منذ بداية الثورة في سوريا، سعى النظام جاهدًا إلى استنبات الشقاق والاحتراب بين مختلف أطياف الشعب السوري؛ أديان وأعراق وتيارات فكرية وثقافية، ليكرس استبداده ووجوده السياسي والعسكري، ساعيًا بذلك – حسب مراقبين – إلى استنساخ معادلة وجوده الدولي ولكن في الإطار المحلي، فحضوره الدولي لم يكن إلا نتاج اختلاف المصالح بين الفواعل الدولية، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه في الحيز الشعبي والأهلي لأن الشعوب تعرف ذاتها وتعيش واقعها، فهي كائن واقعي وعفوي وبسيط لا يجيد المراوغة أو الدبلوماسية، ومن الممكن تضليله جولة أو أكثر ولكن لا يمكن أن يكذب النظام السياسي ويدلس عليه طوال العمر!
ماذا عن إدارة النظام السوري لملف السويداء ودرعا اليوم؟ هل يصب الصراع الحاصل بين الطرفين في الإطار أعلاه واستنبات النظام للاحتراب الأهلي وسعيه لتكريس الفتنة حسب مراقبين، لا سيما أنه والروس والإيرانيين المتحكمون في ناصية درعا والسويداء من خلال قفازاتهم العسكرية والميليشياوية في كلا المنطقتين؟ أم أن ما يحصل حقًا هو صراع اجتماعي حقيقي بين الشرائح الاجتماعية في تلك المناطق؟ أم لا يعدو عن كونه لبوسًا اجتماعيًا هدفه الضغط لتحقيق مكاسب سياسية بعينها؟
لكن ما تلك المكاسب ولمن؟ فقاعدة فتش عن المستفيد في سوريا لم تعد أمرًا سهلًا بل أصبحت أشبه بمغالطة ولعبة سياسية في غاية التعقيد، خاصة مع تهافت الاحتلالات إثر إعلان بشار الأسد في خطابه أن سوريا ملك لمن يدافع عنها بغض النظر عن جواز سفره! فهل ما يحدث بداية حرب أهلية في جنوب سوريا أم أنه مكر سياسي أحيك في ليل، أم لا هذا ولا ذاك بل هو نزاع داخلي وصراع نفوذ بين مشايخ السويداء على السلطة ومحاولة لتكريس سلطة القوي منهم؟ وإن كان ذلك يبقى السؤال: من الأقوى؟
هل هم مشايخ السويداء المسؤولون عن إدارة الحراكات الشعبية المسلحة والمنسقين بدورهم مع النظام السوري، أم فئة أخرى منهم لكنها مدعومة خارجيًا بشكل مستقل وتسعى لفرض استقلالها وسلطة قرارها على محيط السويداء في إطار تفاهمات معينة بين الفواعل؟ وهذه الفئة فيما يبدو ولغايات معينة حاول النظام انتقادها والتقليل من شأنها في الفيلم السوري “دم النخيل” الذي تحدث عن جُبن ابن السويداء وتخلفه عن الالتحاق بالجيش الإلزامي، وكان حاضرًا في العرض الأول للفيلم آنذاك رأس النظام بشار الأسد وعائلته!
السياسة وإدارة المجتمع
تطورت الاشتباكات بين فصائل السويداء ودرعا ما أدى لسقوط خسائر بشرية من كلا الطرفين، إثر عمليات الخطف الممنهج بحق أهل سهل حوران، التي كان آخرها اختطاف إحدى ميليشيات جبل السويداء لمواطنين من السهل في أثناء المرور ببلدة القريا جنوب محافظة السويداء.
وردًا على الاختطاف تسلل 3 مسلحون من السهل وأطلقوا النار على سيارة مدنية في القريا، ما أسفر عن قتل شاب وإصابة آخرين، ثم توجه بعض عناصر فصائل الجبل للبحث عن المسلحين، وعند وصولهم إلى الأراضي المحاذية لريف درعا، وقعوا في كمين نصبته الفرقة الخامسة لهم، مع العلم أن الفرقة تُساق وفق إدارة ناتجة عن تسوية فرضها الروس على أطراف النظام السوري وفصائل الجيش الحر في درعا، ما أدى لتهافت مئات المقاتلين من فصائل الجبل واندلاع اشتباكات عنيفة مع الفرقة الخامسة، ما أسفر بدوره عن قتل 7 أشخاص من الجبل وأحد مقاتلي الفرقة وجرح آخرين، وما زال التوتر يسود الواقع إلى الآن.
