إذا أردت يومًا الرجوع لصفحات التاريخ وقلبت ورقاته بوقائعه وحيثياته، فيُنصح بعدم اعتماد ما كتبه الباحثون الغربيون والمستشرقون ومذكرات بعض القناصل الأجانب الذين عملوا في تلك الحقبة على الترويج للإرادة السياسية لحكوماتهم الاستعمارية المعروفة بعدائها لتلك الشعوب من خلال جرائمها واستنزافها (سرقة) ثرواته، إضافة إلى الرحالة، كحقيقة مطلقة، فأغلب كتاباتهم كانت سطحية أو محشوة بالمغالطات والتزييف والتلبيس.
في مقابل ذلك، فإن الأرشيف والوثائق يمكنها أن تكون الفيصل والحكم وأن تُميط اللثام وتنفض الغبار على مراحل مهمة من التاريخ العربي الحديث وخاصة فترة الدولة العثمانية التي قُدمت في مناهج التعليم الرسمية في أغلب البلدان العربية على أنها احتلال صلف وأنزلوها مرتبة الغزاة كالإسبان والفرنسيين والإنجليز، فيما عمل بعض الكتاب العرب الذين ساروا على درب الغربيين، على تهميش الدور الريادي للوافد التركي في نهضة الأمة واستفاقتها من الغفوة والجهل، وحاولوا طمس مآثر رجال ونساء في تلك المرحلة التاريخية الدقيقة، والحال أن العرب في تلك الفترة كانوا يعيشون فقرًا معرفيًا كبيرًا خاصة في مجال التأريخ والعلوم المرتبطة به.
خير الدين باشا
من أبرز رجالات الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، خير الدين باشا أو خير الدين التونسي الذي يُعتبر رائد النهضة وعرف بانفتاحه وميله إلى التجديد، تميز بنظرته الاستشرافية وشمولية فكره الإصلاحي في كل المجالات ومنها الإدارة والتعليم والاقتصاد والسياسة، ما جعله قاعدة أساسية بُنيت عليها المشاريع السياسية فيما بعد كحركة الشباب التونسي (1907)، والحزب الحر الدستوري التونسي القديم (1920) والحزب الحر الدستوري التونسي الجديد (1934).
ولد خير الدين عام 1820 في قرية بجبال القوقاز لأسرة تنتمي إلى قبيلة أباظة الشركسية، وتوضح المعلومات المتوافرة عن نشأته أنه أُسر في مرحلة مبكرة من طفولته بعد مقتل والده في معركة عثمانية ضد الروس، ليُباع بسوق الرقيق في إسطنبول حيث اشتراه تحسين بك القبريصي ورباه تربية خاصة. وفي عام 1837، حط الرحال في قصر حاكم تونس الباي أحمد باشا فأقام عنده وحمل اسمه وفتح له أبواب العلم والسياسة والمناصب.
خير الدين التونسي أو خير الدين باشاوأبرز رجال الدولة العثمانية في القرن19وهو من نخبة رجال الاصلاح الأوائل في تونس .
عين صدرا أعظم في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ما بين1878و1879.
ولد خير الدين التونسي،عام 1820في قرية بجبال القوقاز وهو من مؤسسي المدرسة الصادقية بتونس سنة ??1875 pic.twitter.com/UxNFovRdKG— ramla ahmed (@ramla2018) April 6, 2020
تعلم اللغات العربية والفرنسية والتركية في إسطنبول وتلقى العلوم الشرعية واللغوية من علماء معهد الزيتونة في تونس، وفي سنة 1852 سافر إلى باريس وأقام فيها ثلاث سنوات حيث أثرى معارفه في الإدارة والقضاء، ليلتحق بالجيش التونسي ويُرقى إلى رتبة فريق، وعُين كوزير للحربية عام 1857، ثم شغل منصب رئيس وزراء تونس عام 1870، وفي 1878 شغل منصب الصدر الأعظم للدولة العثمانية، ثم نال عضوية مجلس الأعيان في إسطنبول، إلا أن المنية أدركته عام 1890 ودفن في جامع أيوب، وفي 1968 نقل رفاته إلى تونس أين استقر جثمانه بمقبرة الجلاز.
