تحاول دولة الإمارات العربية المتحدة توسيع نفوذها في المنطقة مستخدمة كل ما تملك من فوائض مالية تتيح لها أدوات تأثير قوية من استثمارات ومنح وقروض، بل وحتى أدوات تأثير صلبة أمنية وعسكرية من خلال التوسع في بناء قواعد لها خارج أراضيها وأدوات تأثير ثقافية وإعلامية تدعم من خلالها تلك الأنماط المنبهرة بنموذج مدن الصحراء الذكية المرتبطة بدبي وأخواتها في المخيلة الذهنية العربية، ونجاح نموذج الدولة الريعية الرعوية في الخليج العربي في فرض استقرار الحكم ومن ثم تحاول تسيُد المنطقة من خلال هذا الطرح.
اصطدمت أبو ظبي بموجتي الربيع العربي الأولى في 2011 والثانية في أواخر العام 2019 اللتين لا تزال آثارهما ممتدة وتنتج مطالبات اقتصادية واجتماعية لا تستقيم وهذا النموذج وتتناقض جوهريًا مع الطرح الإماراتي للمنطقة، وتعتمد الإمارات في كسب نفوذها بالرهان على الأطراف الأقوى من حيث النفوذ الاقتصادي والأمني داخل بلدان المنطقة ولا تعول كثيرًا على الشعوب والتنظيمات السياسية، لذا فإنها تتوجه مباشرة لقضايا المنطقة الخاصة بدعم الاستقرار والاستثمار وقيادة التطبيع كأولوية لتحقيق هذا النفوذ.
محاولات مبكرة لبناء علاقات مع سودان ما بعد الثورة
رغم اضطراب علاقات عدد من دول الخليج بالبشير، فقد ظلت متمسكة به حتى اللحظات الأخيرة، إلا أن الحراك الشعبي السوداني المكثف منذ 19 من ديسمبر 2018 وحتى 11 من أبريل 2019 أجبر هذه الدول على تغيير مواقفها، الأمر الذي حدا بالإمارات لمحاولة ملاطفة الشارع السوداني المنتفض ضد البشير والمجلس العسكري الذي خلفه قبيل التوصل لاتفاق سياسي للفترة الانتقالية، وحاولت الإمارات وتحالفها المصري السعودي التأثير فيه بكل الوسائل.
ووفقًا لبعض التقارير فبينما كانت الإمارات ترسل وفدًا أمنيًا رفيع المستوى للقاء قادة المجلس العسكري السوداني رفقة القيادي المفصول من حركة “فتح” محمد دحلان، أرسلت أيضًا شحنة مساعدات لساحة الاعتصام، إلا أنها قوبلت بطرد المتظاهرين لشاحنة المساعدات الإماراتية تلك، في خطوة لرفض محاولات تدخل أبو ظبي في بلادهم.
نسقت الإمارات والسعودية ومصر لمحاولات كسب الوقت لصالح الطرف العسكري في المعادلة الانتقالية سواء لاستمالة العسكريين نحو البقاء في التحالف العربي في اليمن أم لفتح قنوات اتصال جيدة مع العسكريين.
فبينما كان الشارع السوداني يستعد للإضراب العام في المؤسسات والشركات العامة والخاصة المعلن يومي 28 و29 من مايو من قوى الحرية والتغيير في السودان، كان رئيس المجلس العسكري الحاكم عبد الفتاح البرهان في زيارة رسمية لأبو ظبي ونائبه محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي” في زيارة متزامنة للسعودية، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الشارع السوداني وأحدث حالة من الغليان على مواقع التواصل الاجتماعي وفقًا لتقارير إعلامية.
