيا. وقد بدا ذلك بمثابة لفتة سخية بعد أن عقد الرجلان صفقة أكبر في غضون أشهر، ليُعين الحاكم بحكم الأمر الواقع لدولة الإمارات العربية المتحدة على رأس اللجنة التوجيهية الخاصة بإنشاء العاصمة الإندونيسية جديدة، التي تقدر تكلفتها بنحو 34 مليار دولار.
كانت هذه الخطة ذات أبعاد استراتيجية هامة. يعد الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، المعروف باسم جوكوي، حريصًا على إيجاد مستثمرين في برنامج طموح للبنية التحتية بقيمة 400 مليار دولار. ويتطلع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى توسيع حضور بلاده في الأسواق الآسيوية سريعة النمو. ولكن كان لديه المزيد من الأهداف الأخرى.
منذ اجتماعهما خلال الجولة التي أداها جوكو ويدودو في الشرق الأوسط قبل خمس سنوات، أصبح الزعيمان صديقين راسخين، لتنشأ بينهما علاقة شخصية نادرا ما تنشأ بين رؤساء العالم تتجاوز التعاون الاقتصادي نحو إعادة رسم خريطة التحالفات السياسية. حيال هذا الشأن، قال وزير تنسيق الشؤون البحرية والاستثمار لدى جوكو ويدودو، لوهوت بانجايتان: “اجتمع الزعيمان ليُعربا عن مشاعر الأخوة التي تربطهما”.
تخلق هذه العلاقة معطى جديد ومهم في اللغز الجيوسياسي المعقد في جنوب شرق آسيا، حيث تقلل الولايات المتحدة من وجودها في المنطقة وتبحث الدول عن شركاء لتعويض النفوذ المتنامي للصين. وتُقدّم الدولة الخليجية الغنية بالنفط لإندونيسيا بديلاً عن المملكة العربية السعودية، شريكها التجاري الرئيسي في الشرق الأوسط، أكثر انسجاما مع أهداف جوكو ويدودو السياسية.
تعد إندونيسيا موطنًا لأكبر عدد من المسلمين في العالم. ومن أصل 265 مليون نسمة، فإن 225 مليون يعتنقون دين الإسلام ومعظمهم من السنة الذين يمثلون الأغلبية في كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. يعتبر كل من جوكو ويدودو والشيخ محمد بن زايد آل نهيان معتدلين وهما يعارضان تأثير الإسلام السياسي الذي فرض نفوذه على بعض الأجزاء من العالم الإسلامي. في هذا السياق، أفاد مسؤول في وزارة الخارجية الإماراتية بأن “البلدين لديهما قيم متشابهة عندما يتعلق الأمر بالتسامح الديني والحاجة إلى اتخاذ إجراءات صارمة لمكافحة الإرهاب”.
حجاج مسلمون يستقلون طائرة في مطار السلطان إسكندر مودا، الواقع في آتشيه في شهر تموز/ يوليو 2019.
أوضح المحلل السياسي كيفن أورورك، الذي ينشر النشرة الإخبارية التي تركز على إندونيسيا في “ريفورماسي ويكلي”، إن “العلاقات التي تربطها إندونيسيا مع الشرق الأوسط ككل تشوبها المشاكل في الوقت الحالي”. وأضاف أورورك أن “هناك بالتأكيد مجالا لإعادة تعريف العلاقة بين المنطقتين وتصل إلى مستوى صحي أكثر”.
تعد اللمسة الشخصية للشيخ محمد من بين الأسباب التي تفسر العلاقات القوية بين الزعيمين، حيث أشاد سكرتير مجلس الوزراء الإندونيسي برامونو أنونج بـ “المودة” التي تجمع بين الشيخ الإماراتي والرئيس الإندونيسي، لدرجة تناول وجبة غدائه مع جوكوي في مكان عام. كما أعجِب المسؤولون الإندونيسيون بمدى استعداد الإمارات لمتابعة الاتفاقات. فبعد أيام من العرض الذي قدمه الشيخ محمد، رئيس صندوق الثروة التابع لشركة “مبادلة” للاستثمار في أبوظبي الذي تبلغ قيمته 232 مليار دولار، بشأن بناء المسجد، وصل المسؤولون لاستكشاف المواقع المناسبة.