تجربته الإصلاحية
بعد أن تلقى تعليمه في جامع الزيتونة، اهتم خير الدين باشا بدراسة عوامل التطور في أوروبا وأسباب التخلف في الدول الإسلامية، وقد عهد إليه بإصلاح قطاعي التعليم والزراعة في تونس، وخلال هذه الفترة حاول القيام بإصلاحات أخرى منها تحسين ميناء حلق الوادي وإنشاء مصنع بخاري للسفن وتعزيز شبكة الطرق للربط بين مختلف مناطق تونس وسن تشريعات تخدم الإصلاح والتطور.
كان خير الدين باشا محبًا للإصلاح حيث أيد وثيقة عهد الأمان التي صدرت عام 1857، وأقرت تساوي التونسيين في الحقوق، وساهم عام 1861 في وضع قوانين المجلس الأكبر (مجلس الشورى) المكون من ستين عضوًا وتولى رئاسته، إلا أن خططه وأفكاره اصطدمت بعراقيل جمة على رأسها استشراء الفساد في أوساط المسؤولين والتدخل الفج للقناصل الغربيين وخاصة القنصل الفرنسي، فخلص إلى أن جهوده لن تجدي نفعًا ضمن محيط فاسد، وقد وصف هذه المرحلة بالقول “لقد حاولت أن أسير بالأمور في طريق العدالة والنزاهة والإخلاص، فذهب كل مسعاي سدى، ولم أشأ أن أخدع وطني الذي تبناني بتمسكي بالمناصب”.
تجربته الإصلاحية جعلته من أبرز شخصيات الدولة العثمانية، حيث كان لخير الدين التونسي حضور بارز في عدة مجالات، فقد نادى بالتجديد الفقهي عبر دفع الاجتهاد والتنور، كما دعا إلى ضرورة تكريس الحريات في المجتمع باعتبارها رافعة التطور والتقدم وسبيلًا لاجتثاث التخلف والجمود، وكان سباقًا في دعمه لمبادرات الإصلاح والتغيير وحرص على ضرورة أن يقوم المجتمع على مبدأ المساواة في ظل نظام حكم عادل يرعى شؤون المواطنين ويحرص على رعايتهم.
اهتم خير الدين التونسي بالجانب الثقافي والتعليمي وذلك من خلال تنظيم التعليم في جامع الزيتونة وإنشاء المكتبة العبدلية (نشر الكتب العلمية والأدبية) فضلًا عن تشجيع الطباعة والصحافة والنشر وإنشاء المدرسة الصادقية عام 1874، وهي أول مدرسة تونسية على الطراز الحديث تُدرس فيها العلوم العربية والشرعية بالإضافة إلى الثقافة العصرية، مع تعليم اللغات الفرنسية والإيطالية والتركية، وعلوم الرياضيات والطبيعيات والاجتماعيات.
إصلاحات خير الدين لم تقف عند التعليم، بل شملت الجانب الاقتصادي، حيث قسم الأراضي الزراعية إلى مناطق وتحرى في اختيار الأمناء والأعوان، وشدد على معاقبة الجباة المختلسين، فألغى الضرائب السابقة التي تراكمت على الناس وصارت ديونًا تُثقل كاهلهم وخفض قيمة الضرائب وألغى الحملات العسكرية التي كانت تتوخى العنف في جمع الضرائب، وحض على استثمار الأرض وزرعها وغرسها بأنواع معينة من الأشجار المثمرة وخاصة النخيل والزيتون مع إعفاء زارعيها من الضرائب على مدى عشرين عامًا، كما أعاد تنظيم الضرائب على الاستيراد والتصدير وتحديد ضريبة الاستيراد بـ5% وتخفيف ضريبة التصدير ورفع الواردات وإنشاء المخافر لمنع التهريب.