من خلال الإمارات يعود سماسرة العمل الدعائي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة إلى السودان
وبعيد التوقيع على الوثيقة الدستورية والإعلان السياسي للفترة الانتقالية أواخر أغسطس 2019، وبمجرد تشكيل الدكتور عبد الله حمدوك حكومته بأيام قلائل، سارعت الإمارات بتوجيه الدعوة في رسالة خطية سلّمها السفير الإماراتي لدى الخرطوم إلى رئيس وزراء الحكومة السودانية الانتقالية عبد الله حمدوك في الـ4 من سبتمبر وفقًا لصحيفة الراكوبة السودانية، بعد شهر لبى حمدوك والبرهان الدعوة الإماراتية في الـ8 من أكتوبر وفقًا لقناة سكاي نيوز عربية، وبينما كان يفترض أن تتناول المباحثات بين حكومة ما بعد الثورة والحكومة الإماراتية إعادة النظر وترتيبًا شاملًا للعلاقات فإن الأمر اقتصر على الاحتياجات التمويلية السودانية وتحسين صورة السودان.
الاقتصاد والأمن والتطبيع.. عصافير كثيرة بنفس الحجر
يعاني الاقتصاد السوداني من أزمة ديون خارجية متفاقمة تتجاوز 50 مليار دولار وبطالة عالية وتدهور في قيمة العملة وضعف الاستثمارات الخارجية ونقص في الوقود والخبز ومعدلات تضخم بين الأعلى في العالم وسوء إدارة اقتصادية متراكم، وتجيد الإمارات استغلال هذه الأوضاع، ففي إطار تحقيق أمنها الغذائي تستحوذ الإمارات على قرابة مليون فدان من الأراضي الزراعية السودانية، وفي إطار سياسة توسيع النفوذ الإماراتي بالبحر الأحمر التي تسير فيها الإمارات بخطى حثيثة برزت محاولة توسع شركة موانئ دبي في السودان.
وهنا حاولت الإمارات الدخول من مدخل مساعدة السودان على التعافي الاقتصادي واجتياز العزلة الدولية واتخاذ خطوات باتجاه ما يعتبره بعض المحللين الهدف الرئيس لسياسته الخارجية بعد الثورة وهو إخراج السودان من القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب.
قد ينظر إلى التوسع الإماراتي في السودان باعتباره توسعًا عربيًا أولى من توسع الشركات الدولية في المنطقة، لكن المشكلة أن هذا التوسع في جزء كبير منه لصالح شراكات مع “إسرائيل” ويغذي نمو هذه الشركات وتوسعها في الدول العربية ويخدم عملية التطبيع العربي مع “إسرائيل” الذي تسعى الإمارات لقيادته، فلا عجب أن تتزايد وتيرة العلاقات السعودية الإسرائيلية في فترة يثير التحالف القوي بين الإمارات والسعودية أسئلة عمن يقود من؟
فمن خلال الإمارات يعود سماسرة العمل الدعائي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة إلى السودان، ومنهم ضابط الموساد السابق، آرى بن ميناشيه الذى عقد صفقة من قبل مع أحمد حمدان دقلو الرجل الأقوى داخل المجلس العسكري الشهير بحميدتى، لتجميل صورته في الغرب مقابل 6 ملايين دولار بعد مجزرة القيادة العامة، وشمل هذا العقد تقديم شركة بن ميناشيه عدة خدمات منها تحسين صورة المجلس العسكري لدى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، للحصول على اعتراف دبلوماسي بشرعيته.
عاد هؤلاء السماسرة للعمل مع شركة موانئ دبي للسيطرة على ميناء بورتسودان بتواطؤ من عسكر اللجنة الأمنية، فقد كشف موقع “مونيتور” الأمريكي عن جهود إماراتية وظفت فيها المسؤول الاستخباراتي الإسرائيلي سابقًا للضغط على الإدارة الأمريكية لدعم خطة شركة موانئ دبي للاستحواذ على ميناء بورتسودان لمدة 20 عامًا، حيث تعاقدت شركة موانئ دبي مع شركة “ديكنز وماديسون” للضغط والعلاقات العامة بقيمة 5 ملايين دولار، ويرأس الشركة ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق آري بن ميناشيه.
وبذلك تسعى الإمارات لاستغلال الوضع الانتقالي الهش لفرض سيطرتها على أكبر موانئ السودان وهو ما يعني سيطرتها فعليًا على معظم صادرات وواردات البلاد ومن ثم قدرتها على افتعال أزمة وقتما تشاء لتعطيل المسار الانتقالي أو لفرض رؤية الجانب العسكري على المسار الانتقالي وما بعده، لضمان استمرار نفوذها، وبهذه السياسة تحقق الإمارات بعضًا من الاستحواذ على حصة مناسبة في التجارة الخارجية للسودان والاستثمارات الأجنبية فيه مقابل التطبيع واستقرار الأمر لصالح العسكريين.
