حين ضرب الطاعون أوروبا عام 1347، كان أحد الإجراءات التي اتخذتها طبقة النبلاء الإبقاء على الفلاحين في الأراضي الزراعية، بالقوة أحيانًا أو بمضاعفة أجورهم أحيانًا أخرى رغم رغبتهم في مغادرة المدن الموبوءة، ولأنهم من العبيد، كان عليهم أخذ إذن بالخروج وهو ما كان يُواجه بالرفض، ما زاد نسبة الوفيات لتصل إلى ثلث أوروبا. مر أكثر من 6 قرون على ذلك الوباء، تغيرت فيه أمور كثيرة، لكن أمرًا يبدو أنه لا يتغير: أصحاب رؤوس الأموال!
يقول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة له: “لا يمكننا أن ندع العلاج ليكون أسوأ من الفيروس، سنعود خلال 15 يومًا وسنقرر بأي طريق نسير”!
أرقام مرعبة
يُثار جدل كبير في الولايات المتحدة ومعظم الدول الصناعية بشأن ضرورة عودة المصانع إلى العمل رغم انتشار فيروس كورونا، خوفًا من خسارة الشركات وانهيار الاقتصاد، خيار يريد الرئيس فرضه لكنه يجد معارضة قوية من خبراء الصحة في فريقه الحكومي الذين اكتسبوا – بطبائع الظروف – قوة إضافية لفرض رأيهم.
وخلاصة المعركة الدائرة أن واشنطن تواجه خيارين:
- الاستمرار بالحجر المنزلي والعمل عن بعد، وربما فرض حظر للتجوال: عندها قد يجد 30% من السكان أنفسهم عاطلين عن العمل.
- العودة للعمل بشكل معتاد شرط الحفاظ على إجراءات التباعد الاجتماعي: ما قد يسبب كارثة صحية تصيب في جزئها الأكبر كبار السن.
يصر الأطباء على الخيار الأول، فأعداد الوفيات والإصابات ترتفع بشكل مخيف يصعب معه ذكرها هنا لتغيرها المستمر، وطبيعة الفيروس وإمكانية انتشاره في الأماكن المزدحمة ستقود لخسائر في الأرواح تجعل أحداث الحادي عشر من سبتمبر مجرد نزهة.
كشف تقرير أعده 50 خبيرًا من مركز مكافحة الأمراض المعدية والحساسية “C.D.C”، أرقامًا مرعبةً حال استمر كوفيد-19 بالانتشار:
“يمكن للفيروس أن يصيب ما بين 160-214 مليون شخص في الولايات المتحدة، وفقًا لمحاكاة تشمل نطاقًا في عدة سيناريوهات. قد يدوم الوباء شهورًا أو حتى أكثر من عام، ومع تركز العدوى في مجتمعات متداخلة يمكن أن يموت 200.000-1.7 مليون شخص”.
أرقام كبيرة ليست على المخيلة فقط، وإنما على القطاع الصحي بكل تأكيد، وبحسب جمعية الصحة الأمريكية، لا يملك القطاع الصحي إلا 925 ألف سرير ما يعني أن 10% تقريبًا من 2.4-21 مليون مريض سيكونون بحاجة للرعاية، وهم من سيحصلون على العلاج.
وهكذا يطرح الأطباء نقطتين رئيسيتين في حربهم ضد إعادة الحياة لطبيعتها رغم المرض:
- عودة الاحتكاك المباشر سيؤدي إلى ملايين الإصابات ومئات آلاف الوفيات حتى مع أكثر التوقعات تفاؤلًا.
- هذا الكم من الوفيات لن يضغط على القطاع الصحي وحسب، بل ربما يفضي للانهيار، ما يعود بالنتيجة بطريقة عكسية على الاقتصاد.
وطالما أن عملية إنتاج اللقاح تستغرق بأحسن الظروف عامًا ونصف، فإن الحل الوحيد المتاح الآن هو الحجر الصحي، في هذا الصدد، يقول الدكتور أنتوني فاوتشي مدير معهد الأمراض المعدية: “إجراءت العزل والتباعد الاجتماعي آتت ثمارها في الصين، الوباء ينتشر لأن باقي الدول اختزلت إجراءاتها بالتباعد والتعقيم فقط، ما يعطي وقتًا للفيروس للتنقل، ولذلك تتصاعد الأرقام بأكثر من المتوقع”.
رأي الأطباء هذا، يصطدم بتيار جارف من مجموعات المال والاقتصاد يقودهم دونالد ترامب، تدعو لإعادة الامور إلى نصابها لأن هذا العلاج ببساطة، سيقتل الناس أكثر من الفيروس.. فقط بطريقة أخرى!
انتصار المال على الروح!