خلال شهر تموز/ يوليو، جاء دور جوكوي، حيث استضاف الشيخ محمد في القصر الذي يعود تأسيسه إلى القرن التاسع عشر في مدينة بوغور، التي تقع في ضواحي جاكرتا. سار الاثنان في الحدائق النباتية واستقلا معًا سيارة ليموزين. كما توصلت الشركات التابعة لكلا الجانبين إلى اتفاقات بقيمة 9.7 مليار دولار من بينها 12 اتفاقية تعاون مُوقّعة في العديد من المجالات الصناعية بدءا من الصناعة وصولا إلى الغاز.
جوكو ويدودو وهو يمشي مع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في قصر بوغور خلال شهر تموز/ يوليو 2019.
إلى جانب توطّد العلاقات بين القائدين، تعززت العلاقات الاقتصادية بين الدولتين أيضا. في 12 شهر كانون الثاني/ يناير، تعهدت دولة الإمارات العربية المتحدة بضخّ 22.8 مليار دولار في صندوق إندونيسيا لمشاريع البنية التحتية، إلى جانب صفقات الطاقة التي أُبرمت بين شركة بترول أبوظبي الوطنية وشركتي الطاقة الإندونيسيتين بيرتامينا وتشاندرا أسري. بعد ذلك بيوم، وقع تعيين ولي العهد رئيسًا للجنة التي ستُشرف على تطوير العاصمة الإندونيسية الجديدة، التي من المحتمل أن تكون من أكثر المشاريع الحضرية الرائدة في العالم.
في هذا الإطار، أشارت الخبيرة الاقتصادية السياسية في مركز الدراسات الآسيوية الذي يقع في جاكرتا، أسمياتي مالك، إلى أن “السبب الرئيسي لتعيين ولي العهد الإماراتي ليكون أحد مستشاري العاصمة الجديدة هو جذب الاستثمار، لا سيما في مجال الطاقة”. وأضافت مالك أن “التعهّد الذي أمضته الإمارات خلال شهر كانون الثاني/ يناير يعد التزاما طويل الأجل”. وبالنسبة للإمارات، التي تتطلع إلى تنويع اقتصادها وتعزيز مكانتها كمركز للتجارة والخدمات اللوجستية على المستوى العالمي، تُقدّم إندونيسيا المكتظة بالسكان فرصة استثمارية كبيرة وبوابة لدخول آسيا.
جوكو ويدودو يتحدث مع توني بلير وماسايوشي سون في جاكرتا في 28 شباط/ فبراير.
عاصمة الأدغال
يسعى جوكوي إلى إنشاء مدينة تتسع لسبعة ملايين نسمة في أدغال جزيرة بورنيو، على بعد أكثر من 1200 كيلومتر من المقر الحالي للحكومة في جاكرتا. وتضم اللجنة التوجيهية أيضًا المدير التنفيذي لشركة “سوفت بنك” ماسايوشي سون، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير.
لا يمكن إنكار المشاكل التي تمر بها مدينة جاكرتا. تعاني المدينة من الاكتظاظ السكاني، حيث يقطنها ما يصل إلى 35 مليون نسمة في الضاحية الشاسعة التي تمتد حول المدينة. كما أنها معرضة لخطر الفيضانات بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر. وبناء على ذلك، ستكون مقاطعة كالمنتان الشرقية الغنية باحتياطات الفحم والغاز العاصمة الجديدة، حيث لم تحل مزارع زيت النخيل محل آلاف الكيلومترات المربعة من الغابات المطيرة.
منذ الإعلان عن الخطط في آب/ أغسطس، نظمت حكومة جوكوي مسابقة للتصميم والتخطيط لاستئناف أعمال البناء هذه السنة. ومن المتوقع أن تنتقل الحكومة المركزية في غضون خمس سنوات. فضلا عن ذلك، لا يزال ينبغي وضع الصيغة النهائية للتفاصيل المتعلّقة بصندوق الاستثمار خلال انعقاد البرلمان الإندونيسي. ومن جهته، قال السفير الإندونيسي لدى دولة الإمارات، حسين باغيس إن هذا المخطط تأخر بسبب جائحة فيروس كورونا، ولكن لا بد من المضي قدمًا في الأسابيع المقبلة. وقد قال الجانبان إن الوباء وهبوط أسعار النفط لن يقفا عائقا أمام تنفيذ خططهما. ونوهّه باغيس بأنه “لا يوجد فرق بين الوضع ما قبل الفيروس والوقت الحاضر”.
