قبل سنة من الآن، أنهى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، مسيرة حكمه التي امتدت لأكثر من 20 سنة، بتقديم استقالته إثر الحراك الشعبي المطالب برحيله وتخلي أبرز حلفائه عنه ومنهم الجيش الذي كان أبرز حليف له وعمود حكمه الفقري.
استقال بوتفليقة بعد أن نفض الشعب الجزائري غبار الخوف عنه وأعلن الانتفاضة على الواقع السائد والمطالبة برحيل النظام. استقالة جاءت بعد تحول الشارع الذي لم يكن له تأثير يذكر إلى لاعب أساسي في المشهد الجزائري، ما اضطرّ محيط الرئيس إلى الانسحاب تدريجيًا بعد أن فشلت المناورات وسقطت جميع الأطروحات التي قدمها النظام.
رحل بوتفليقة، وقُبض على العديد من ركائز حكمه حتى أخيه الأصغر “سعيد” الذي كان الآمر الناهي في قصر المرادية اقتيد بدوره إلى سجن الحرّاش للمحاكمة، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحا هل سقط النظام مع استقالة بوتفليقة من الرئاسة؟
انجازات مهمة للحراك لكن..
في الـ16 من فبراير/شباط 2019، خرج المئات من المحتجين في مدينة خراطة التي تتركز فيها المعارضة شرق الجزائر، وقالوا “لا للعهدة الخامسة”، دون أن يعيرهم النظام أي اهتمام، تكرر الأمر يوم الـ22 من نفس الشهر، لكن هذه المرة الأعداد أكبر والجماهير خرجت في العاصمة التي يمنع فيها التظاهر، فما كان من قيادة الجيش إلا أن وصفت المحتجين بالمغرر بهم.
تكرّر الأمر في أكثر من منطقة، واتسع حجم المظاهرات وتسارعت الأحداث وتحول الشارع إلى بركان غاضب، فالجماهير الجزائرية قررت ألا عودة إلا بتحقيق الهدف المنشود وهو التغيير ورحيل عبد العزيز بوتفليقة وجماعته.
استمرّ الحراك السلمي أسابيع عدّة، إلى أن سجّل انتصارات هامة، فقد قرّر بوتفليقة –بداية- العدول عن الترشّح لولاية رئاسية خامسة، وتأجيل الانتخابات الرئاسية المقررة في 18 أبريل/نيسان القادم، ثم استقال من رئاسة البلاد قبل أقل من 20 يومًا من انتهاء ولايته الرابعة، منهيًا بذلك فترة حكم استمرت 20 عامًا بدأت بالمصالحة الوطنية وانتهت برحيل قسري على مقعد متحرك.
يعتقد العديد من الجزائريين أن رأس النظام رحل أما جسمه وأركانه فقد بقيت وهي من تتحكم في البلاد إلى الآن
تواصلت انجازات الحراك الشعبي في الجزائر، فقد تمّ إلغاء الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 4 يوليو 2019 لاختيار خليفة بوتفليقة، بعد رفض أغلب الشخصيات الوطنية والأحزاب المشاركة فيها ومقاطعتها من طرف الحراك الشعبي.
لم تتوقف انجازات الحراك عند هذا الحدّ فقد تم أشرفت القيادة العسكرية على حملة اعتقالات شملت سعيد بوتفليقة ووزراء سابقين ومباشرين وشخصيات عامة وسياسيين ورجال أعمال بارزين، وجنرالات في الجيش أيضًا.
بعد ذلك عرفت الجزائر محاكمات غير مسبوقة طالت رموز النظام السابق؛ إذ قضت محكمة البليدة العسكرية جنوب العاصمة نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي بالسجن 15 عاما بحق سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق، وقائدي المخابرات السابقين محمد مدين المدعو توفيق، وعثمان طرطاق، إلى جانب لويزة حنون، الأمينة العامة لـ”حزب العمال” (يسار) بتهمة “التآمر على الجيش والدولة”.
يطمح الجزائريون في رحيل كلّ رموز النظام
كما تمّت محاكمة رئيسي حكومتين (عبد المالك سلال، وأحمد أويحي) ووزراء سابقين ورجال أعمال من رموز نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ويتابع هؤلاء بتهم “إساءة استغلال الوظيفة” و”الثراء غير المشروع” و”تبديد المال العام”، و”منح امتيازات غير مستحقة” و”الرشوة وتبييض الأموال”.
لم يكن الجزائريين سيشاهدون هذه المحاكمات لو بقي عبد العزيز بوتفليقة في الحكم لعهدة رئاسية خامسة، فكلّ ما يحصل الآن في البلاد هو من انجازات الحراك الشعبي، لكن هذا لا يعني يقينا أن نظام بوتفليقة قد رحل مع رحيل رأسه.
