“يا كورونا مالك ومالنا.. يا كورونا سبينا ف حالنا.. إحنا اللي فينا مكفينا.. إيه اللي جايبك عندينا”.. بهذه الكلمات استهل الطفل الأسواني عبد الله الكلحاوي، ابن قرية كلح الجبل بمركز إدفو شمال أسوان (جنوب) أغنيته الجديدة التي حملت عنوان “ياكورونا مالك بينا”، وفي أيام قليلة حققت الأغنية قرابة 5 ملايين مشاهدة على مواقع التواصل الاجتماعي.
كثير من المصريين، لا سيما في شمال البلاد، لم يعرفوا شيئًا عن هذا النوع من الغناء وإن أثار إعجابهم الأداء والكلمات وصوت الطفل الصغير الذي يشبه فنان الجنوب محمد منير، حتى بعد سماع الأغنية والتفاعل معها، قليل منهم فقط من توصل إلى أن هذا النوع من الطرب يسمى “الكف”.
ويعد فن “الكف” من الفنون الأدائية الجميلة التي يتعامل ويتفاعل مبدعوها مع الجمهور مباشرة، وينتشر في محافظات جنوب مصر خاصة أسوان والأقصر ويمتد إلى قنا والوادي الجديد والبحر الأحمر، ويعتمد في المقام الأول على الارتجال، ويشارك فيه الجمهور، فنانيه.
سمي هذا الفن بـ”الكف” نظرًا لأن المشاركين في الحفلات يستخدمون كفوف أيديهم في أثناء تمايلهم وهم يقدمون “الخانة”، وقديمًا قبل دخول الآلات الموسيقية كان الاعتماد على الطبلة مع صوت ضرب الكفوف، ورغم قدم هذا الطرب، فإنه يتمتع بشعبية كبيرة لدى سكان الصعيد.
فن فرعوني
يرجع تاريخ هذا الفن إلى عصر الفراعنة، حيث وجدت الكثير من النقوش الخاصة به على جدران المعابد والمقابر، خصوصًا مقابر العساسية في البر الغربي لمدينة الأقصر، ومن ثم حرص أهل المدينة الجنوبية على الحفاظ عليه مع إدخال بعض التطورات في ألحانه وتوزيعه بما يناسب العصر.
وهو عبارة عن مقطوعات متفرقة من الأغاني يلقيها فنان أمام مجموعة من الشباب، وتسمى خانة “جزء من موال مربع”، حيث يبدأ الفنان بالغناء عليها ويلزم الغناء على الخانة وموضوعها بقوافٍ وأوزان شعرية مضبوطة بمصاحبة ضارب الدف، وهم جالسون على أريكة أو أكثر ومن حولهم المساند، ثم يأتي الكفافة (من يصفقون بالكفوف) ليقفوا صفًا بالتوازي في مواجهة المطربين.
يرتبط هذا الفن بالقضايا الحياتية العامة، ولذا يطلقون عليه “ابن الواقع” حيث يشتبك مع قضاياه الدائرة سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم رياضية
وتكون البداية بـ”الصلاة على النبي”، ثم يتبعها بمواويل تصف أحوال بيئته وأحوال العاشقين، بعدها يشرع “الكفافة” في ارتجال “خانة” وهم يصفقون، والتصفيقة تحدد سرعة الإيقاع، ويبدأ ضاربو الدف اللعب مع إيقاع التصفيقة، ويتمايل “الكفافة” في حركة واحدة متبعين قائد الصف، وهو يكون أمهرهم في الرقص.
تتنوع المجالات التي يشملها هذا الفن، ما بين موضوعات اجتماعية وثقافية ودينية، وفي الآونة الأخيرة أقيمت العديد من حفلات الكف في الشوارع احتفالًا بالأعراس، وبات الإقبال على فناني هذا الطرب أكثر من مشاهير الغناء في مصر، حيث يحرص العريس على حضور هذه الفرق ويشدد عليها أكثر من حرصه على إقامة العرس ذاته.
وفي الأعراس يُصنع لفنان الكف مسرح مرتفع عن الأرض ويكون من خلفه فرقته الموسيقية المكونة من عواد وطبال ودف بشكل أساسي وقد يضاف إليه بعض الأدوات الغنائية الأخرى، وهذا الفنان يستقبل ما يطلق الخانات من الكفاف، ليتحول العرس إلى ما يشبه الأمواج المائلة يمينًا ويسارًا.
الخانة والتحدي
هناك لونان أساسيان لفن الكف، الأول هو الذي يكون فيه فنان واحد منفرد، يتلقى “الخانة” ويرتجل عليها، والثاني يطلق عليه فن “التحدي” وهو وثيق الصلة بفن النقائض والهجاء الذي عرف في العصر الأموي، ويشترك فيه فنانان عادة، يستقبلان “الخانة” ويبدأ كل منهما في هجاء الآخر.
