مع بداية انتشار فيروس كورونا في القارة العجوز، طلبت بعض الدول مساعدة الاتحاد الأوروبي لوقف انتشار هذه الجائحة، إلا أن مؤسسات الاتحاد كانت مغلقة في وجه كل من يطلب الدعم حتى من مؤسسي الاتحاد، فإيطاليا مثلًا كررت طلب المساعدة كثيرًا لكن لا حياة لمن تنادي، حتى جاءتها المساعدة من الصين والصومال.
لم ينته الأمر عند هذه النقطة، فقد عمدت بعض الدول الأوروبية إلى مصادرة شحنات طبية كانت موجهة لدول أوروبية أخرى، فيما حظرت دول أخرى – كانت بالأمس القريب تدعو إلى التضامن – تصدير مستلزمات الوقاية الطبية إلى أشقائها الأوروبيين.
مؤشرات عدة، سنتحدث عنها في هذا التقرير، أثبتت فشل الاتحاد الأوروبي عند أول اختبار له منذ نشأته، وأظهرت ضعف مبدأ “التضامن” الذي يشكل أساس الاتحاد، فكيف سيكون هذا الاتحاد القاري بعد هذه الأزمة غير المسبوقة التي تجتاح العالم.
انهيار؟
كثر الحديث عن إمكانية انهيار الاتحاد الأوروبي على لسان العديد من المحللين والخبراء وعلى لسان المسؤولين أيضًا، حيث قال رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز إن جائحة فيروس كورونا قد تتسبب في انهيار الاتحاد الأوروبي، إن لم يتم اتخاذ إجراءات أكثر صرامة في التعامل مع الأزمة الحاليّة.
وأضاف سانشيز، في مقال نشره أمس الأحد بست لغات أوروبية، في أبرز صحف ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وهولندا، أن الظروف الحاليّة استثنائية وتدعو إلى مواقف ثابتة فـ”إما أن نرتقي إلى مستوى هذا التحدي أو سنفشل كاتحاد”.
عند تملص دول الاتحاد من التزاماتهم، وجدت إيطاليا وإسبانيا، دولًا أخرى تساعدها على غرار الصين وتركيا وروسيا والصومال وكوبا، التي سارعت بتقديم إمدادات من المعدات الطبية وأجهزة التنفس لها
تشكل الاتحاد الأوروبي بعد توقيع معاهدة “ماسترخت” عام 1992، ولكن العديد من أفكاره موجودة منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو جمعية دولية للدول الأوروبية يضم 28 دولة وآخرهم كانت كرواتيا التي انضمت أول يوليو 2013.
وتابع المسؤول الإسباني “لقد وصلنا إلى منعطف حرج تحتاج فيه حتى أكثر الدول والحكومات المؤيدة للاتحاد، كما هو الحال في إسبانيا، إلى دليل حقيقي على التزام الاتحاد نحوها”، ووصف رئيس وزراء إسبانيا جائحة كورونا بأنها أسوأ أزمة للصحة العامة في أوروبا منذ العام 1918.
كلام بيدرو سانشيز، سبق أن قاله العديد من المسؤولين في دول أوروبية عدة على غرار إيطاليا والبرتغال، فجميعهم عبروا عن خيبة أملهم وإحباطهم من تأخر الإجراءات الأوروبية لمواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد التي تهدد مستقبل الإنسانية جمعاء.
مساعدات من خارج دول الاتحاد
هذه الخيبة التي عبر عنها الكثير من مسؤولي الاتحاد، جاءت بعد معاينتهم ضعف الإجراءات التي تم اتخاذها على المستوى الأوروبي لمواجهة انتشار جائحة كورونا. إجراءات رفضت بموجبها العديد من الدول تقديم مساعدات للدول الأوروبية الأكثر تضررًا من هذه الأزمة، ما اضطرها للتوجه إلى دول أخرى خارج الاتحاد.
عند تملص دول الاتحاد من التزاماتهم، وجدت إيطاليا وإسبانيا، دولًا أخرى تساعدها على غرار الصين وتركيا وروسيا والصومال وكوبا، التي سارعت إلى تقديم إمدادات من المعدات الطبية وأجهزة التنفس لها حتى تساعد في مواجهة هذه الجائحة التي تنتشر بسرعة.
تضمنت المساعدات المقدمة من هذه الدول إلى كل من إيطاليا وإسبانيا اللتين تعانيان من نقص كبير في المستلزمات والأقنعة الطبية والمواد المطهرة مع سرعة انتشار المرض على أراضيها، فرق طبية تتمتع بخبرة واسعة في مكافحة الأمراض بالإضافة إلى مئات الآلاف من المستلزمات الطبية مثل الأقنعة وأجهزة التنفس والكمامات وملابس واقية ومواد تعقيم سائلة مضادة للجراثيم.
دول الشمال ترفض “سندات كورونا”
مؤشرات بداية تفكك الاتحاد الأوروبي، لم تتلخص في هذه النقطة فقط، فيوجد غيرها الكثير على غرار رفض بعض الدول الأوروبية على رأسها ألمانيا طلب بعض دول الاتحاد الأوروبي، تفعيل ما باتت تعرف بـ”سندات كورونا” التي ستسمح للبلدان الأكثر تأثرًا بفيروس كورونا بجمع التمويل عبر أسواق المال تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.
