لم يكن فوز كير ستارمر(57 عامًا) في انتخابات حزب العمال البريطاني المعارض التي جرت قبل أيام مفاجأة بالنسبة للكثير من المهتمين بالشأن السياسي الداخلي، خاصة بعد حصوله على دعم عدد من القادة المقربين من رئيس الوزراء السابق توني بلير، وهو ما رجح كفته على حساب مرشحة معسكر الزعيم السابق جيرمي كوربن، ريبيكا لونغ بيلي، حيث حصل على نسبة تصويت بلغت 56.2% من أصوات أعضاء الحزب.
صفحة جديدة في تاريخ الحزب المعارض من المرجح أن تعيد الاعتبار للتيار الوسطى المعتدل، وهو الأمر الذي يتوقع معه – بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا المستجد – أن يشهد زلزالًا كبيرًا يعيد النظر في طريقة تفكير الحزب وبنيانه التنظيمي، فضلًا عن مواقفه العامة من القضايا السياسية داخل البلاد وخارجها.
شغل الزعيم الجديد للحزب بجانب كونه محاميًا ونائبًا برلمانيًا عن منطقة “هولبرن” في لندن، منصب وزير البريكست بحكومة الظل، وكان من أشد الداعمين لفكرة البقاء، وعارض الموقف “الملتبس” الذي عبر عنه كوربن، ودعاه لاتخاذ موقف واضح لصالح عدم الانسحاب.
ومع إعلان تنصيبه رسميًا زعيمًا للعمال البريطاني، فرضت العديد من التساؤلات نفسها عن مواقفه من القضايا العربية والإسلامية، لا سيما الموقف حيال القضية الفلسطينية ورؤيته للتعامل مع الأقلية المسلمة في البلاد، خصوصًا بعد الدعم الكبير الذي كانت تحظى به تلك القضايا من طرف الزعيم السابق للحزب.
الحفاظ على الراديكالية العمالية
انطلق ستارمر في حملته الانتخابية حاملًا شعارات توحيد الحزب ونزع فتيل التناحر بداخله، كذلك تعهد في الوقت ذاته بالإبقاء على ما وصفه بـ”راديكالية السنوات الأربعة الأخيرة”، ففي بداية حملته يناير الماضي قال: “الشقاق الحزبي يجب أن ينتهي إذا أراد الحزب التعافي من هزيمة انتخابات عام 2019”.
وخلال حديث له مع أنصاره قال: “لن نلغي إرث الحكومة العمالية السابقة، كما لن نلغي إرث السنوات الأربعة الماضية (تحت قيادة جيرمي كوربن)”، مؤكدًا في حديثه للصحفي في “بي بي سي”، أندرو نيل، أن تركيزه الأساسي كزعيم للحزب سيكون العمل على إعادة العمال للحكم في الانتخابات المقبلة المتوقعة عام 2024.
خلال حملته الانتخابية، تعهد زعيم الحزب الجديد، بتبني جميع مطالب تجمع النواب اليهود في بريطانيا الذي يقدم نفسه بأنه الممثل الوحيد للجاليات اليهودية في البلاد
أشار زعيم العمال الجديد أن قيادته للحزب ستكون مختلفة عن زعامة كوربين، موضحًا أن “هناك طرقًا مختلفة لإلهام الناس، فبوسعك إلهام الناس بجعلهم ينصتون لكل كلمة تقولها، وهذا ليس أنا، كما يمكنك إلهام الناس ببناء فريق يريد أن يرافقك في تغيير حزبهم وبلادهم، وهذا ما حرصت عليه في حملتي الانتخابية”.
كثيرون ينصحون ستارمر بأن يمحو تمامًا إرث كوربن، وأن يسقطه من سجل التاريخ، تمامًا كما فعل توني بلير مع سلفه جون سميث، ولكن لو كان لدى الزعيم الجديد أي بصيرة لعمد إلى تكريم كوربن والإشادة بإرثه، وفق ما ذكر بيتر أوبورن في مقاله المنشور بـ”ميدل إيست أي” وترجمه “نون بوست”.
