كان الشيخ سليم البيطار من أبرز علماء حي الميدان الدمشقي، وكان يلقب “الفرضي” فهو المرجع في علم الفرائض ومسائل المواريث.
أنجب الشيخ سليم أربعة أبناء كانوا جميعًا من العلماء والمشايخ المعروفين في دمشق، وهم الشيخ محمد البيطار وكان يشغل منصب أمين عام الفتوى في دمشق، والشيخ عبد الرزاق البيطار وقد ألف حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، والشيخ عبد الغني البيطار وكان بارعًا في الفقه الشافعي حتى لقبه المشايخ بـ”الشافعي الصغير”، والشيخ خير البيطار الذي كان من أبرز دعاة حي الميدان الدمشقي وأنجب مجموعة من الأبناء أحدهم ولد سنة 1912 وأسماه صلاح الدين.
فصلاح الدين البيطار هو ابن بيئة أسرية زاخرة بالعلماء والدعوة الإسلامية، غير أنه فور انتهاء دراسته الثانوية انتقل إلى جامعة السوربون في فرنسا ليدرس تخصص الفيزياء، وهناك في السوربون كان اللقاء الأول بينه وبين ميشيل عفلق، وغدت العلاقة أوثق من مجرد صحبةٍ دراسية لينتقل إلى الفكر النقيض للفكر الذي تربى عليه في دمشق وليتبنى الفكر الاشتراكي الفرنسي ويكفر بمبادئ الإسلام وتعاليمه.
صلاح البيطار .. في دمشق بوجهٍ جديدٍ
عاد صلاح الدين إلى دمشق لينخرط في سلك التدريس غير أنه سرعان ما بدأ عمله السياسي مع رفيقه عفلق ليشكلا معًا “جمعية الإحياء العربي” فاستقال من التدريس عام 1942 ليتفرغ لرسالة البعث التي شارك في تأسيس حزبها “حزب البعث العربي الاشتراكي” مع رفيقه عفلق وحليفهما أكرم الحوراني.
اللافت في هذه العلاقة بينه وبين عفلق حجم تناقض كل مهما مع بيئته الأسرية التي نشأ فيها، فعفلق الذي نشأ في بيئة مسيحية أرثوذوكسية كان أشد اعتزازًا بالإسلام من صلاح الدين البيطار، وكان يرى أن الإسلام أحد مكونات القومية العربية ورافدٌ عميق لا يمكن للقومية العربية أن تقوم دونه.
بينما صلاح الدين البيطار الذي نشأ في بيئة مشيخية شرعية كان رافضًا عنيفًا للإسلام إلى درجة العداء معه، حتى إنه حذف من اسمه كلمة “الدين” فكان يرفض أن ينادى صلاح الدين ويصر أن اسمه فقط “صلاح البيطار”.
مع الوحدة ومع الانفصال
كان صلاح البيطار من أوائل الموقعين على وثيقة الوحدة بين سوريا ومصر ومن أبرز الداعين إليها، وكانت المفاجأة أنه أيضًا كان من أوائل الموقعين على وثيقة الانفصال وإنهاء الوحدة عام 1961، وهنا برز الموقف المتناقض بين البعثيين والإسلاميين.
فالبعثيون المنادون بالقومية ورافعو شعار الوحدة العربية كانوا أول من وقع على وثيقة الانفصال وإنهاء الوحدة، بينما الإسلاميون الذين ذاقوا الويلات من جمال عبد الناصر ونكل بهم نظام الوحدة تنكيلًا فظيعًا، رفضوا رفضًا قاطعًا التوقيع على وثيقة الانفصال وكانوا كلهم يرددون عبارة الأستاذ عصام العطار: “الوحدة أكبر من أخطائها”.