الشارع السوداني يعمل في اتجاه معاكس
بينما يبدو الجانب العسكري متناغمًا مع التوجهات الإماراتية للعلاقات مع السودان، فإن رفضًا شعبيًا كبيرًا يطفو على السطح، فمن جهة يشهد السودان معارضة للتطبيع مع “إسرائيل” وصلت إلى الخلاف الحاد بين حمدوك وأعضاء مجلس السيادة، فبينما برر البرهان لقاءه مع نتنياهو في أوغندا مطلع فبراير الماضي بأنه لحفظ أمن السودان وتحقيق مصالح الشعب وفك عزلة السودان، فإن الحكومة السودانية ومجلس السيادة سارعا بتأكيد عدم علمهما به.
سياسة الإمارات تجاه موجات الربيع العربي في دولها المختلفة تقوم على دعم المتناقضات لإفشال أي مسار انتقال ديمقراطي ناجح بالمنطقة العربية
من جهة أخرى ثمة رفض شعبي لتحويل السودانيين إلى مرتزقة في حرب التحالف العربي في اليمن أو حتى للنقد المتزايد شعبيًا للتقارير المتداولة بشأن مشاركة حميدتي في توريد مقاتلين سودانيين إلى ليبيا لمساندة اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
وإلي حد ما يمكن القول إن الشق المدني يحاول تحقيق توازن ما في هذين الملفين، وتشير التقديرات إلى انتصار رؤية المكون المدني وقدرته على الدفع باتجاه الانسحاب من الحرب في اليمن، فوفقًا لميدل إيست أي فقد جرى تخفيض القوات السودانية في اليمن من 15000 جندي إلى 5000 جندي فقط، حيث أعلن عضو مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو الملقب “حميدتي” سحب عشرة آلاف عنصر من قوة الدعم السريع دون إبدالهم بآخرين في أكتوبر 2019.
إن سياسة الإمارات تجاه موجات الربيع العربي في دولها المختلفة تقوم على دعم المتناقضات لإفشال أي مسار انتقال ديمقراطي ناجح بالمنطقة العربية، فهي تراه تهديدًا مباشرًا سواء من ناحية كونه قد يصك عقودًا اجتماعية جديدة في المنطقة وما يترتب عليها من تغييرات في بنية الدولة العربية أو من ناحية تخوفاتها الكبيرة من نفوذ حركات الإسلام السياسي ما بعد الثورات، إذ إن صعود تلك الحركات يفقد السعودية الشرعية الدينية نوعًا ما وبالتالي تراه تهديدًا لها ولدول الخليج العربي وإن لم يطلها.
على قوى الحرية والتغيير والحكومة الانتقالية أن تتنبه لمثل تلك السياسات الإقليمية ومن التدخلات المتناقضة في السودان لأن هذه التدخلات في ظل اقتصاد هش موروث من النظام السابق وقائم على الاستدانة والتحويلات ومرتبط بالخارج، تصبح تأثيراتها في الداخل أقوى من التطورات المحلية بل ودافعًا ومحركًا لنزاعات على السلطة والثروة قد تقود لتفكيك السودان في ظل صراع الثورة مع العسكريين من ناحية والإسلاميين من ناحية أخرى.
بينما تمثل الاحتياجات التمويلية السودانية قيودًا على الحركة الخارجية للسودان، فإنها مثلت فرصًا استغلتها الإمارات لتعزيز مكانتها لدى الحكومة الانتقالية سواء بوعود بالدعم الاقتصادي أم محاولات الاستحواذ على الموانئ والشركات السودانية، ومع ذلك يملك السودان فرصًا لتقليل تبعيته وتعظيم موارده واستغلال رأس المال التفاوضي الذي تخلقه الثورة لتحسين موقفه في مفاوضاته مع الدائنين والمستثمرين، ويستطيع إعادة جدولة ديونه ومراجعة عقود الاستثمار المجحفة المبرمة مع النظام السابق.