التصق تاريخ أوزبكستان بالعديد من الأمم العظيمة والتمردات الكبيرة وأسماء كبار العلماء الذين أسهموا في تطور العلوم الإنسانية، كما ازدادت أهميتها في المنطقة على المستوى الجغرافي والديموغرافي، ولكن اليوم تعتبر هذه الدولة واحدة من أكثر الديكتاتوريات جنونًا وقهرًا في العالم، حتى إن البعض يعتقد أنها أضفت لمسات فريدة من نوعها على مفهومنا عن الديكتاتوريات، وتتشابه بجرائمها وقمعها مع نموذج كوريا الشمالية، إلا أن الأخيرة تحظى باهتمام إعلامي أكبر، وذلك ما يجعل أوزبكستان واحدة من أكثر الدول سرية وانغلاقًا في العالم.
وضمن ملف “دول معزولة”، نحاول التعرف في هذا التقرير على الخلفية التاريخية والاجتماعية لأوزبكستان، ونتناول القضايا والأحداث التي جعلتها واحدة من أسوأ منتهكي حقوق الإنسان في العالم.
الحضارة الإسلامية في مدن أوزبكستان
استقر الناس على أراضي أوزبكستان منذ قرون، وبنوا مدنًا جميلة في سمرقند وبخارى وخيفا وغيرها، وكلما تدمرت إحداها، عادت ونهضت من جديد لتصبح أكثر ازدهارًا. شكلت هذه المنطقة ملتقى لقوافل الطرق التجارية حيث كانت محطة على طريق الحرير العظيم الذي تأسس في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بين الصين وأوروبا، وجعل طشقند وبخاري مدنًا ثرية ومراكز تجارية في الخريطة الاقتصادية، ما أكسبها قوةً وثقلًا غير مسبوق، إذ كانت تصل بضائعها إلى أبعد المناطق في أوروبا وآسيا.
وفقًا لعلماء الآثار، تعد أوزبكستان واحدة من أقدم الأماكن التي سكنها البشر على مر التاريخ، فقد تعاقبت عليها الإمبراطوريات والحضارات والسلالات إلى أن فتحها العرب المسلمون في القرن الثامن الميلادي، فاعتنق غالبية سكانها الإسلام واستولى عليها جنكيز خان في القرن الثالث عشر الميلادي، ثم استولى عليها تيمور لنك عام 1361، واستولت عليها روسيا القيصرية عام 1865. يذكر أنها اقتبست اسمها من أوزبك خان (1312-1340) أحد خانات القبيلة الذهبية (قبيلة تركية من أصل مغولي).
أخذت مدنها طابعًا إسلاميًا بديعًا لا سيما أن العديد من مدنها كبخاري وسمرقند وطشقند العاصمة وخوارزم أنجبت أعلامًا مثل الأئمة البخاري والنسائي والزمخشري والترمذي، وعلماء آخرين مثل الخوارزمي والبيروني والماتريدي وعلي شير نوائي ومحمد بهاء الدين شاه نقشبندي، ما منحها بعدًا تاريخيًا واقتصاديًا أيضًا، فبسبب ثرائها التاريخي نشطت السياحة الدينية لديها وباتت وجهة رئيسية لمحبي الآثار التاريخية الإسلامية.
لفتت هذه المدن المزخرفة بالمساجد والقصور والأضرحة والقبب العديد من الشعراء والأدباء العرب والأباطرة الذين حكموا العالم مثل الإسكندر الكبير الذي وصف سمرقند قائلًا: “كل شيء سمعته عن سمرقند كان صحيحًا. الفرق الوحيد أنها أكثر جمالًا مما تصورت”، أو الروائي اللبناني أمين معلوف الذي كتب عن مدينة سمرقند (ثاني أكبر مدينة في أوزبكستان) في رواية تحمل اسمها.