الوظائف الحكومية بدورها كانت تحت مجهر خير الدين، فحدد مرتباتها ومرتبات القصر ووضع الأسس السليمة لميزانية الدولة على الطراز الحديث، مخصصًا قسمًا منه لرفع فوائض الديون والقسم الثاني لضروريات الحكومة، وضبط المكاتبات الدولية وإنشاء السجلات الخاصة بالصادرات والواردات ليسهل الرجوع إليها، كما نظم الأوقاف وأعاد لها دورها الديني والاجتماعي، وأنشأ لهذا الغرض جمعية الأوقاف، يساعده مجلس خاص بتنظيمها وأسند رئاستها إلى “محمد بيرم الخامس”.
ومن بين إنجازاته، تكليف عدد من المختصين لدراسة القوانين المعمول بها في كل من الأستانة ومصر وأوروبا بقصد استخراج قانون يتناسب والظروف الداخلية، على أن لا يتصادم والتشريع الإسلامي وعوائد البلاد ليحمى مصلحة السكان على اختلاف الأعراق، خاصة أن القوانين التشريعية والقضائية كانت مضطربة في تلك الفترة بسبب اختلاف مذهب رجال القضاء وترددهم في إحكامهم بين المذهبين المالكي والحنفي، بالإضافة إلى عدم خضوع الأجانب للقوانين غير المضبوطة.
خير الدين التونسي، مدرسة رائدة في الإصلاح تجاوزت حدود تونس الى المجالين العربي والإسلامي الاوسع.. تعرفوا عليه في ذكرى وفاته pic.twitter.com/TuX7qQEw96
— مجلة ميم (@MeemMagazine) January 30, 2020
أما السياسة الخارجية، فكان خير دين مختلفًا عن غيره من المسؤولين التونسيين الذين تركوا العنان لعلاقاتهم الخاصة في تحديد ملامح علاقات الدولة مع الخارج، فكان حازمًا واضحًا في التعامل مع القناصل، الأمر الذي أقلق “الفرنسيين” المتأهبين لاستعمارها (1881)، وكانت إيطاليا هي الأخرى تسارع الى مزاحمة فرنسا بالدسائس، لذلك اختار خير الدين لمواجهة التدخل في شؤون بلاده، توثيق علاقته مع الدولة العثمانية، وحثها على إصدار فرمان يؤكد أن ” تونس ولاية عثمانية تتمتع بسيادة داخلية”.
توجه خير الدين نحو الباب العالي لحماية بلاده من التدخل الأجنبي وخاصة الفرنسي المتغلغل نفوذه في القصر، سرع في استقالته من منصبه بعد أن نشط “الفرنسيين” في دس الأكاذيب وترويجها، ونجحوا في إقناع الباي بأن خير الدين باشا يعمل لصالح الدولة العثمانية على حساب الإيالة التونسية.
من أهم مؤلفات خير الدين التونسي “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” و”دراسة الأسس التي قامت عليها المدنية الغربية”، وكتب سيرته الذاتية تحت عنوان “إلى أولادي: مذكرات حياتي الخاصة والسياسية”.
الأميرة عزيزة عثمانة
أميرة من أصل عثماني، وهي ابنة أبي العباس أحمد بن محمد بن عثمان داي الذي حكم البلاد التونسية فيما بين سنتي 1593 و1610، فهي من أحفاد عثمان داي الذي وهبها في صغرها الكثير من أراضي المثاليث الممتدة بين صفاقس والمهدية، ومن هنا جاء تلقيبها بـ”عُثمانة”، اشتهرت الأميرة العثمانية بالبر والإحسان والتقوى، لا نعرف تحديدًا تاريخ ولادتها، ولكن يُرجح أنها من مواليد بداية القرن السابع عشر، وتوفيت سنة 1669.
عُرفت هذه الأميرة بما قامت به من أعمال خيرية لفائدة الفقراء والمعوزين والمجتمع بوجه عام، مخلدة بذلك ذكراها في كل الأوساط، تأثرت في رحلتها إلى الحج بمناظر الفقر المدقع والحاجة فعملت على توزيع الهبات من حولها لإغاثة الفقراء والمساكين في الحجاز ومساعدة الجائعين المحيطين بالحرمين الشريفين الذين كان عددهم لا يحصى آنذاك.
