كان العراق قبل الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة 5 + 1 “خطة العمل الشاملة المشتركة” عام 2015، ساحة لمناكفة وصراع النفوذ بين إيران والولايات المتحدة، وكان أمنه واستقراره ورقة تفاوضية إيرانية على طاولة المفاوضات، وكلما اشتد الضغط الأمريكي والعقوبات على إيران، توظف طهران أدواتها ويصبح العراق مرتعًا للإرهاب والتهجير والقتل الطائفي والتفجيرات، إلخ، خاصة بين الأعوام 2005 – 2011.
وبعد الاتفاق النووي وتراجع النفوذ الأمريكي، أصبح العراق إيرانيًا بامتياز رغم الدعم الأمريكي لحكومته سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، فتحاول واشنطن اليوم بعد انسحابها من طرف واحد من الاتفاق النووي في مايو 2018 إعادة التوازن على الأقل كمرحلة أولى والضغط على إيران للجلوس مرة أخرى والتفاوض على ملفات المنطقة والبرنامج النووي مع ضرورة إحداث تفوق أمريكي على النفوذ الإيراني لاحقًا، وذلك لاعتبارات جيوسياسية وإستراتيجية.
فعّلت إيران أدواتها في العراق من جديد، لكن لم تعد مشاريع التهجير والإرهاب والقاعدة والقتل الطائفي ناجعة، فقد تفككت الفصائل السنية وسحقت المدن وهُجِّر أهلها، وأصبحت القيادات السنية مهجنة وتحابي السياسة الإيرانية، ولم يعد هناك مشروع سني خطير يهدد نفوذها، إلخ، لذا كان من الضروري أن تفعل آخر أدواتها من الميليشيات ذات الصلة المباشرة بالحرس الثوري وصناعة فصائل جديد للتغطية على آخر أدواتها التي تخشى خسارتها كرصيد لا يستخدم فقط عسكريًا إنما اقتصاديًا وسياسيًا.
التحركات الأمريكية
ليس من مصلحة إدارة ترمب في هذه المرحلة التصعيد الكبير ضد الميليشيات في العراق والدخول في حرب شاملة، لأن تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد الأمريكي وقرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية يجعل التصعيد الشامل قرارًا غير محسوب العواقب وغير مضمون النتائج، لذا تميل الإدارة الأمريكية إلى المحافظة على قواعد الاشتباك القائمة على رد الفعل الانتقامي بعد كل هجوم تنفذه الميليشيات يسقط فيه جنود قتلى أو جرحى للتحالف الدولي بقيادة واشنطن.
من جهة أخرى، الإستراتيجية الأمريكية “الضغوط القصوى” ضد إيران تأتي أكلها وبنتائج إيجابية على المدى البعيد وجعلت الاقتصاد الإيراني في تراجع دائم، فهي ليست بحاجة إلى التصعيد في هذه المرحلة وتغيير نهجها بشكل كبير، لكن، اتخذت القوات الأمريكية في العراق عددًا من الإجراءات التكتيكية التي تحمل في طياتها وجهين متعاكسين: الأول هو الاستعداد للمواجهة الشاملة، والثاني الانسحاب التكتيتكي لتجنب وقوع ضحايا وجعل قواتهم أهداف سهلة.
نصبت واشنطن بطاريات الباتريوت المصممة لصد الصواريخ الباليستية، سواء كالتي أطلقتها إيران بعد اغتيال سليماني أو التي نُقلت إلى العراق ومن المحتمل استخدامها ضد القوات الأمريكية حال ارتفاع وتيرة التصعيد إلى مستويات خطيرة، وفي ذات السياق، قامت القوات الأمريكية بإعادة التموضع بالانسحاب من 5 معسكرات غير حصينة في الموصل والأنبار وكركوك وهي (القيارة، k1، القائم، الحبانية، القصور الرئاسية) والتمركز في قواعد محصنة وذات بنى تحتية رصينة وهي قاعدتي “عين الأسد” في الأنبار و”حرير” في أربيل.