رافض للبريكست
كان الزعيم العمالي الجديد من أشد الداعمين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، حيث ركز جهده للحض على التزام الحكومة بالشفافية في كل ما يتعلق بقضية خروج بريطانيا من الاتحاد، معربًا عن أمله في أن تظل بلاده تحت المظلة الأوروبية، إيمانًا منه بقيمتها في الحفاظ على قوة التكتل في مواجهة التكتلات الدولية الأخرى.
وفي سبيل ذك قاد حملة للضغط على رئيسة الوزراء السابقة، تريزا ماي، لجعل خطط بريكست علنية قبل بدء التفاوض، وهي المعركة التي انتصر فيها، ووضع قائمة حزب العمال المعروفة بـ”الاختبارات الست” للقبول بأي اتفاق من الحزب، لكنه رغم ذلك أعلن في أكثر من مناسبة إجراء استفتاء آخر.
وبعد تلقي الحزب أسوأ هزيمة له منذ ثلاثينيات القرن الماضي، أعلن ستارمر أنه يقبل مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، إلا أنه في المقابل يسعى للحفاظ على علاقات بلده بدول الاتحاد، إذ من المرجح أن يطلق حملة من أجل اتفاق لإقامة علاقات تجارية وثيقة مع الاتحاد، يوفر حماية لحقوق العمال والبيئة ومعايير المستهلك والوظائف.
داعم لليهود
خلال حملته الانتخابية، تعهد زعيم الحزب الجديد، بتبني جميع مطالب تجمع النواب اليهود في بريطانيا الذي يقدم نفسه بأنه الممثل الوحيد للجاليات اليهودية في البلاد، ومن بين هذه المطالب السماح بتحقيقات مستقلة في تهم “معاداة السامية والطرد المباشر لكل من يشتبه في أنه معاد للسامية”.
الأكاديمي والعضو بحزب العمال، كامل حواش، الأستاذ بجامعة بيرمنغهام، يرى أن موقف ستارمر من القضية الفلسطينية ليس بنفس الوضوح الذي كان عليه كوربن، فمن جهة كان عضوًا في هيئة محامين وحقوقيين أنجزت تحقيقًا بشأن سوء تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع الأطفال الفلسطينيين وتم تقديمه للخارجية البريطانية.
وأكد أن (أعضاء) حملة التضامن مع فلسطين قدموا له مطالب ليتبناها، من بينها التأكيد على حق العودة ورفض بيع الأسلحة لـ”إسرائيل”، ورفض خطة الحكومة تجريم المقاطعة ومنعها “لكنه لم يتعهد أبدًا بقبول هذه المطالب، في المقابل قبلت المرشحتان اللتان كانتا تنافسانه بكل هذه النقاط”.
من السابق لأوانه بناء فرضيات مسبقة عن إستراتيجية الزعيم العمالي الجديد بشأن التعامل مع القضايا العربية والإسلامية، لكن مواقفه السابقة ربما تجيب عن بعض التساؤلات
وتوقع العضو العمالي في تصريحات صحفية له أن يصبح الدعم للقضية الفلسطينية أقل “ذلك أن ستارمر يقدم نفسه محاربًا شرسًا لمعاداة السامية وهو ما سيجعل كثيرين يخشون من الطرد أو العقوبة في حال انتقدوا سياسات “إسرائيل” لأن السائد حاليًّا هو الخلط بين انتقاد الاحتلال ومعاداة السامية”.
أما بخصوص الالتزام السابق الذي قطعه حزب العمال بالاعتراف بدولة فلسطين بمجرد وصوله للحكومة، أشار الأستاذ بجامعة بيرمنغهام إلى احتمالية أن يلجأ ستارمر إلى عبارات فضفاضة في هذا الشأن، لافتًا إلى أنه “قد يلجأ للقول إنه سيطبق هذا الالتزام في الوقت المناسب، ولهذا فما يحدث من تغيير في حزب العمال سيكون ضحيته القضية الفلسطينية”.
