بعد اغتيال “ضابط إيقاع” البيت الشيعي قاسم سليماني واندلاع التظاهرات الشعبية وفشل جميع المحاولات لملء الفراغ الكبير الذي خلفه وتبدل موازين القوى، بدأت القيادات والزعامات الشيعية تتحرر من قيود حقبته ودخلت جميعها مضمار المنافسة على الزعامة والدور السياسي، لرسم خريطة الطريق التي أصبحت تشير إلى كل اتجاه.
فقد فشل محمد كوثراني مبعوث “حزب الله” اللبناني في العراق بدعم من حسن نصر الله، في أداء دور ضابط الإيقاع، ثم استغل مقتدى الصدر شعبيته في شغل هذا الدور وفشل أيضًا، ليصعد نجم نوري المالكي بعد توليه قيادة محور رفض المكلف السابق توفيق علاوي وكسر محاولات الصدر السياسية في الحصول على المكاسب من خلال فكرة وآلية (الإصلاح) التي ابتدعها لتجاوز المحاصصة والاستيلاء على حصص خصومه ومنافسيه.
الزرفي وأسهم القيادات
إن خوف بعض القيادات داخل البيت الشيعي من تمرير المكلف عدنان الزرفي، ليس لأنه فقط ذا ميول تبدو معادية لمشاريع الحرس الثوري الإيراني في العراق ووعده بحصر السلاح بيد الدولة، إنما هناك خوف من تغيرات كبيرة تطرأ على الخريطة الشيعية وصعود شخصيات منافسة تقلل من مكاسب القوى الحاليّة المتشظية أساسًا، فمنذ اغتيال سليماني والبيت الشيعي بلا أب يقوده وهو في شتات، وهناك محاولات صعود وتراجع لبعض القيادات والزعامات من خلال الحوارات والمفاوضات والدفع بمرشح وبدلائه لرئاسة الوزراء، وقد بدأ ذلك مع تكليف المكلف السابق توفيق علاوي.
فمنذ سنوات، يحاول زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وزعيم حركة الحكمة عمار الحكيم، أن يجعلا من مكانتهما مرجعية سياسية داخل البيت الشيعي، وذلك لصغر سنَّهما في أن يكونا مراجع دينية، ولعدم وجود إمكانات فقهية يمكن من خلالها ترشيحهما لهذه المكانة، لذا يحاولان تقديم خطاب أبوي ومشاريع وخريطة طريق إصلاحية، ويضعان شروطًا (إصلاحية) لقبول هذا الطرف أو ذاك، لكن مع وجود التنافس السياسي تلقى خطاباتهما التشكيك ويتراجعان بعد كل نكسة وعدم استجابة القوى المتنافسة.
فقد تراجع مقتدى الصدر في تصدر المشهد السياسي بعد أن أفشل التنافس السياسي مرشحه توفيق علاوي، وهناك مؤشرات لتراجعه أيضًا عن دعم فصائل تابعة لإيران بعد اتفاق قم وقيادته لموقف شعبي رافض للوجود الأمريكي.
فمن أفشل كابينة مرشح الصدر “علاوي”، هو التنسيق السني والكردي مع الأمين العام لكتلة دولة القانون نوري المالكي الذي قاد ولا يزال جبهة الرفض، ويكرر هذه الفترة سلوكه السياسي وتنسيقه مع أطراف سنية وكردية لرفض عدنان الزرفي، مع تكليفه من الوفد الإيراني بقيادة خليفة سليماني، إسماعيل قاآني، على قيادة موضوع التصعيد الأمريكي ضد الميليشيات والطلب من هادي العامري رئيس منظمة بدر ورئيس ائتلاف الفتح عدم التدخل فيما ستفضي إليه حوارات المالكي.
وبحكم نفوذ وعلاقات المالكي التي كونها في سنوات حكمه، مع ضرورات المرحلة، تولى قيادة جبهة الرفض، وتسلم موقع قيادي بزيادة نفوذه وتراجع الصدر في هذا المضمار، بالإضافة لتريث الحكيم في إبداء موقف (مع أو ضد) من التغيرات الحاصلة.