الإجراءات التكتيكية شملت تحليق للطيران بكثافة فوق مقرات الميليشيات التي من المحتمل أن توجد عناصر من الحرس الثوري فيها، وهو ما دفع قادة الميليشيات ورئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي للاستنكار والشعور بالقلق من احتمالية شن هجوم مباغت، خاصة أن القوات الأمريكية لم ترد على آخر هجوم على معسكر التاجي كما جرت العادة، وبينت سبب ذلك بأنها تدرس مزيد من الخيارات.
إن جزءًا من الإدارة الأمريكية يميل للرد الشامل على الميليشيات التي تشمل إيران كوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، فالبنتاغون يدرس ذلك، لتوسيع خيارات الرد ويتجاوز قواعد الاشتباك القائمة على الرد الانتقامي المحدود إلى الرد الشامل الذي يحقق الردع وتكرار الهجمات.
من جانب آخر، أقامت الولايات المتحدة مناورات في الخليج مع الإمارات ثم أقامت مناورات أخرى في “إسرائيل”، وهي استعدادت لا تخلو من تهديد لإيران التي لا تكف هي ووكلاؤها عن ممارساتها في العراق والمنطقة رغم تراجع استهداف السفن في مياه الخليج ومضيق هرمز وخليج عدن من ميليشياتها وتهديدها المتكرر للملاحة الدولية.
إيران ووكلاؤها
يعتبر العراق ساحة إيران المفضلة للالتفاف على العقوبات الأمريكية ومناكفة القوات الأمريكية واستفزازها بشكل دائم وتنفيذ هجمات محدودة، لتجعل تلك القوات في حالة قلق واستنفار دائمين، وبذلك ستتجنب طهران المواجهة المباشرة التي يحرص الطرفان (واشنطن وطهران) على عدم حدوثها، وإن وقعت خروقات سابقة، كإسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية فوق مضيق هرمز واغتيال سليماني وقصف قاعدتي عين الأسد وحرير بالصواريخ البالستية وإن كانت غير مؤثرة.
تواجه طهران العقوبات الأمريكية القصوى بسياسة “الصبر الإستراتيجي” والتعويل على خسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، وقد تميل طهران لتوسيع نطاق الحرب والمواجهة مع القوات الأمريكية في العراق عن طريق بيادقها، كنوع من سياسة الهروب إلى الأمام جراء المشاكل الداخلية التي تعاني منها إيران بتفشي فيروس كورونا وتأثيره على الاقتصاد.
تقوم بيادق إيران في العراق خاصة ميليشيا حزب الله العراقي والنجباء بإخفاء مقراتها ونقل مخازن أسلحتها إلى مقرات القوات الأمنية الرسمية العراقية لإحراج القوات الأمريكية إن قصفتها، ناهيك عن القيام بمناورات بالذخيرة الحية في جرف الصخر وحاكت ميليشيا حزب الله الهجوم على القواعد العسكرية والقتال في حرب الشوارع والغابات ومواجهة الإنزال الجوي المتوقع تنفيذه ضد قيادات ميليشياوية بمساعدة القوات العراقية.
أخيرًا، توعدت 8 ميليشيات عراقية، تصنف على أنها الأقرب لإيران، القوات الأمريكية ووصفتها بالمحتلة كجزء من التهديدات المستمرة التي تسبق الهجمات، كما هددت ضمنيًا نواب البرلمان العراقي من التصويت لرئيس الوزراء المكلف عدنان الزرفي واعتبرته خطأ يمكن للبرلمانيين التراجع عنه وهو تهديد مبطن اعتادته هذه الميليشيات قبل كل قرار سياسي يضر بمصالحها.
البيان جاء بعد زيارة وفد إيراني ضم قيادات في الحرس الثوري ووريث قاسم سليماني “إسماعيل قآني” إلى بغداد ولقائه بقيادات الفاعل السياسي الشيعي، وهو تأكيد على سيطرة الحرس الثوري الإيراني على الملف العراقي في إيران وليس وزارة الخارجية الإيرانية، فزيارة قآني ترجح الخيارات العسكرية بدل الحلول السياسية التي فشل فيها الأمين العام للأمن القومي الإيراني علي شامخاني، وهذا ما أثبته التصعيد الحاصل بجعل منصب رئاسة الوزراء مادة لتصفية الحسابات وصراع النفوذ الذي بدأ يتصاعد وقد يصل لنقطة المواجهة بشرارة صاروخ كاتيوشا تطلقة هذه الميليشيا أو تلك.