استبعاد معاداة المسلمين
أما عن موقفه من الأقلية الإسلامية والعربية في ظل توجهاته الداعمة لليهود وبالتبعية لمصالح الكيان الصهيوني، استبعد سياسيون أن يتخذ أي مواقف معادية للمسلمين، وهو ما أشار إليه رئيس المجموعة العربية بالحزب، عمر إسماعيل، مضيفًا أن “الرجل له خلفية حقوقية وقانونية صلبة وقاد الكثير من المعارك القانونية لمناهضة كل أشكال العنصرية سواء في بريطانيا أم خارجها” وهو ما يدفع للاعتقاد أن حزب العمال “لن يكون أبدًا معاديًا للمسلمين في بريطانيا”.
ويستند إسماعيل في موقفه على ما يقدمه المسلمون والعرب من خدمات وتضحيات في المجتمع البريطاني التي لا يمكن إنكارها، وضرب مثلًا بأن أكثر من 50% من العاملين بالقطاع الصحي في لندن مسلمون، وهم أول ضحايا المعركة ضد وباء كوروبا، موضحًا أن التحدي الأكبر لستارمر هو كسب ثقة الناخب – أيًا كانت انتماءاته – من جديد بعد الخسارة المدوية التي مني بها الحزب بانتخابات نهاية العام الماضي.
ولد ستارمر عام 1962 في ساوثوورك بلندن، لوالد كان يعمل صانعًا للأدوات، وكانت أمه، جوزفين، ممرضة، وقد حمل اسم أول نائب برلماني عمالي وهو كير هاردي، وكان واحدًا بين 4 أخوة، وكان متفوقًا في دراسته، درس الحقوق بجامعة ليدز وتخرج فيها عام 1985، ثم عمد لمتابعة دراساته بأوكسفورد.
في عام 1968 عمل محاميًا، قبل أن يترأس دائرة الادعاء الملكية، فيما خاض معارك قانونية لإلغاء عقوبة الإعدام في إفريقيا ومنطقة الكاريبي، وعمل مستشارًا لحقوق الإنسان ولهيئة الشرطة في أيرلندا الشمالية، بجانب أنه كان ضمن فريق الدفاع فيما يعرف بقضية ماكليبل، حيث كان مدافعًا عن الناشطين ديفيد موريس وهيلين ستيل بشأن الورقة التي كتباها عن سلسلة ماكدونالد للوجبات السريعة.
وفي عام 2008، عُين رئيسًا جديدًا لدائرة الادعاء الملكية، ومديرًا للادعاء العام في بريطانيا وويلز، وخلال تلك الفترة تعامل مع عدد من القضايا المهمة، لعل أبرزها كانت إدانة رجلين هما غاري دوبدسون وديفيد نوريس عام 2012 بقتل الشاب ستيفن لورانس البالغ من العمر 18 عامًا.
تقاعد عن العمل في الادعاء عام 2013، وحصل على لقب فارس عام 2014 لخدماته في إنفاذ العدالة والقانون، وفي 2015 فاز بمقعده في البرلمان بأغلبية تجاوزت الـ17 ألف صوت، ثم عُين وزيرًا للداخلية في حكومة الظل، ولكن في عام 2016 ترك المنصب لينضم إلى عدد من النواب العماليين البارزين المستقيلين.
من السابق لأوانه بناء فرضيات مسبقة عن إستراتيجية الزعيم العمالي الجديد بشأن التعامل مع القضايا العربية والإسلامية، لكن مواقفه السابقة ربما تجيب عن بعض التساؤلات، غير أن ذلك وحده ليس كافيًا، فالمنصب الذي بات فيه ربما يكون دافعًا لإعادة النظر في توجهاته الخاصة والدفع به لإحداث توازنات ما من شأنها أن تحافظ على القاعدة الشعبية للحزب التي يرتكز فيها بالأساس مواطنون مسلمون وعرب.