أصدرت قيادة البعث الجديدة عام 1969 حكمًا بالإعدام الغيابي على البيطار
وعندما ارتفعت الأصوات الشعبية مستنكرةً هذا التناقض البعثي الصارخ بين المنطلقات النظرية والأهداف المعلنة في الوحدة والحرية والاشتراكية والتطبيق العملي السلوكي، سارع صلاح البيطار إلى إعلان سحب توقيعه على وثيقة الانفصال في محاولةٍ لحفظ ماء الوجه، معلنًا أن سبب سحب توقيعه على وثيقة الانفصال هو ما تبين له من أن هذا الانفصال ضد وحدة النضال في الوطن العربي، ولكن ما فائدة هذا بعد أن انتهى كل شيءٍ وقضي الأمر؟!
رئيس الوزراء البعثي المنقلب والمنقلب عليه
كان صلاح البيطار أحد أهم أعمدة انقلاب البعث في الـ8 من مارس/آذار 1963 وكان رئيس وزراء حكومة البعث الأولى التي شكلها مجلس قيادة الثورة عقب الانقلاب، فكان أحد أبرز الذين رسخوا سلطة الانقلاب وقمعوا الحريات وألغوا كل الأحزاب عدا الحزبين الشيوعي والناصري اللذين أيدا الانقلاب.
واستمر صلاح البيطار رئيسًا للوزراء أربع مرات متتالية إلى حين قيام صلاح جديد وحافظ الأسد بانقلابهما البعثي على البعث نفسه الذي عرف باسم حركة 23 فبراير/شباط 1966.
اعتقل صلاح البيطار فترةً يسيرة تمكن بعدها من الفرار إلى بيروت واستقر فيها، وفي عام 1969م أصدرت قيادة البعث الجديدة حكمًا بالإعدام الغيابي على البيطار، وفي عام 1970 عندما قام حافظ الأسد بانقلابه حاول مد الجسور مجددًا معه فأصدر عفوًا عنه ما لبث صلاح البيطار أن رجع عقبه إلى دمشق، وعندما شعر أن حافظ الأسد يريد استغلاله لمآربه الشخصية ويتخذه وسيلةً لتثبيت أقدامه في الحكم سارع بالمغادرة إلى باريس وأقام بها.
الصراع البعثي حتى الرمق الأخير
شعر حافظ الأسد بأن وجود ميشيل عفلق في بغداد يمثل ثقلًا محرجًا له كون عفلق الأب الروحي لحزب البعث، فاتصل مجددًا بصلاح البيطار أبرز الآباء المؤسسين مع عفلق عام 1978، ودعاه إلى دمشق واجتمع معه على مدار أكثر من خمس ساعات كانت عاصفةً وفشل حافظ الأسد في إقناع صلاح البيطار بالإقامة في دمشق ليكون ثقلًا مكافئًا لثقل وجود ورمزية وجود عفلق في بغداد عند صدام حسين عدو حافظ الأسد اللدود.
وبعد الاجتماع مباشرة رجع البيطار إلى باريس، وفيها أعلن إصدار مجلة “الإحياء العربي”، مستعيدًا بذلك اسم الجمعية الأولى التي أسسها مع رفيقه ميشيل عفلق، ورغم أنه أصدر هذه المجلة، ففي الحقيقة لم يكن يمتلك ذخيرة أو آثارًا فكرية كتلك التي كان يملكها رفيقه الأب المؤسس عفلق.
كانت هذه المجلة منبرًا لمعارضة نظام الأسد ومركزًا يلتف حوله أعداء حافظ الأسد من القوميين والبعثيين وغيرهم، حتى بدأ حافظ الأسد يستشعر أن صلاح البيطار غدا يشكل خطرًا على نظام حكمه بما يملكه من إرث بعثي تاريخي، فهو أحد الآباء المؤسسين للبعث الذي يتغنى به حافظ الأسد ويحكم باسمه، ومن جهة أخرى بدأت بعض الأنظمة العربية المناهضة والمعادية لحافظ الأسد بالتواصل معه، فما كان من الأسد إلا أن تعامل معه بمنطق كاتم الصوت الذي يتقنه المستبدون والطغاة، فأطلقت رصاصة من كاتم الصوت على عنق صلاح البيطار من الخلف في باريس لتطوى صفحة أحد أهم الآباء المؤسسين للبعث بأيدي أبنائه البعثيين يوم 21 من يوليو/تموز 1980.