سكان يعبرون جسرًا في قريتهم كابوك تيكو، المحاطة بالمياه الراكدة، في جاكرتا، آب/ أغسطس 2019.
تقدم الإمارات العربية المتحدة، التي سرعان ما جعلت من دبي وأبوظبي من المدن الحديثة، الخبرة الحضرية بالإضافة إلى المال. وقد كانت شركة “إعمار” العقارية المطور الرئيسي لمدينة الملك عبد الله الاقتصادية السعودية المُطلة على البحر الأحمر، في إطار مشروع يعادل حجم واشنطن العاصمة أُعلن عنه في سنة 2005 ولا يزال قيد التطوير. إلى جانب ذلك، تخطط دولة الإمارات العربية المتحدة لبناء مستوطنة على كوكب المريخ بحلول سنة 2117.
لكن أهدافها الأرضية خارج حدود الإمارات لا تتحقق على الدوام. فعلى سبيل المثال، لم تتحقق خطط رئيس شركة “إعمار” محمد العبار لقيادة عملية إنشاء عاصمة جديدة بقيمة 45 مليار دولار بالقرب من القاهرة. ويقع تشييد هذه المدينة من قبل الشركات المحلية بعد أن فشلت الحكومة في إنهاء الاتفاقيات الأولية مع المستثمرين الدوليين.
تنتشر مناجم الفحم في الطبيعية في هذه الصورة الجوية التي التُقطت في شرق كالمنتان، بورنيو، تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2019.
دعوة السعودية
دُعيت المملكة العربية السعودية أيضا للاستثمار في صندوق إندونيسيا المقترح، الذي من شأنه أن يوفر المال لتشييد العاصمة الجديدة، ولكن العلاقات بين البلدين تراجعت في السنوات الأخيرة. وفي حين تعتبر المملكة العربية السعودية الشريك التجاري الثالث عشر لإندونيسيا، فإنها احتلت المرتبة 40 في سنة 2018 من حيث الاستثمار الأجنبي. وفي سنة 2017، أعرب جوكوي علنًا عن خيبة أمله لأن المملكة العربية السعودية فضلت الاستثمار في الصين بدلا من إندونيسيا خلال جولة الملك سلمان الآسيوية.
استمرت الروابط في الاضمحلال في أعقاب مقتل المعارض السعودي المقيم في الولايات المتحدة جمال خاشقجي في سنة 2018 وإعدام السعودية لمعينة منزلية إندونيسية. وفي سنة 2019، ألغى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان فجأة المحطات الإندونيسية والماليزية من جولته الإقليمية.
حسب مالك “حاول جوكوي إنشاء شراكة قوية مع الإمارات العربية المتحدة بدلاً من السعودية”. ولكن الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا لا تتمتعان بعد بسجل حافل فيما يتعلّق بالتعاون الاقتصادي، كما أكد أورورك أن التأثير المترتب عن حالة الطوارئ التي سببها فيروس كورونا قد يؤدي إلى تأخر خطط تشييد العاصمة الجديدة إلى ما بعد انتهاء فترة ولاية جوكوي الرئاسية، تاركا مستقبلها بين يدي خلفه.
في الوقت الحالي، لا تزال إدارة جوكوي تعمل على التمويل. وحسب ما نشره على فيسبوك، سافر بانجايتان إلى واشنطن للقاء جاريد كوشنر، مستشار وصهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد لقائه مع مسؤولي الإمارات العربية المتحدة في أيلول/ سبتمبر. وفي وقت لاحق، أفادت الحكومة الإندونيسية بأن شركة تمويل التنمية الدولية الأمريكية ستشارك دون تحديد نسبة استثمار.
خلال زيارة أداها إلى أبو ظبي في شباط/ فبراير، قال آدم بوهلر، الرئيس التنفيذي لشركة تمويل التنمية الدولية، عندما التقى بالشيخ محمد بن زايد: “لديك إدارة تقول إنها تريد القيام بخطط لفتح السوق. إن هذا الأمر يجذب الولايات المتحدة بالفعل، وأعتقد أنه يجذب الإمارات العربية المتحدة أيضا”.
المصدر: بلومبرغ