ومنذ رجوعها إلى تونس كرست كل جهودها لأعمال الخير والبر وتجردت بمحض إرادتها وبمقتضى وصية مكتوبة من جميع ما كانت تكسبه من أملاك مهمة بالنسبة إلى ذلك العصر، وذلك في سبيل المشاريع الخيرية المخصصة لفائدة المستضعفين والمحرومين، وكان أول عمل بادرت به بجرأة بعد عودتها من مناسك الحج، هو عتق عبيدها الزنوج والمماليك، في ظروف كانت فيها القرصنة ضد السفن الأوروبية في أوجها.
لم تكتف عزيزة عُثمانة بهذا العمل الإنساني الناتج عن تكوينها الديني المتزن، بل قامت بما هو أفضل من ذلك مخلدة مآثرها في الذاكرة الوطنية، فقد أوصت بوقف ثلث العقارات والأراضي الشاسعة التي كانت على ذمتها وتناهز مساحتها التسعين ألف هكتار وتحبيسها لفائدة المشروعات الخيرية والدينية والإنسانية عامة، وكانت في مناسبة ليلة القدر من كل سنة تتعهد بمصاريف الختان لأبناء الفقراء وتعيل الفتيات الفقيرات بتمكينهن من جهاز ولوازم زفافهن.
قال عنها الصادق الزمرلي في كتابه “أعلام تونسيون”: “نشأت نشأة مطابقة لتعاليم الشريعة الإسلامية المدققة، تحيطها رعاية أبيها الذي كان يعتبرها درة بيته، وذلك لما كانت تتمتع به من جمال فتان ومواهب سابقة لأوانها، إذ إنها أظهرت منذ عهدها استعدادات نادرة، سواء لدراسة الأدب أو لتلقي العلوم الدينية التي سهرت على تلقينها إياها نخبة من الأساتذة المشهورين”.
ومن أهم الإنجازات، تخصيص جانب من وقفها لتمويل مارستان بالقصبة لمعالجة الفقراء وإيواء العجز، وهو من أقدم المستشفيات في العاصمة التونسية، أطلق عليه الفرنسيون في عهد الحماية الفرنسية على الإيالة التونسية (1881 – 1956) اسم المستشفى الصادقي، وبعد الاستقلال أُعيد تسميته بمستشفى عزيزة عثمانة.
دفنت الأميرة قرب المدرسة الشماعية، في مقام الولي سيدي بن عروس، عند قدمي جدها عثمان داي، وكانت قد أوصت بتحبيس بعض الأموال لكي يوضع على قبرها فجر كل يوم إكليلٌ من الزهور.
جوزيف رافو
ولد رافو بتونس سنة 1795 لأب إيطالي اختطفه قراصنة أتراك وباعوه في تونس سنة 1770، وما إن تم تحريره حتى امتهن نشاطًا حرفيًا تقليديًا وعمل بالتوازي مترجمًا للبايات، ليخلف والده في تلك المهنة، فيما تزوجت شقيقته “إيلينا رافو” أحد أشقاء مصطفى باي ثم اعتنقت الإسلام وأصبحت تدعى “للا عائشة”، وعاصر رافو خمسة بايات إذ عمل مع حسين باي ومصطفى باي وأحمد باي ومحمد باي ومحمد الصادق باي، وتوفي بباريس سنة 1862 ونُقل رُفاته إلى تونس سنة 1863 ليدفن بالمقبرة المسيحية بتونس.
عُرف عن رافو حسن إدارته للأزمات الدبلوماسية ومراعاته أصول العلاقات الدولية، والأهم من ذلك تقديم المصلحة العليا لبلاده في جميع المناصب التي تقلدها.
