لعل الأغنية الشهيرة لفنان انقلاب الثالث من يوليو/ تموز على الحجار “احنا شعب وأنتوا شعب” والتي قسم فيها الشعب المصري شعب الخامس والعشرين من يناير إلى شعبين، الأول مع الانقلابي المغامر السيسي، ويستحق بسبب ذلك الحياة البيولوجية والسياسية، والآخر شعب ضد الانقلاب، فلا يستحق إلا السحل والقتل والسجون.
أقول لعل هذه الأغنية تنطبق بشكل صارخ وفاضح على مجلس النواب الليبي الحالي، وحكومة تسيير الأعمال بزعامة “عبد الله الثني” الألعوبة في يد الانقلابين بليبيا من أمثال “محمود جبريل” رئيس حزب تحالف القوى الوطنية، واللواء المتقاعد “خليفة حفتر” الذي لم يخف شغفه غير المحدود بالسيسي.
جاء البرلمان الليبي الحالي على ظهر ثلاث مخالفات دستورية قصمت ظهر شرعيته وعرته من أي إمكانية أن يكون ممثلاً لثورة السابع عشر من فبراير/ شباط 2011:
الأولى: من جهة الداعي لانعقاد البرلمان بمدينة طبرق شرقي ليبيا، حيث دعا الفيدرالي والداعي إلى تقسيم ليبيا عضو مجلس النواب عن بنغازي “أبو بكر بعيرة” إلى الانعقاد، في حين أنه وبحسب الإعلان الدستوري وتعديلاته فإن رئيس المؤتمر الوطني العام “نوري أبو سهمين” هو المنوط والمخول بدعوة الانعقاد، وساند بعيرة في هذه المخالفة الدستورية عضو مجلس النواب عن بنغازي “يونس فنوش” الداعي إلى تعلم تلاميذ المدارس الليبيين الثقافة الجنسية بمناهج الدراسة على غرار المدارس الغربية.
الثانية: من جهة مكان الانعقاد، إذ نص التعديل السابع من الإعلان الدستوري والذي أعدته لجنة فبراير ووافق عليه المؤتمر الوطني العام، فإن مكان الانعقاد هو مدينة بنغازي شرقي ليبيا، في حين وحتى الآن مازال مجلس النواب يُعقد بمدينة طبرق شرقي ليبيا أحد معاقل تأييد عملية كرامة حفتر.
الثالثة: من جهة تمثيل المؤتمر الوطني العام بجلسة الاستلام والتسليم، حيث مثله بها بطبرق النائب الأول لرئيس المؤتمر الوطني “عز الدين العوامي” المؤيد لحفتر، في الوقت الذي فيه رئيس المؤتمر الوطني نوري أبو سهمين موجود بليبيا ويمارس صلاحيته واختصاصاته، والعوامي أيضًا حضر حفل تنصيب فرعون مصر الجديد السيسي بدون أن يكون مكلفًا من المؤتمر الوطني العام، بل كل ما في الأمر أن مؤيدي انقلاب مصر وليبيا من وزراء حكومة الثني كوزير الثقافة والمجتمع المدني الحبيب الأمين ووزير العدل صلاح المرغني، ووزير الخارجية محمد عبد العزيز الذي يدير وزارته من مكاتب المخابرات العامة المصرية وفروا طائرة خاصة للعوامي ولبعض النواب من عاشقي السيسي.
سارع مؤيدو الانقلاب في ليبيا من سياسيين وإعلاميين ورجال أعمال وسفراء ووزراء بوضع بيضهم كله في سلة مجلس النواب الليبي، باعتباره الملاذ الأخير لهم بعد تزلزل قواعدهم العسكرية بطرابلس وبنغازي على يد قادة فجر ليبيا بطرابلس التي أوشكت على الانتهاء من هزيمة مليشيات القعقاع والصواعق والمدني، وهي مليشيات شعوريًا ونفسيًا وعمليًا لم تؤيد على الإطلاق ثورة فبراير/ شباط، وكيف لها ذلك! وهي التي قاتلت الثوار على طول الجبهات وعرضها شرقًا وغربًا وجنوبًا، وببنغازي على يد مجلس شورى ثوار بنغازي الذي يحاصر آخر جيوب الانقلابي خليفة حفتر بمكار بينينا والرجمة.
حتى أن سفير ليبيا بدولة الإمارات العربية المتحدة عارف النايض دعا على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك مجلس النواب الحالي إلى إحالة كل من يهمس بهمز أو لمز على مجلس النواب إلى النائب العام للتحقيق معه، باعتبار المجلس الممثل الشرعي والوحيد للشعب الليبي، ونسي السفير الليبي أن قرابة الـ 43 عضوًا إلى الآن غير حاضرين لأعمال البرلمان، أي ما يقارب نسبة الـ 23% من ليبيا غير موجود وغير ممثل ببرلمان طبرق، لأن السفير الليبي بدولة الإمارات يعي أنه بعد قرب هزيمة مليشيات الانقلاب بطرابلس وبنغازي لم تبق إلا نافذتي مجلس النواب وحكومة الثني المطلين على دواليب الدولة الليبية.