ويضاف إليهما انبهار ابن بطوطة الذي وصف طشقند بقوله: “إنها من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالًا، مبنية على شاطئ وادٍ يعرف بوادي القصَارين. فقد كانت تضم قصورًا عظيمة، وعمارة تُنْبئ عن هِمم أهلها”، حيث تنتشر فيها قصور عدة مثل قصر دلكشا (القصر الصيفي) وقصر باغ بهشت (روضة الجنة) وقصر باغ جناران (روضة الحور).
أو كما ذكر الرحالة العربي ياقوت الحموي، مدينة بخارى، قائلًا: “بُخَارى هي أعظم مُدُن ما وراء النهر وأجلها، يُعبَر إليها من آمُل الشّطّ، وبينها وبين نهر جيحون يومان من هذا الوجه، وكانت قاعدة ملك الإمارة السامانية” .
مجتمع الأوزبك
تعد أوزبكستان أكبر دول وسط آسيا من حيث عدد السكان الذي بلغ نحو 32 مليون نسمة. رسمت الحدود مع كزاخستان عام 2005، ولكن النزاع مستمر بشأن بعض المناطق الحدودية مع طاجيكستان وقرغيزستان. يجمع التنوع العرقي فيها بين الأوزبك بنسبة 80% والروس بنسبة 5.5% ويتبعهم الطاجيك بنسبة 5%، وغيرها من الطوائف مثل الكازاخ والكاراكالباك والتتار والأرمن، ونتيجة لهذا الخليط تنوعت اللغات المحكية أيضًا، إذ يتحدث 74% منهم اللغة الأوزبكية (لغة تركية مكتوبة بالأبجدية اللاتينية)، و14% الروسية و4% الطاجيكية.
حصلت على استقلالها عام 1991 وترأسها كريموف كأول رئيس للبلاد وعند وفاته عام 2016، تولى شوكت ميرزيوييف المنصب
علمًا أن الطاجيكية هي الأكثر انتشارًا في مدينتي بخارى وسمرقند، لأنها بالأساس كانت جزءًا من جمهورية طاجيكستان لكن جوزيف ستالين، زعيم الاتحاد السوفيتي، أراد فصل المنطقة الطاجيكية في جمهورية منفصلة ليجعل منها منطقة عازلة بين الاتحاد السوفيتي والعالم الإسلامي، وبالتالي يخفف من التأثير الطاجيكي في الإقليم، إذ يدين 88% من السكان بالدين الإسلامي، بينما يؤمن 9% بالمسيحية الأرثوذكسية والبقية يتبعون الدين اليهودي، وبصفة عامة ينص دستورها على أنها دولة ذات نظام علماني ديمقراطي تحترم حرية التعبير وممارسة العبادات.
وتعتبر الروسية لغة التواصل في المدن الكبيرة والدوائر الحكومية، كما هو الحال في غالبية جمهوريات آسيا الوسطى، وذلك إلى أن حصلت على استقلالها عام 1991 وترأسها كريموف كأول رئيس للبلاد وعند وفاته عام 2016، تولى شوكت ميرزيوييف المنصب وعزم على تغيير ملامحها الاقتصادية وإدخال إصلاحات عديدة على نظامها وتحسين العلاقات مع الدول المجاورة مثل طاجيسكتان وقيرغيزغستان وأفغانستان، ما جعل البعض يصف هذه القرارات بـ”الثورة الهادئة”.
الاقتصاد.. إصلاحات مشروطة
تدير أوزبكستان رابع أكبر احتياطي للذهب في العالم، وهي السابعة عالميًا من حيث الإنتاج المقدر بنحو 80 طنًا، فضلًا عن امتلاكها ثروات أخرى كالنحاس والفضة والفحم واليورانيوم (رابع أكبر منتج) والرصاص والزنك، وذلك مع حكمها على منشآت توليد الطاقة العملاقة وإمدادات كافية من الغاز الطبيعي، ما يمنحها مرتبة أكبر منتج للكهرباء في آسيا الوسطى، يضاف إلى ذلك أهم مكوناتها الاقتصادية ومواردها المالية وهو إنتاج القطن الذي يمثل نحو 45% من صادراتها، إذ تعد سادس أكبر منتج للقطن وثاني أكبر مصدر في العالم.
