إنهم يصطادون في مياه كورونا العكرة، يعيش الناس في ضنك شديد، يسمرهم الخوف في بيوتهم ويتهددهم الجوع، ولكن بعض السياسيين يصطادون في مياه عكرة أملًا في مواقع ونفوذ بعد كورونا، بما يؤشر على أن درس الوباء لم يغير أفكارهم الأصلية وأنهم عائدون إلى ما كانوا فيه من صراع غريزي على السلطة.
في تونس أمِلنا أن يكون التضامن اللفظي المسيطر على الخطاب في أيام الوباء صادقًا وحقيقيًا وأن المصيبة ستغير نمط التفكير السياسي، لكن يتكشف لنا سطح الخطاب الأخوي المؤقت عن ترسخ ممارسات غير قابلة للتطور، فلم ينتج عن الوباء إلا تغيير الأقنعة.
مناورات من أجل مكاسب محتملة
نتذكر أن حكومة الفخفاخ كانت حكومة ضرورة قبل بها الجميع خوفًا من إعادة الانتخابات التي لم تفرز حزبًا يقود بمفرده العمل الحكومي، وكنا سندخل معارك بينية بين مكوناتها، لكن الوباء استبق فألزم الجميع بالصمت السياسي المؤقت وتقديم معالجة الحالة الوبائية على ما سواها من المهام.
لكن التوافق الحكومي كان وهمًا من أوهامنا، فالأحزاب السياسية وكتلتها البرلمانية لم تصل هذه الدرجة من الرقي السياسي وقد أعادت تعرية وجهها الأصلي، وجه التنازع الأبدي على المواقع والمكاسب، لذلك ظهر فجأة طلب التفويض التشريعي للحكومة دون حاجة فعلية إليه، وتجري في هذه الساعات معركة شرسة داخل الحكومة وبينها وبين البرلمان على هذا التفويض.
يريد رئيس الحكومة مسنودًا بحزب حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي وحزب تحيا تونس (حزب الشاهد) تفويضًا مطلقًا يشمل مجالات تشريعية واسعة (تقريبًا كل صلاحيات التشريع الموكلة للبرلمان) بينما يقف حزب النهضة على الطرف المقابل لا يعارض التفويض ولكن يقيده في حدود مقاومة الوباء ولمدة شهر قابل للتجديد ويستعين في ذلك بأحزاب من خارج حزام الحكومة.
لا يكشف أنصار التفويض المطلق خلفيات طلبهم ويتخفون وراء ضرورة إطلاق يد الحكومة في مواجهة الوباء، ومقيدو التفويض (النهضة أساسًا) يتفقون معهم في ذلك ولا يجدون مسوغًا لإطلاق يد الحكومة فيما لا علاقة له بالوباء، وهو ما يكشف عمق الصراع الجديد القديم.
عقدة الصراع هي إذن في تحجيم دور البرلمان ودور حزب النهضة الذي يمسك بمقاليده وخاصة دور رئيس البرلمان/رئيس حزب النهضة (الغنوشي)، وتتضح النوايا الغامضة بل ينكشف المكشوف أكثر، فمعركة التفويض هي نفس معركة إسقاط حكومة الجملي بشروط تعجيزية، معركة ذات جوهر استئصالي لا علاقة لها بمقاومة الوباء، بل باستغلال الظرف الوبائي لتجريد خصم سياسي من صلاحياته ومواقع قوته في البرلمان.
فالاستئصاليون هم أنفسهم بنفس الوجوه وبنفس اللغة الإقصائية ولكن بنغمة متباكية على أرواح الناس، دون توضيح شجاع للنوايا ودون إثبات قانوني ومنطقي أن التفويض المقيد (المحدود) غير كافٍ للمواجهة.
العين على ما بعد الكورونا، فإذا حصل تفويض مطلق سيتم تحريك الترسانة القانونية في كل المجالات بما يوجه مرحلة ما بعد الوباء، ويمكّن لطالبيه سلطة أوسع من خارج البرلمان، وفي الأثناء يغيب دور الرئيس الحكم الذي انتظره الناس في موعد تحكيم فإذا هو في لحظته الانتخابية الأولى سادرًا لا يتطور ولا يتغير كأنه آلة تسجيل.