ألمانيا، إلى جانب دول الشمال الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل هولندا، ترفض هذه الفكرة، معتبرة أنها مجرد محاولة من دول جنوب القارة لاستغلال معدلات الفائدة على القروض المنخفضة التي تتمتع بها الدول ذات الموازنات المتوازنة، فيما قال رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي: “إصدار سندات يورو يعني اجتياز الحدود نحو تشارك للديون، ولا نريد ذلك”.
سبق أن دعا قادة تسع دول أوروبية إلى إنشاء “سندات كورونا” تتيح توفير صندوق ضخم يسمح بمواجهة الأزمة الصحية الاستثنائية التي تهز الاتحاد الأوروبي وتطالب دول جنوب أوروبا التي تعاني من مديونية مرتفعة بتشارك الديون بين دول الاتحاد.
في الوقت الذي تزايدت فيه أعداد المتوفين بوباء كورونا في كل من إيطاليا وإسبانيا، قررت العديد من دول الاتحاد الأوروبي حظر تصدير مستلزمات الوقاية الطبية إلى الخارج
رفض إنشاء “سندات كورونا”، سيجعل روما ومدريد والعديد من العواصم الأوروبية غير قادرة في ظل تواصل أزمة انتشار فيروس كورونا على الاستدانة وحدها في أسواق رأس المال كون معدلات الفائدة مرتفعة كثيرًا، واقتصاداتها تعاني مشاكل كبيرة.
قرصنة المواد الطبية
عدم التضامن الأوروبي يظهر أيضًا في التهافت والحرب غير المسبوقة بين دول الاتحاد للاستيلاء على الكمامات وأجهزة التنفس الصناعي لمواجهة الفيروس، حيث اتهمت دول دولًا أخرى بالاستيلاء على شحنات معدات طبية كانت موجهة إليها.
وفي سابقة خطيرة صادرت جمهورية التشيك شحنة من المساعدات الطبية والأقنعة الواقية كانت قادمة من الصين في طريقها إلى إيطاليا، وتقول حكومة التشيك إن الأمر وقع بالخطأ خلال ملاحقة عدد من الأفراد الذين يتاجرون بالمعدات الطبية في هذا الوقت الحرج وتعهد برد الشحنة لإيطاليا، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
وبحسب ما نشرته صحيفة “لاريبوبليكا” الإيطالية، فقد صادرت التشيك آلاف الأقنعة الطبية الموجهة من الصين نحو إيطاليا تحت غطاء عملية أمنية ناجحة لشرطة براغ في إحباط عملية تهريب مئات الآلاف من الأقنعة الطبية خارج البلاد.
وأقرت سلطات التشيك على لسان وزير داخليتها يان هاماتشيك بمصادرتها 680 ألف قناع واقٍ وأجهزة تنفس في مستودع شركة خاصة في لوفوسيتشي بشمال براغ، وبعد تحقيقات تبين أن جزءًا قليلًا من هذه المصادرة هبة صينية لإيطاليا، معربًا عن أسفه للحادثة وأن بلاده تجري مشاورات مع الصين وإيطاليا.
في سلوفاكيا البلد العضو في الاتحاد الأوروبي، قال رئيس الوزراء بيتر بيليغريني قبل أيام إن حكومته تعلمت الشهر الماضي درسًا مفاده أنه عندما يتعلق الأمر بشراء شحنات كمامات فإن النقد هو سيد الموقف، وأخبر بيتر بيليغريني كيف أن حكومته جهزت أموالًا بقيمة 1.2 مليون يورو لشراء شحنة كمامات من مصنع صيني، وأعدت طائرة حكومية خاصة لنقل الشحنة، إلا أن تاجرًا من ألمانيا سبقهم إلى المُصنع الصيني، وحصل على الشحنة بعدما دفع أموالًا أكثر.
كما اتهمت شركة “مولنليك” الطبية السويدية، السلطات الفرنسية بمصادرة ملايين الأقنعة الواقية والقفازات الطبية، التي استوردتها من الصين لصالح إيطاليا وإسبانيا، ووصف المدير التنفيذي للشركة ريتشارد تومي في البيان، تصرف السلطات الفرنسية بأنه غير متوقعة ومزعج لأبعد الحدود.
وقف التصدير
في الوقت الذي تزايدت فيه أعداد المتوفين بوباء كورونا في كل من إيطاليا وإسبانيا وحاجة هذه الدول الملحة للأجهزة الطبية والوقائية لوقف انتشار الفيروس وإنقاذ دولهم، قررت العديد من دول الاتحاد الأوروبي حظر تصدير مستلزمات الوقاية الطبية إلى الخارج.
فألمانيا قررت حظر تصدير مستلزمات الوقاية الطبية للخارج، وأعلنت لجنة إدارة الأزمات التابعة للحكومة أن وزارة الصحة الاتحادية ستتولى تدبير هذه المستلزمات على نحو مركزي بالنسبة للعيادات الطبية والمستشفيات والسلطات الاتحادية، وسيُجرى استثناء ذلك فقط تحت شروط ضيقة، مثل التصدير في إطار حملات إغاثة دولية.
كل هذه المؤشرات التي ظهرت خلال جائحة كورونا، أثبتت توتر العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي وافتقاد هذا الاتحاد القاري إلى التضامن وضيق أفق التعاون بين الدول الأعضاء فيه، كما أظهرت عدم فاعلية مؤسساته في حل الأزمات الخطيرة، فالمنافع القومية أهم من مصالح الاتحاد.