كان يعرف “الفرنسيين”
من النجاحات الدبلوماسية التي تحسب لجوزيف رافو، توفقه في إقناع أحمد باي بمراجعة سياساته تجاه الدولة العثمانية وتغلغل الأوروبيين في القرار التونسي، فقد فتح القناصل الأجانب أبواب المطامع أمام الباي وأوهموه بأن دولهم تحميه بعساكرها وقوتها وأسطولها عندما تريده الدولة العثمانية بسوء إذا ما رام الخروج عن طوعها، وكان الباي ذا نزعة إلى الاستقلال تجنبًا لـ”التنظيمات الخيرية” التي كانت إسطنبول تريد فرضها على كل الأقطار التابعة لها، وخوفًا مما راج من عزم الدولة العثمانية إلحاق تونس بإيالة طرابلس الغرب.
ومن خلال تجربته وفطنته السياسية بين رافو للباي من خلال تحليله القائم على فهم ناموس العلاقات الدولية وبنية العمل الدبلوماسي أن المسار الذي شارف على سلكه قد يضر الدولة التونسية وأن الانفصال عن الدولة العثمانية سيفتح أبواب الإيالة على مصرعيها أمام أطماع الغزاة، قائلًا في كلمات: “يا سيدي لا تطمع أن الفرنسيس يعينونك بإطلاق مدفع واحد لأن العقلاء لا يتجشمون الحروب إلا لدفع مضرة أو جلب منفعة، وأي نفع للفرنسيس في حرب مع الدولة العثمانية لتبقى أنت في ولايتك على حالتك؟ لا سيما والجزائر في غاية الهناء، ويمكن أن سلطان الفرنسيس يعينك بجاهه أو بسياسة منه أما الحرب فلا نُطمع أنفسنا بها”.
سعي جوزيف رافو إلى إبقاء تونس تحت لواء الدولة العثمانية يرجع إلى درايته بمحدودية إمكاناتها العسكرية والمالية وحاجتها إلى قوة إقليمية تحميها من الأطماع الأوروبية خاصة بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830.
رافو تدخل أيضًا لدى ملك فرنسا لويس فيليب سنة 1839 إثر خلاف جد مع قنصل فرنسا في تونس De Lagau الذي كان يسعى إلى تأليب الباي على الخلافة العثمانية ويغريه بالانفصال عن الدولة العلية والاستقواء في ذلك بالدول الأوروبية، وهو أمر استحسنه المشير أحمد باي وعارضه جوزيف رافو بشدة.
ومن خلال الزيارة التي أداها إلى باريس نجح رافو في ضغط على القنصل الفرنسي وإجباره على الكف عن تزيين الانفصال عن الدولة العثمانية، وذلك بإقناع لويس فيليب بلباقته وحنكته، وتمكن من نسج علاقات ستتوطد مع رجال الحكم في فرنسا وهو ما سيساعده لاحقًا على الإعداد لزيارة أحمد باي إلى باريس سنة 1846.
الجنرال حسين (1828 – 1887)
عسكري ورجل دولة تونسي من أصل شركسي يعتبر من أهم رجال الإصلاح في القرن الـ19 ومن أبرز مساعدي الوزير خير الدين باشا في محاولته الإصلاحية، عمل على تسيير الدبلوماسية التونسية ورعاية شؤون تونس في الخارج بما تقتضيه مصلحة بلاده، كما كان خير سفير.
جُلب الجنرال حسين إلى البلاط الحُسيني وسنه دون العشر سنين واصطفاه الباي وأدخله الكتاب الخاص لمزاولة القراءة والكتابة ومبادئ علوم الدين ثم التحق بمدرسة باردو حيث تعرف إلى الشيخ سالم بوحاجب وتتلمذ على يديه، كما نهل من العلوم العسكرية بمدرسة الحربية، ودرس العربية ولغات أوروبية، وترقى في الرتب العسكرية والإدارة إلى أن وصل إلى رتبة أميرالاي في دولة المشير الثاني محمد باي الذي كان والي تونس العثمانية من 30 من مايو/أيار 1855 إلى 20 من سبتمبر/أيلول 1859، ومن ثم توطدت صلته بصديقه المملوك الشركسي خير الدين التونسي الذي رُقي أمير لواء الخيالة (جنرال) سنة 1852، وعمل تحت إمرته ثم صحبه في مهمة المتابعة لقضية ابن عياد في فرنسا ومثل الدولة في قضية اختلاس “محمود بن عياد” وكذلك في قضية اختلاس “نسيم شمامة”.