قرر الرئيس ترامب دفع حزمة من المساعدات للاقتصاد بقيمة تريليوني دولار، تحصل بعض العوائل بموجبها على 1200 دولار كمنحة طوارئ في فترة توقف العمل، لكن السؤال الأهم: كم من الوقت يستطيع الاقتصاد الأمريكي الصمود؟
في شهر مارس وحده، خسر 701 ألف أمريكي وظائفهم ليصل مجموع العاطلين منذ فبراير إلى 1.8 مليون شخص، مع توقعات باحتمالية خسارة 30% من الموظفين أعمالهم وهي نسبة أعلى مما حصل في الركود العظيم عام 1929 حين وصلت البطالة إلى 24% فقط!
أزمة فيروس كورونا كشفت الوجه الآخر للرأسمالية في تقديم مصلحة أصحاب الشركات ورؤوس الأموال على أرواح البشر
يتساءل محافظ نيويورك أندرو كومو عن القدرة على استمرارية الوضع الحاليّ، قائلًا: “لا يمكنك إيقاف الاقتصاد إلى الأبد لذا علينا أن نبدأ في التفكير: هل يبقى الجميع خارج العمل؟ هل يجب أن يعود الشباب عاجلًا إلى العمل؟ هل يمكننا أن نجري اختبارات على أولئك الذين أصيبوا بالفيروس وشُفوا منه، وهم الآن محصنون؟ هل يمكنهم البدء في العودة إلى العمل؟”.
بينما قال السياسي البريطاني ستيف هيلتون بقناة فوكس نيوز: “تسبب الفيروس بصعود الرسم البياني للمصابين، لكنه تسبب بصعود الرسم البياني للمتضررين منه أيضًا، لا أدري لماذا لا يركز الناس على هذا الأمر، هناك من خسر وظيفته ومنزله، ونحن ننتظر ركودًا أكبر من الركود العظيم، هل تعرفون إلى أي منطقة نتجه؟ نحن متجهون نحو أن يكون العلاج أسوأ من الفيروس”.
ولتبرير الموضوع، يُعاد تعريف مفهوم الصحة العامة ليضم مفردات جديدة من ضمنها الحفاظ على الاقتصاد كما يقول لويد بلانكفين المدير لسابق لبنك غودن ساكس: “الإجراءات المتطرفة لتسطيح “منحنى” الفيروس معقولة لفترة من الوقت لتمديد الضغط على البنية التحتية الصحية. لكن سحق الاقتصاد والوظائف والمعنويات هي أيضًا قضية صحية والآن يجب أن يعود أولئك المعرضون بنسبة أقل للإصابة بالمرض إلى العمل في غضون أسابيع قليلة”.
وتبقى اللقطة الأكثر درامية ما قاله حاكم تكساس دان باتريك بشأن التضحية بكبار السن من أجل البلد “لا تضحوا بالبلد، يجب أن تعود الأعمال لطبيعتها، وبالنسبة لأولئك الذين بلغوا السبعين من أعمارهم، سنعتني بأنفسنا لكن لا تضحوا بالبلد إن وجود البلد مهدد بسبب هذا الحجر، ولذا يجب العودة إلى العمل”.
هكذا هبّت عاصفة من المطالبات بعودة العمل وتخفيف إجراءات الحظر الصحي بل وحتى التلميح بتطبيق إجراءات مناعة القطيع من رجال الأعمال وأصحاب المحال التجارية “لأننا لا يمكن أن نترك الفيروس يدمر اقتصادنا، الناس أذكياء بما يكفي للبقاء بعيدًا عن زملائهم الآخرين”، على حد تعبير داون ميشيل، من هي داون ميشيل؟ لا يهم طالما أن رأيها يوافق دونالد ترامب الذي أعاد تغريدتها على تويتر!
إن أزمة فيروس كورونا كشفت الوجه الآخر للرأسمالية في تقديم مصلحة أصحاب الشركات ورؤوس الأموال على أرواح البشر، تصطف أرقام الضحايا والمصابين مع أرقام خسائر شركة جنرال إليكتريك وشيل وفورد ونقاط بورصة داوجونز، وينشأ جدال مجتمعي عنيف تنخرط فيه جيوش المفكرين ومدافع الإعلام عن أيهما الأهم والأولى بالعناية، ثم يبرز الحديث عن مصطلحات مثل مصلحة البلد وحالة الاتحاد لتبرير عودة موظفين يُنتظر دفن آلاف منهم بعد أسبوعين من اختلاطهم ببعضهم، ولا بأس بموت المسنين فهذه حقيقة بيولوجية تتعلق بالانتقاء الطبيعي الذي يتيح البقاء للأقوى حسب نظرية التطور!
تدعم الحكومة الاقتصاد الآن، لكنها قريبًا سترفع يدها عنه تاركة المجال لأرباب العمل يخيرون الناس بين الموت جوعًا أو الموت في أثناء العمل “سخرة” وهذا في الولايات المتحدة الأمريكية.. وليس جمهورية الصين الشعبية!