عن عمر يناهز الـ 89 عامًا، رحل وزير الأوقاف المصري الأسبق، الدكتور محمود حمدي زقزوق، عضو هيئة كبار العلماء، وأحد أبرز العقول المصرية المتعمقة في دراسة الفلسفة الإسلامية، تاركًا خلقه إرثًا كبيرًا من المؤلفات والدراسات والأوراق البحثية التي أثرى بها المكتبة الإسلامية.
ويعد زقزوق، آخر وزراء الأوقاف في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك (1996-2011) أحد أبرز الوزراء المثيرين للجدل في المحروسة، جرًاء المواقف والقرارات التي أقدم عليها خلال توليه الوزارة، وكانت مثار الشارع المصري الذي انقسم بشأنها ما بين مؤيد ومعارض.
خاض الرجل قبل رحيله معركة ضارية مع بيته القديم، وزارة الأوقاف، وذلك على هامش النزاع على فيلته (منزل فخم) بالتجمع الخامس بالقاهرة، وهي المعركة التي خسرها وألقت بظلالها القاتمة على أجواء العلاقة بينه وبين الوزارة، رغم تدخل بعض المقربين للوصول إلى حل وسط للأزمة.
نعاه الإمام الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، قائلاً: “فقد الأزهر وجامعات العالم كلها اليوم عالمًا ومفكرًا إسلاميًّا كبيرًا أثرى المكتبة العلمية بمؤلفاته القيِّمة التى طالما تغذت عليها عقول الباحثين وأقلامهم في الشرق والغرب، وقد ترك مسيرة علمية وعملية سيذكرها التاريخ بكل فخر، بدأها في معهد أزهري ثم جامعة الأزهر وجامعات أوروبا وختمها عضوًا فى هيئة كبار العلماء ومفكرًا ملأ الدنيا بفكره وعلمه”.
الوزير المثير للجدل
على مدار 15 عامًا قضاها زقزوق في رحاب وزارة الأوقاف بوسط القاهرة، أصدر خلالها عددًا من القرارات أثارت موجات جدل كبيرة، اتهم على إثرها تارة بالعلمانية ومحاربة الدين، وتارة أخرى بموالاة النظام الحاكم على حساب شرع الله، وهي التهم التي كان لها دورًا مؤثرًا في مكانة الرجل لدى الشارع.
ورغم تعدد قراراته المثيرة للجدل إلا أن هناك خمسة قرارات كانت الأكثر حضورًا في مسيرته.
البداية كانت في 2007 حين حققت الدعوة السلفية انتشارًا كبيرًا بين أوساط المصريين على خلفية ظهور عدد من رجال الدين المشاهير، على رأسهم محمد حسان وحسين يعقوب وأبو اسحق الحويني، حينها كانت المساجد تزخر بالمصلين بصورة لم يسبق لها مثيل، وهو الأمر الذي أثار حفيظة رجال الأمن في ذلك الوقت.
ومع قدوم رمضان ذلك العام فوجئ المصريون بقرار وزاري يلزم الراغبين في الاعتكاف بالمساجد تسجيل بياناتهم وبطاقاتهم الشخصية، وهو الأمر الذي فسره البعض بمحاولة ترهيب المصلين وتخويفهم من ممارسة طقوسهم الدينية، خاصة بعدما بات الاعتكاف في هذا الوقت ظاهرة ملموسة.
وفي 2009 أصدر قرار بتوحيد الأذان في المساجد المصرية، القرار الذي أغضب الكثيرين ممن رأوا فيه محاولة لتنميط الدين وإخضاعه لإرادة الدولة، وفي نفس العام أيضًا دعا المسلمين لزيارة القدس والمسجد الأقصى رغم سيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلي، الدعوة التي اعتبرها البعض تطبيعًا مقنعًا.
وفي 2010 واصل الوزير الراحل جهوده نحو تشديد الرقابة على المساجد، لاعتبارات وصفت وقتها بالأمنية، حيث أصدر قرار بإغلاق المساجد الصغيرة (الزوايا) في جميع محافظات البلاد خلال صلاة الجمعة، هذا بجانب تركيب كاميرات داخل المساجد وعلى أبوابه، ما كان له أسوأ الأثر في نفوس المصلين.
رؤيته لقضية التراث
كان لزقزوق رؤية وسطية فيما يتعلق بالموقف من التراث، ففي ظل الحملة التي تعرض لها التراث الإسلامي من رموز العلمانية في مصر، كان موقف الرجل جليًا بشأن ضرورة التمسك بتراث الأمة وإن لم يستنكر جهود التطوير والإبداع وفلترة الموروث من المسائل التي لا تتناسب والعصر الحالي.
ففي محاضرته التي ألقاها على هامش مؤتمر “قراءة التراث الإسلامي” الذي عقد في القاهرة في مارس 2018، أكد الوزير الراحل أن التراث لا يمكن التخلي عنه ولكن يمكن تنميته، قائلًا كلماته الشهيرة “التراث كالميراث، فمن يرمي تراثه يوصف بالمجنون، ومن يبدده أحمق، ومن ينميه ويحافظ عليه هو العاقل”.
وأضاف الرجل في المحاضرة التي عنون لها بـ “علاقة العقل بالنقل: نظرة جديدة”: “لسنا مع الاستغناء عن التراث وتبديده، لكننا نريد أن ننميه كما يفعل العاقل، وهناك طرف آخر يريد أن يلغي التراث تمامًا، فنحن لو احتفظنا بالتراث دون إضافة فنحن بذلك نحنطه كما نحنط الأموات”.