في عام 1862، أصبح وزير استشارة لدى الوزير خير الدين التونسي سنة 1874، وشاركه في تطوير التعليم بجامع الزيتونة والمدرسة الصادقية وإنشاء المطبعة الرسمية وإصدار صحيفة الرائد، التي رام من خلال ترأس الإدارة والتحرير إلى نشر فكر الإصلاح، وعمل على تجنيد خيرة الكتاب من أمثال الشيخ محمود قابادو كاتب أول افتتاحية في العدد الأول الصادر في 22 يوليو 1860 خصصت لإبراز أهمية الطباعة والصحف في رقي الأمم، كما كتب الجنرال أول تحقيق (روبورتاج) في الصحافة التونسية، تعلق بمرافقته سنة 1860 محمد الصادق باي إلى الجزائر لملاقاة نابليون الثالث.
إضافة إلى إشرافه على الرائد تقلد الجنرال حسين منصب “مستشار المعارف”، وبعد وفاة قابض مالية الدولة التونسية في مدينة إيطالية عام 1869، سافر إلى المحاكم الإيطالية للمطالبة بحقوق تونس في تركته.
يذكر أن الجنرال حسين حرر رسالة موجزة، ردًا على الطلب الأمريكي شرح فيها كيفية إلغاء العبودية في تونس ووصايا القرآن بشأن هذا الموضوع، رفعها القنصل أموس بري إلى وزير الخارجية الأمريكية وليام إيتش سيوارد الذي أوصلها بدوره إلى الرئيس أبراهام لينكولن فأعجب بها إلى درجة أنه أمر بإعادة طبع نصها بأكمله ونشره على نطاق واسع. نوقشت رسالة الجنرال حسين على نطاق واسع في الصحافة الأمريكية، وهي الآن موجودة في كتيب صغير بمكتبة جامعة هارفارد، وقد ألغي الرق في أمريكا عام 1865.
وبحسب صاحب كتاب “تراجم المؤلفين التونسيين”، محمد محفوظ، فإن الجنرال حسين عُرف بكفاءته في خدمة المصلحة العامة ونزعته الإصلاحية ورغبته في تمتين الروابط مع العثمانيين، وكان من الأوائل الذين حذروا من المؤامرات التي تحيكها فرنسا وقنصلها روسطان ضد تونس، فكتب إلى صديقه خير الدين متنبئًا بقرب حلول الاستعمار الفرنسي لتونس بذرائع وشعارات مختلفة.
على إثر سقوط وزارة خير الدين (1878)، ودخول الاستعمار الفرنسي اضطر الجنرال حسين إلى الاغتراب والاستقرار في إيطاليا أين داهمه المرض في يوليو 1887 بمدينة فلورانس حيث توفي.
بالمجمل، فإن تاريخ الدولة العثمانية يختلف من قطر إلى آخر لعدة اعتبارات تاريخية واجتماعية وكذلك ثقافية واقتصادية، ولا يمكن بحال من الأحوال إطلاق أحكام مطلقة وشاملة دون توصيف وتدقيق استنادًا إلى ما ذُكر آنفًا، فالحديث عن “استعمار” عثماني لتونس يُجانب الصواب لأسباب يمكن حصرها في أن الحكم التركي المباشر (الباشوات) لهذا البلد لم يدم طويلًا ما يُقارب الـ15 عامًا من أصل 4 قرون، ليُصبح البلد متمتعًا بحكم ذاتي ويسطر علاقاته الدولية والتجارية وفق إرادة حكامه دون الرجوع إلى الباب العالي.