الرئيس يلقي درسه اليتيم
يجلس متكبرًا ويلقي درسًا واحدًا يحفظه منذ كان في المدرج الكبير بكلية الحقوق، فيسأل التونسيون أنفسهم ماذا يقول الرجل؟ ويسخر البعض هل انتخبنا آلة تسجيل؟ لم يحول الرجل الدرس القانوني إلى كابوس فحسب بل جعل العربية تقع في أذن جمهوره كما تقع مسامير على سطح معدني طنين مفزع تتخلله حشرجة متعالمة مفارقة للواقع.
يلقي الخطاب التعليمي على تلاميذه الجدد المرهقين في معركة الوباء، فلا يفهم الشعب ولا الحكومة، فيضطر إلى إصدار توضيحات لاحقة، فإذا بالتوضيحات فكرة نشرها في الفيسبوك منذ تسع سنوات بنفس الجمل القديمة لم تتغير، لديه شاغل فقط أن يستعيد سلطات كانت لرئيس ديكتاتوري ونزعتها الثورة بدستورها الجديد.
لذلك يرى في الحكومة تلاميذًا قاصرين لا يستحقون الشكر ويرى في البرلمان حاجزًا ضد سلطته، فيحرض الشعب ضد الحكومة كما لو أنه زعيم معارضة راديكالية، وبعد كل خطاب يعود السؤال: من هو؟ وماذا يريد؟ وتتوالد الأسئلة من يحكم فعلًا في قرطاج؟
الرئيس الحكم بين الشعب والحكومة وبين الأحزاب (وهو دور اعتباري لا قانوني) ينحاز خطابيًا إلى الشعب فيحرض عليها فينتهي خطابه عمليًا إلى ترذيل العمل الحكومي وإحباط طاقم المواجهة الأول، فيزيد خوف الناس من الوباء ويهدم مستويات الثقة التي تحتاجها الحكومة لتواصل عملها. انتظر الناس في مجلس الأمن القومي المنعقد ليلة فاتح أبريل أن يعدل الخلاف السياسي والقانوني بين التفويض المطلق والتفويض المقيد فلم يرد في خطاب الرئيس ما يشير إلى أنه على علم بالصراع القائم في اللحظة.
قطيعة جلية بين الرئيس واللحظة التي يعيشها شعبه، تنتهي بفقدان الأمل من دوره وشخصه ومن وعيه السياسي وقدرته على القيادة، لذلك يصبح السؤال من هو وماذا يريد السؤال الأول بعد سماعه في كل ظهور.
ماذا بعد كورونا سياسيًا؟
تتجمع مؤشرات نجاح كبيرة في الحد من الأضرار البشرية بفضل طاقم طبي نشيط وتآزر شعبي كبير والتزام واع بتطبيق الحجر الصحي، فالأرقام المقارنة بالحالة الوبائية في العالم مشجعة وواعدة ولكن ملامح سياسة ما بعد كورونا ليست كذلك.
لم تتطور بعد نخبة الحكم، ولم تغادر مواقعها القديمة وهي مصرة بعد على خلافاتها ذات الطبيعة الاستئصالية، بل نعتقد أنها تنزل دركًا أسفل باستغلالها للوباء لتحقق مكاسب استباقية لما بعده بما يفتح الباب على سيناريوهات عدمية في إدارة مرحلة ما بعد كورونا، قد يكون منها الدفع إلى إعادة الانتخابات رغم أن ما بعد كورونا سيقتضي حتمًا تكاتفًا أكبر من كل الفاعلين لمواجهة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للوباء وهي آثار كارثية بكل المقاييس.
لكن الوباء أثّر فعلًا على وعي الناس وفرز الخبيث من الطيب وسيكون لرأي الناس أثر كبير في تأديب النخبة بوسائل الديمقراطية، وقد قدم عوام الناس دليلًا قاطعًا على ذلك بإسقاطهم مشروع قانون تكميم الأفواه الذي تسلل من وراء الوباء إلى البرلمان ودافع عنه جماعة من أنصار التفويض المطلق وهم يظنون بالناس غفلة، يوجد الآن خوف من الوباء وتوجس من المستقبل ولكنه خوف لم يؤد إلى غفلة يمر منها الانقلاب على الدستور، فنختصر رب وباء يفتح عيون الناس على فيروسات السياسة.