ومن أشهر الأغاني التي حققت شعبية كبيرة وكانت لها دور كبير في تعريف الشارع المصري بهذا الطرب، أغنية “نعناع الجنينة” التي غناها محمد منير، وقال إنها من التراث النوبي، الأمر الذي أغضب بعض فناني الكف ومنهم الفنان رشاد عبد العال الذي استنكر نسبها إلى الجنوبيين، لافتًا إلى أن جميع الأبيات التي غناها منير من تأليف مغني الكف، وقد تجاوز عدد أبيات هذه الأغنية المئات ويُوصلُها البعض إلى الآلاف.
ومن بين الأغاني الشهيرة أغنية “بتناديني تاني ليه” التي ارتجل لها أغلب فناني الكف ومنهم الفنان سيد أبو ركابي والفنان ربيع البركة والفنان جابر العزب، وبلغت شهرتها أن تناولتها العديد من الأعمال السينمائية الحديثة، على رأسها فيلم “لف ودوران” للفنان أحمد حلمي، حيث غنتها الفنانة دنيا سمير غانم.
ابن الواقع
يرتبط هذا الفن بالقضايا الحياتية العامة، ولذا يطلقون عليه “ابن الواقع” حيث يشتبك مع قضاياه الدائرة سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم رياضية، فأي أحداث جارية أو قضايا رأي عام، تكون حاضرة فيه، لذا تجد أغانٍ عديدة عن ثورة 25 يناير والانتفاضة الفلسطينية والعدوان الأمريكي على أفغانستان والعراق.
حتى كرة القدم لم يتركها هذا الفن، إذ تطرقت بعض الأغاني إلى مباراة مصر والجزائر الشهيرة في أم درمان بالسودان، وحين خسر الأهلي في 2007 دوري أبطال إفريقيا، غنى أحد فناني الكف الذي يشجع نادي الزمالك “من قلب القاهرة أخدوا الكاس”، وحين اتسعت ظاهرة زواج شباب الأقصر من الأجنبيات السائحات القادمات لزيارة المدينة التي تحوي ثلث آثار العالم، تصدى “الكف” لهذه الظاهرة بقوة وعمل على توعية الشباب من الوقوع في هذه الورطة والزواج من الأجنبيات خاصة الكبيرات في السن.
كان هذا الفن حاضرًا بقوة مع تفشي فيروس كورونا، حيث حشد الفنانون جهدهم لتوعية الناس بخطورة هذا الفيروس وسبل الوقاية منه
وفي الآونة الأخيرة ومع تزايد ظاهرة السفر لأوروبا عن طريق الهجرة غير الشرعية، عمد عدد من الفنانيين إلى مناقشة هذه القضية وإلقاء الضوء عليها، حتى قبل أن تلتفت إليها السلطات الرسمية ذاتها، فخرجت بعض الأغاني التي تطرقت لتلك المسألة منها “كله عاوز يتغرب”.
كما كان هذا الفن حاضرًا بقوة مع تفشي فيروس كورونا، حيث حشد الفنانون جهدهم لتوعية الناس بخطورة هذا الفيروس وسبل الوقاية منه، فها هو الطفل الكلحاوي في أغنيته “ياكورونا مالك بينا” يقول “بالالتزام والنظام تكون نهايتك عندينا، وبتخطيط الدولة لينا.. ملكيش مكان وسطينا.. إلى أسوان إلى سينا.. بتخطيط الدولة لينا.. يا كورونا مالك ومالنا.. يا كورونا سبينا ف حالنا.. بالالتزام والنظام نهايتك عندينا.. يا كورونا مالك ومالنا”.
كذلك غنى الفنان ياسر رشاد، في إحدى الحفلات، أغنية يحذر فيها الناس من السلام باليد ويسخر من الزمن الذي أجبر الناس على لبس الكمامة ويطالب الأهالي أن يتحاشوا “الداحشة” أي الناس الذين لا يفهمون ويستهينون بالفيروس الخطير “من ضمن الدول ناس في المرض ذكرونا.. وبقينا قدوة للي في صبرنا شكرونا.. وصمنا عن الزاد ونفسنا عافت المكرونا.. واللي زاد وغطا فيروس الكورونا.. فوق كل المصايب جاتنا الكمامة.. وبقيت حكوة للي بيغنوا والنمامة.. وعلى آخر الزمن هنمشي بالكمامة.. يسلم حبله لله الزول ولا دا حاشه.. ولا بيسمع كلام للجهلة والدحاشة… ولو وحشك صديق ما شفت منه واحشة.. خاف العطسة سلم من بعيد وتحاشه”.
وفي ظل هذا الحضور البراق والمشاركة المجتمعية الملفتة، يستعيد هذا الفن الشعبي الموروثي بريقه مجددًا ليعود للأضواء مرة أخرى بعد سنوات من التجاهل الإعلامي له، ليثبت أن التراث وإن طال به الزمن يبقى محفورًا في ذاكرة الأمة، يخرج وقت الأزمات ليمارس دوره التوعوي والجمالي كما كان في السابق.