إجراء إصلاحات اقتصادية لن يجدي نفعًا أو يحدث فرقًا في بلد تغيب عنه الديمقراطية وحرية التعبير، لأن غياب هذه المعايير تثير القلق لدى المستثمرين الأجانب
تعتمد في صادراتها بشكل رئيسي على النفط والغاز الطبيعي والذهب والآلات والمعدات والأغذية، بينما تستورد المنتجات الكيميائية والأغذية والمعادن، والشركاء التجاريون الرئيسيون هم روسيا والصين وكازاخستان وجمهورية كوريا وأفغانستان وتركيا وأوكرانيا وألمانيا وهولندا، وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة.
ورغم امتلاكها عددًا من الموارد الطبيعة القيمة، فإن حكم إسلام كريموف لأوزبكستان بقبضة حديدية من أواخر الثمانينيات حتى وفاته عام 2016، لم يترك مجالًا للإصلاحات الاقتصادية، ولكن خلفه الرئيس شوكت ميرزيوييف أظهر في الآونة الأخيرة بعض الرغبة في التغيير، فمنذ يناير 2019، أجرت حكومته تخفيضات كبيرة في معدلات الضرائب لكل من الشركات والأفراد، كما ألغت نظام التأشيرة لأكثر من 50 دولة للترويج للسياحة والأعمال التجارية، وجددت التزامها بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية.
تشير هذه السياسات إلى جهود ميرزيوييف في كسر عزلة أوزبكستان الدولية وركودها الاقتصادي، على أمل جذب الاستثمارات ورؤس الأموال الأجنبية وإحداث ثورة في نموذجها الاقتصادي ولكن لا يزال أمامها طريق طويل، إلا أنه واضح ومحدد المعالم، إذ يعمل ميرزيوييف، المحرك الرئيسي وراء المحاولات الأخيرة لإنعاش الاقتصاد، على تحقيق 5 أهداف: الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وتسريع الانتقال من الاقتصاد الذي تقوده الدولة إلى نظام يحركه السوق وتحسين الخدمات الاجتماعية وتعزيز دور الحكومة في اقتصاد السوق والحفاظ على الاستقرار البيئي.
ومع أنها تمتلك مقومات جيدة لخوض هذه التجربة الإصلاحية، إلا أن بعض المحللين يعتقدون أن إجراء إصلاحات اقتصادية لن يجدي نفعًا أو يحدث فرقًا في بلد تغيب عنه الديمقراطية وحرية التعبير، لأن غياب هذه المعايير تثير القلق لدى المستثمرين الأجانب الذين يبحثون عن الاستقرار والأرباح المؤكدة.
أوزبكستان السوفيتية.. قمع الميول الثقافية والدينية المحلية
أمضت البلاد نحو 200 سنة كجزء من الإمبراطورية الروسية، ثم بعد ذلك انتقلت إلى جحر الاتحاد السوفيتي، قبل أن تظهر كدولة مستقلة عندما انتهى الحكم السوفيتي عام 1991. في السنوات الأولى من الهيمنة السوفيتية في أوزبكستان، ساهمت السلطات في محو الأمية وبناء المدارس وجلب التطوير التقني، في الوقت نفسه تم تدمير نمط الحياة والثقافة التقليدية.
في فترة الثلاثينيات، دخلت البلاد إلى مرحلة جديدة من التحديث والإنعاش، شملت إنشاء مصانع لمختلف الصناعات الخفيفة والثقيلة، وأعيد بناء المدن القديمة، وكما هو الحال في سنواتها الأولى، عانت أوزبكستان خلال هذه الفترة أيضًا من قمع ستالين السياسي لعدد من الشخصيات السياسية والثقافية البارزة في المجتمع الأوزبكي، ونتيجة لذلك عانت الحياة الفكرية والثقافية لأوزبكستان من الصدمة لعقود عدة.