انتظارات الجزائريين
يعتقد العديد من الجزائريين أن رأس النظام رحل أما جسمه وأركانه فقد بقيت وهي من تتحكم في البلاد إلى الآن، بدليل أن الرئيس الذي تم انتخابه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، يعتبر أحد أبرز رجال النظام، فقد تبوّأ عديد المناصب السامية في الدولة أخرها رئاسة الوزراء.
قام النظام بتلميع صورة عبد المجيد تبون وتكريسه كبطل شجاع يحارب الفساد، قبل إقالته في صورة المغضوب عليه، ومن ثمّ إعادته للواجهة فهو القادر على رصّ صفوف أعمدة النظام دون الخوف من تغوّله واللعب لمصلحته.
كان الشعب الجزائري، يمنّي نفسه بأن يختار رئيسه الجديد للجمهورية بشفافية كاملة دون ضغط من أحد، لكن ذلك لم يحصل فرغم المقاطعة والاحتجاجات تم إجراء الانتخابات وتصدير أحد رموز نظام بوتفليقة في تحدّي لإرادة الشعب.
رحل بوتفليقة لكن غضب الناس وخروجهم إلى الشوارع مازال مستمرّا، فنظام الزبونية القائم بمشاركة سياسيين وأصحاب أعمال وعسكريين، مازال جاثما على صدورهم لا يريد أن يضمحلّ
حتى مجلس النواب الذي يسنّ القوانين مزال على حاله، تسيطر على أحزاب النظام، المجالس البلدية أيضا، حيث تضم الجزائر 1541 بلدية يسيطر حزبا “جبهة التحرير الوطني” و”التجمع الوطني الديمقراطي” على غالبيتها.
تؤدي البلديات في الجزائر دورًا مهمًا في الإشراف على القوائم الانتخابية وتنظيم الاقتراع وسير العملية الانتخابية وفرز الأصوات، يعني ذلك أنه في حال انجاز انتخابات تشريعية سابقة لأوانها سيتحكّم فيها أحزاب النظام.
لا يرغب الجزائريون في إجراء انتخابات جديدة تحت وصاية رجال كانوا بالأمس القريب جزءًا من نظام عبد العزيز، أو لعلّهم مازالوا منه رغم تأكيد انضمامهم للحراك الشعبي ومساندة مطالب الجزائريين.
ليس هذا فحسب، فالشعب يريد أيضا محاسبة المتسبّب الأول فيما وصلت له البلاد، وهو بوتفليقة الذي يعيش إلى الآن حياة الرؤساء بعيد عن الأضواء، يتمتع بجميع الامتيازات التي يؤمنها له منصبه السابق كأنه استقال بمحض إرادته.
يريد العديد من الجزائريين تطبيق العدالة ومحاكمة بوتفليقة، مقابل الفساد الذي نهش الجزائر خلال 20 سنة تحت حكمه، فقد اكتشف الجميع حجم الضرر الذي سببه الرئيس المستقيل ومحيطه العائلي للبلاد، فقد كان”عرّاب الفساد” و “راعي الفاسدين والمفسدين”.
تواصلت الاحتجاجات في الجزائر
اقتصاديا لم يتغيّر شيء، فالوضع على حاله بل ازداد سوءاً، فنسب البطالة في ارتفاع متواصل ويتوقّع أن تبلغ 13.3 % هذه السنة بعد أن كانت تتراوح ما بين 11.1 إلى 11.7 %، كما أن احتياطات النقد الأجنبي في البلاد في تراجع مستمر حيث بلغت 62 مليار دولار بعد أن كانت 72.6 مليار دولار في أبريل/نيسان من العام الماضي.
كلّ هذه المؤشرات الاقتصادية تؤكّد أن من يشغل قمة السلطة هي نخب متضامنة من أجل حماية مصالحها ولا أهمية لمصلحة الشعب أو البلاد عندها، فالمهم أن تجني المال والجاه حتى وإن كلّفها ذلك رهن البلاد.
رحل بوتفليقة لكن غضب الناس وخروجهم إلى الشوارع مازال مستمرّا، فنظام الزبونية القائم بمشاركة سياسيين وأصحاب أعمال وعسكريين، مازال جاثما على صدورهم لا يريد أن يضمحلّ، تراجع قليلا لكن أعادت عناصر النظام الحاكم ترتيب أمورها بشكل يسمح لها بالاستمرار في السلطة.
رحيل بوتفليقة عن الرئاسة غير كافي فالذين نزلوا إلى الشوارع كانوا يريدون تغيير النظام الحاكم بأكمله، وهذا ما لم يحدث بعد، فجميع من في الواجهة هم نتاج لنفس النّظام السياسي الذي يطالب المتظاهرون برحيله.