كما أكد أن التراث به علم غزير، ولكن به جوانب سلبية، وليس هناك عيب في ذلك، فلابد أن يكون هناك نظرة علمية فاحصة، فنظرتنا للتراث يجب أن تكون متوازنة، مضيفًا أن هناك أزمة في الفكر الإسلامي، أحد أوجهها هو تعاملنا مع التراث فلا يوجد هناك تبديد، والتبديد كفر وخروج عن الإسلام.
وحذر زقزوق: “بعضنا يحاول أن يستخرج أسوأ ما في التراث لينشره للناس، وهذا ليس في صالح الإسلام، فالإسلام دين قائم على الكتاب والسنة وهما ليسا من التراث، فهناك فرق”ـ لافتًا إلى أن “الهجوم الذي يتعرض له الإسلام جاء بسبب الهجوم على التراث الإسلامي”، متابعًا: “فعامة الناس لا يفرقون بين الإسلام والتراث، فالتراث قابل للإصلاح فهو عمل بشري، وهذا لا ينقص من التراث”.
أزمته مع الأوقاف
قبل رحيله بثلاثة أشهر خاض الوزير الراحل معركة ضارية مع بيته القديم، وزارة الأوقاف، وذلك حين فوجئ بقرار صادر عن الوزارة بإزالة عقار مملوك له، في يناير الماضي، ضمن قرار صادر بحق إزالة 10 فيلات بمدينة الصحفيين بالتجمع الخامس بالقاهرة.
وتبلغ مساحة فيلا زقزوق أكثر من 600 متر، وثمنها 15 مليون جنيه، فيما تم دفع المقدم الخاص بها فقط، أما باقي المستحقات فلم تسدد، رغم حصوله عليها أثناء تواجده في منصبه، حسب قول مسؤول بهيئة الأوقاف المصرية، لافتًا إلى أن قرار الإزالة تضمن وحدات سكنية خاصة بموظفين بهيئة الأوقاف بالمعاش، منها وحدة خاصة بموظفة سابقة لم تدفع أي مبالغ ويقيم ابنها داخلها، وتم منحهما مهلة قبل ذلك أكثر من مرة، دون جدوى.
المسؤول أشار إلى أنه تم إنذار مُلاك الوحدات السكنية الصادر لها قرار إزالة أكثر من مرة لدفع المستحقات إلا أن أحدا لم يستجب؛ لذلك أصدرت الهيئة قرار إزالة لها، وحال طرحها في مزاد ستدر ملايين الجنيهات، موضحًا أن بعض قاطني هذه الوحدات دفعوا مبالغ تتراوح بين 150 و200 ألف جنيه، على الرغم من أن ثمن الوحدة يتخطى ملايين الجنيهات.
من جانبه، دافع الوزير عن أحقيته في الفيلا الخاصة به قائلًا إنه “يمتلك فيلا بمدينة الصحفيين ضمن 17 فيلًا بالمنطقة نفسها، وكان سعر المتر مقدرًا بـ120 جنيهًا عند استلامه، إلا أن الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف الحالي، قرر إعادة تسعير المتر ليصل إلى 6 آلاف جنيه، ورفع الثمن الأصلي للفيلا إلى 4 ملايين جنيه”.
وأضاف: “استلمت الفيلا وكانت عبارة عن جدران بالطوب الأحمر فقط، واستكملت بنائها؛ لتصلح للسكن”. وقال: “باقي أصحاب الـ17 فيلا المجاورين لي بالمدينة، يعلمون جيدًا أن الضرر الواقع عليهم سببه وجود اسم زقزوق، لذا طلبوا مني بيع الفيلا ولكني رفضت؛ لأنها ستباع بثمن زهيد.. لم نعتد على أي ممتلكات للدولة أو الوقف، ولكن ما شأننا أن ندفع زيادات تقدر بحوالي 4 ملايين”.
وتابع: “هيئة الأوقاف حصلت على ما طلبته، ولا يوجد أي متأخرات، ولكن ما معنى أن يتم إعادة التسعير مرة أخرى”، متسائلًا: “هل هي نكاية فقط في محمود زقزوق؟”، فيما أكد مصدر بالهيئة أنها ماضية في طريق الإزالة، وتحصيل كامل حقوق الوقف دون تردد أو أي استثناءات.
ولد حمدي زقزوق في محافظة الدقهلية، في الـ 27 ديسمبر 1933، حصل على الإجازة العالية (الليسانس) من كلية اللغة العربية بالأزهر عام 1959، كما حصل على شهادة العالمية مع إجازة التدريس من الكلية ذاتها عام 1960، وفي 1968 حصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة ميونخ الألمانية.
عين مدرسا للفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، عام 1969، ثم ترقى لدجة أستاذ مساعد في 1974 ثم أستاذ 1979، وبعدها وكيلا لكلية أصول الدين بالقاهرة ورئيس قسم الفلسفة والعقيدة ( 1978- 1980)، ثم عميداً لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر في الفترة من عام ( 1987وحتى 1989) , ومن عام ( 1991حتى 1995) فنائبل رئيس جامعة الأزهر ، عام 1995، وأخيرًا وزير الأوقاف منذ 1996 وحتى ثورة يناير 2011.
اختير عضوًا بعدد من الكيانات الإسلامية، منها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، المجلس الأعلى للأزهر، اتحاد الكتاب المصري، كذلك رئيسًا لمجلس إدارة الجمعية الفلسفية المصرية، ومقررًا لللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر.
أثرى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات، على رأسها: المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، الإسلام في تصورات الغرب، مقدمة في علم الأخلاق، دراسات في الفلسفة الحديثة، تمهيد للفلسفة، مقدمة في الفلسفة الإسلامية، الإسلام في مرآة الفكر الغربي، الدين والحضارة والدين والفلسفة والتنوير، كما تقلد جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة، وذلك عام 1997.