من جهة ثانية، ربط رئيس “منظمة بدر” هادي العامري قاطرته بقطار المالكي، لضعف قدراته السياسية والتفاوضية في اللعب على خيوط تشكيل التحالفات بعد أن ساهم تفرده بالقرار بتراجع قدرة ائتلاف الفتح على المحافظة على تماسكه السياسي، كما أن الضغوط الأمريكية والتصعيد الحاصل ضد الميليشيات، أدت لانكفاء قيس الخزعلي رئيس ميليشيا عصائب أهل الحق، فوضع قاطرته هو أيضًا بقطار المالكي الساعي لتصدر المشهد وتحقيق أحلامه بالعودة لرئاسة الوزراء من جديد.
أما حيدر العبادي رئيس تحالف النصر، فيحاول استئناف نشاطه السياسي وتسلم موقع مؤثر من خلال تمرير حكومة عدنان الزرفي، لكونه مرفوض إيرانيًا منذ أن صرح بموافقته على الالتزام بالعقوبات الأمريكية على إيران قبيل تشكيل حكومة انتخابات 2018 وكان ذلك كافيًا لاعتباره عدوًا لإيران ويجب إبعاده عن تسلم ولاية ثانية لرئاسة الوزراء، لذا يسعى من خلال إقناع المالكي بعدنان الزرفي، ثم يقنع جبهة الرفض القريبة من إيران وميليشياتها والقوى المرتبطة بها لتشكيل حكومة بالإجماع المستحيلة.
الأرضية الرخوة
ليس هناك كتلة صلبة أو نواة داخل البيت الشيعي يمكن الاعتماد عليها لجمع القوى السياسية حولها، ولا توجد أي شخصية قادرة على إقناع الجميع بخريطة طريق واضحة، فعلى العكس من ذلك تمامًا، القوى التي كانت تُصنف على أنها متماسكة بدأت بالتشظي والانقسام، فتحالف الفتح فشل في الحفاظ على تماسكه وموقفه من الزرفي، واستطاع الأخير كسب تأييد بعض النواب من داخل الكتل المعترضة، وهو ما دفعهم لقيادة حراك يدعو للإجماع بدل التوافق لتمريره، وهو ما لم يحصل طيلة الفترات السابقة في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة، فهم يستخدمون حيلة الإجماع للحيلولة دون تمرير الزرفي.
من جهة أخرى، تفككت اللجنة السباعية التي كان يتأمل منها اختيار بديل عن الزرفي، وهو ما أضعف موقفهم وزاد من قوة موقف المكلف الذي شكّل لجنة للتفاوض مع الكتل والأحزب من أجل تشكيل كابينته، متجاهلًا تهديداتهم واعتراضاتهم من خطورة عدم إرضائهم وتحقيق الإجماع المستحيل، لكن زيارة الوفد الإيراني أحدثت تبدلات سريعة وستعلن نتائجها خلال أيام التي تبدو مؤشراتها الاتفاق على عدم تمرير الزرفي وتقديم شخص آخر.
التجاوز على السياق الدستوري
تطالب القوى السياسية القريبة من إيران من خلال محاولات عبثية، رئيس الجمهورية برهم صالح، تقديم بديل عن المكلف عدنان الزرفي وسحب تكليفه، وهو أمر مخالف للدستور بوجود شخصية تفاوض لتشكيل كابينته الوزارية، فالسياق الدستوري يمنح المكلف شهرًا واحدًا من تاريخ التكليف الذي سينتهي في 17 من أبريل، وليس هناك قدرة على تكليف شخص آخر إلا بعد ثلاثة مسارات رسمها الدستور: أن يعتذر الزرفي عن المهمة كما فعل سابقه توفيق علاوي، أو يفشل الزرفي في تشكيل كابينة وزارية وتقديم منهاج وزاري مع انتهاء المدة المحددة دستوريًا، أو أن يعقد البرلمان جلسة يصوت فيها برفض الزرفي وكابينته، عندها لا بد أن يقدم رئيس الجمهورية خلال 15 يومًا مكلفًا جديدًا.
لكن الكتل والأحزاب القريبة من إيران تُدرك أن انعقاد جلسة برلمانية للتصويت على الزرفي قد تعني تمريره، لأن هناك شبه توافق سني – كردي – شيعي (جزئي) على شخصيته، وهم قادرون على تمريره لكنهم يميلون للمحافظة على العُرف والمحاصصة وعدم الذهاب لسياسة كسر الإرادات، فهم لا يريدون انعقاد الجلسة وتضييع الوقت، إنما كسب الوقت المتبقي من فترة تشكيل كابينة الزرفي في البحث عن شخص آخر غيره.