ساعدت وفاة الزعيم السوفيتي ستالين عام 1953 على تحرير المؤسسات الأوزبكية من بعض الضغوط السلبية في عصره، وسرعان ما فتحت أبواب طشقند مرة أخرى للزوار غير الشيوعيين من الغرب بعد عقود من العزلة، وبدأت حينها أوزبكستان استعادة الاتصال المباشر بالعالم الخارجي، وعلى الرغم من تخفيف بعض القيود على الصحافة والمراكز الثقافية، واصلت القيادة الشيوعية لأوزبكستان سيطرتها الصارمة على الجمهورية.
الانغلاق الكامل
في السنوات الأولى من الاستقلال، تضاءلت درجة التنوع في سكان أوزبكستان حيث أصبح العديد من الناس، بما في ذلك اليهود وتتار القرم والألمان واليونانيين والأتراك والسلاف، قلقين من المركزية العرقية الأوزبكية وبدأوا في الهجرة، وكانت تلك إحدى ألاعيب إسلام كريموف الذي عرف بقسوته في إنهاء جميع أنواع المعارضات والحراكات المجتمعية من أجل تثبيت حكمه المطلق وتوطيده داخليًا في بلد غالبية سكانه من المسلمين ولكنه عاش نحو 70 عامًا في ظل حكم شيوعي همّش التعبير الديني وحرية المعتقد.
سعى آنذاك كريموف إلى تحقيق الاستقرار على حساب الحقوق السياسية وحقوق الإنسان، إذ لاحق المعارضين السياسيين خاصةً أولئك الذين ينادون بقيام دولة إسلامية، ولم تكن السيطرة على هذه الفئة من المعارضة أمرًا صعبًا لأنه في عام 1998 تم سن قانون ديني يعطي الحكومة صلاحيات مطلقة لسحق أي نشاط ديني غير مقنن، وبذلك كان أي ظهور لأي حركات أو أحزاب دينية يصطدم بالعداء السياسي الساحق.
وبلغت المأساة ذروتها في مايو/أيار 2005، عندما فتحت قوات الشرطة النار على مجموعة كبيرة من المتظاهرين الذين تجمعوا في مدينة أنديجان، وقتل على إثرها ما بين 700 إلى 1500 مدني، وواصلت الشرطة حملتها الوحشية بإرغام الناس على الاعتراف بأنهم ينتمون إلى منظمات دينية متطرفة والإقرار بأن الاحتجاجات كانت عنيفة وأنهم كانوا مسلحين.
أثارت الحادثة إدانة دولية – وبعض العقوبات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة – لكن الوضع القمعي لأوزبكستان ظل كما هو، فبدلًا من ملاحقة مرتكبي المذبحة ومحاسبتهم، تنصلت الحكومة من المسؤولية وكممت أفواه الشهود، إذ ذكر تقرير يحمل عنوان: “دفن الحقيقة: أوزبكستان تعيد كتابة رواية مذبحة أنديجان”، أنه تم اعتقال 11 ناشطًا على الأقل، وأرغم 15 ناشطًا على الأقل على الفرار خارج البلد، كما أجبر العديد من ناشطي المجتمع المدني الآخرين على التخلي عن عملهم بسبب محاولتهم كشف ما جرى في ذاك اليوم.
إلى الآن، ومع وفاة كريموف عام 2016، وتبني ميرزيوييف خطابات إيجابية بشأن تحسين علاقات أوزبكستان المتوترة مع المجتمع الدولي ورفع الحواجز أمام التجارة واتخاذ خطوات جدية نحو الانفتاح الاقتصادي، لم تشهد البلاد اضطرابات عنيفة كالسابق، ولكن إرث كريموف الثقيل في ملف حقوق الإنسان وحرية المعتقد وحملات القمع التي شنها الشيوعيون بين عامي 1920 و1999 لا تزال واضحة ومسيطرة على طريقة الحكم في أوزبكستان، ما يعني أن التغيير الحاليّ في البلاد ذو دوافع اقتصادية ومن المحتمل أن يكون قصير المدى مع استمرار سياسة الاستبداد التي تتبعها السلطات.