كما أن مجلس النواب من أيامه الأولى دعا بعض أعضائه إلى القضاء تمامًا على كل ما يمت بصلة لثورة فبراير، فمنهم من دعا إلى إقالة فضيلة المفتي الصادق عبد الرحمن الغرياني، ومنهم من دعا إلى إقالة رئيس المخابرات العامة سالم الحاسي، ومحافظ مصرف ليبيا المركزي الذي رفض تنفيذ كثير من قرارات الحكومة والتي تنفق على مليشيات الثورة المضادة بليبيا، ورئيس ديوان المحاسبة، والرقابة الإدارية وكلهم من الوطنيين المشهود لهم بنظافة اليد.
واتخذ المجلس النيابي جملة من القرارات الخرقاء غير المدروسة في حالة استعجال وسرعة توازي سرعة سحب البساط من تحت أقدام الانقلابين عسكريًا بطرابلس وبنغازي، كقرار حل جميع التشكيلات العسكرية دونما مراعاة لتفاصيل من منها لا يمارس دورًا مليشاويًا ويسيطر على مرافق ومعسكرات الدولة وينهب ميزانية البلد، تلك التي قدمت أبناءها وما زالت تقدمه دفاعًا عن الثورة، حتى أن نواب الجنوب الليبي بمجلس النواب أبدوا تحفظهم على حل كتائب القوة الثالثة التي تقوم بحماية وتأمين الجنوب، وطالب المجلس المحلي لمدينة سبها بالجنوب الحكومة الليبية بضرورة تمديد عمل القوة الثالثة.
وقرار دعوة الأمم المتحدة للتدخل العاجل والفوري لحماية المدنيين ومؤسسات الدولة، وهو قرار كان الغرض منه داخليًا الضغط على قوات فجر ليبيا بطرابلس وقوات مجلس شورى ثوار بنغازي لوقف العمليات العسكرية وخلق مراكز تفاوضية تخرج بها الثورة المضادة محققة لإنجازات على الأرض، وهي التي أوشكت على السقوط والخلع نهائيًا.
في الوقت الذي تقصف فيه مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر بنغازي بالطيران الحربي وبالأسلحة الثقيلة منذ قرابة الثلاثة أشهر قبل انتخابات مجلس النواب وبعده، وتسقط قذائفها على رؤوس وممتلكات المدنيين ببنغازي لم يهتز جفن البرلمان الليبي إلا بعد أن كادت تلك المليشيات أن تندحر وتفقد قواعدها.
أما الحكومة الليبية الحالية فتعمل ليل نهار على إنقاذ مليشيات القعقاع والصواعق والمدني بطرابلس، ومليشيات حفتر ببنغازي عبر سلسلة من الإجراءات المحلية والدولية.
فمحليًا أغلقت إدارة القمر نايل سات قناتي “الوطنية” و”الرسمية” لأنهما مؤيدتان لعملية فجر ليبيا وضد الانقلاب الحفتري، وبحجة أنهما تحرضان على العنف، في حين أن وزارة الإعلام الليبية أو وزارة الثقافة ومؤسسات المجتمع المدني أو وزارة العدل لم تطلب من إدارة النايل سات إغلاق قنوات معادية لثورة السابع عشر من فبراير وتنتمي إلى نظام العقيد الراحل معمر القذافي، كقناة “الخضراء” وقناة “الدردنيل” أو قنوات تعلن تأييدها العلني لكل محاولة انقلاب كقناة ” ليبيا أولاً” التي يترأس مجلس إدارتها رجل الأعمال الليبي حسونة طاطانكي والمدعومة من الإمارات العربية وتبث من الأراضي المصرية.
ودوليًا دعت الحكومة الليبية الحالية المجتمع الدولي للتدخل أكثر من مرة عسكريًا بليبيا، وكان آخرها بحسب مصدر مقرب من عبد الله الثني الذي طلب من وزير الخارجية الأمريكية في اجتماع خاص على هامش زيارة الثني أوائل شهر أغسطس/ آب الجاري لحضور المنتدى الاقتصادي لزعماء الدول الإفريقية والولايات المتحدة الأمريكية، سرعة التدخل الأمريكي وتوجيه ضربة عسكرية لقوات فجر ليبيا بطرابلس ومجلس شورى ثوار بنغازي، إلا أن وزير الخارجية الأمريكي اعتبر في رده على الثني ما يجري على الأراضي الليبية شأن داخلي، ولا تريد الولايات المتحدة أن تنغمس فيه.
تسعى الحكومة الليبية الحالية بضغط من مجلس النواب الليبي إلى نقل مقرات وزارتها إلى مدينتي البيضاء وطبرق شرقي ليبيا، لحمايتها بمعقل مؤيدي حفتر بالشرق الليبي، وترك البلد يغرق في الجهة الأخرى ببنغازي وطرابلس.
في تعليق أخير من السفيرة الأمريكية بليبيا “ديبورا جونز” طالبت فيه بأن يكون للكتائب المسلحة دور في العملية السياسية في ليبيا، ويبدو أن السفيرة جونز التي كانت محتمية بمليشيات القعقاع والصواعق بطرابلس، ونقلت كل معدات السفارة بعد أن بان للإدارة الأمريكية أن ميليشياتهم بطرابلس ستنهار، أيقنت أنه لابد أن يكون لصانعي الثورة دور في خوض معركة السياسة والتنمية بعد نجاحهم في معركة تصفية جيوب الثورة المضادة.
من المعلوم أن ما سبق ذكره شأن ليبي قد لا يهم أحدًا، لكنه فصل من فصول الثورة المضادة وصراعها مع قوى التغيير الحقيقية، قد يُرى بعضًا منه في بلده في القريب أو في المستقبل.