الإجرام الميليشياوي لا يُسقط المسؤولية الأخلاقية عن عاتق مثقفي الحراك المدني في محافظة السويداء
في حديثه لـ”نون بوست” يقول غسان المفلح المختص بالشأن السوري بخصوص ما وصفه بفتنة الخطف والابتزاز إن “العصابات والميليشيات في الجبل لا تُفرق في إجرامها بين أبناء الجبل والسهل على السواء، فهذه العصابات المسؤولة عن الاختطاف والابتزاز التي تتمركز في السويداء لا شك مدعومة بشكل مباشر من مقرات المخابرات السورية الساعية للقبض على حركية المجتمع السوري عمومًا”.
ويضيف المتحدث نفسه مستهجنًا تسرع الفرقة الخامسة في ردة فعلها: “لم يكن هناك داعٍ للخيار المسلح وكانت السلمية الخيار الأفضل كما جرت العادة في التعاطي مع مثل هذه المشاكل بين الطرفين قديمًا، وكان على الفاعل الديني والسياسي والمجتمعي أن يتحمل مسؤوليته ويؤدي واجبه بإيقاف عمليات الخطف والابتزاز والتجييش بين الأطراف”، مشيرًا في ذلك إلى الفيديوهات التي ظهر فيها تعذيبًا لأفراد من أهالي السهل على أيدي فصائل الجبل التي وصفها أنها لا تعدو عن كونها “محاولات أسدية تهدف إلى إشعال الفتنة والقتال بين أبناء السهل والجبل الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيما يجري”.
في السياق ذاته دعا محمد صبرا الخبير السياسي والقانوني في إفادته لـ”نون بوست” إلى ضرورة تفعيل الجانب المدني والأخلاقي داخل الشرائح الاجتماعية في السويداء، معتبرًا أن الإجرام الميليشياوي لا يُسقط المسؤولية الأخلاقية عن عاتق مثقفي الحراك المدني في محافظة السويداء، قائلًا: “لا يمكن بحال من الأحوال تبرير سكوت مثقفي السويداء وهيئاتها السياسية والأهلية إزاء التعذيب الوحشي الممارس على مختطفي سهل حوران، فهذا الإجرام أكبر من أن يستوعبه عقل، وهو غريب عن قيم وأخلاق أبناء السويداء، ولذلك فإن إدانة هذا السلوك أقل ما يقوم به هؤلاء، وإن كان المطلوب يتضمن ضرورة اقتلاع هذه العصابات وإبعادها عن الهيئة الاجتماعية في السويداء”.
ويستدرك المتحدث قائلًا: “مع العلم أنني على ثقة أن عصابات الخطف والابتزاز والتعذيب هذه نمت في أحضان فرع الأمن العسكري في محافظة السويداء وفي إطار حمايته وتوجيهه ولكن ذلك لا يبرر السكوت المدني والاجتماعي”.
استجداء البقاء السياسي
يعتبر غسان المفلح أن كل ما يجري لا يخرج عن إرادة النظام السوري والروس والإرادة الإيرانية في إدارة ملف الجنوب والسويداء بشكل خاص، مشيرًا إلى ذلك بقوله: “لا شك أن السهل ودرعا عمومًا تحت سيطرة النظام وحلفائه بالكامل، في المقابل فإن السويداء بها ميليشيات مسلحة، منها ما هو رافض لدخول النظام أساسًا، ومنها ما هو مناصر للنظام ويدعو لدخوله وتحكمه، ومن الواضح أن ما يسعى إليه الروس والأسد من خلال الفيديوهات المسربة والأحداث المفتعلة هو محاولة إعادة السيطرة الكاملة للنظام على السويداء لكن بطلب وبموافقة من أهل السويداء ذاتهم”.
النظام يسعى لإحكام سيطرته على الجنوب السوري بالكامل، عن طريق سياسة تحويل بوصلة العدو، بحيث يصبح ابن السويداء عدوًا لابن درعا وابن درعا عدوًا لابن السويداء
ويضيف محدثنا عطفًا على ما سبق “هذا بدوره ما يفسر تدخل الشيخ موفق طريف شيخ عقل الطائفة الدرزية في “إسرائيل” عند الروس بهدف وقف المعارك بين الفيلق وفصائل الجبل قبل أن تتحول هذه المعارك لحجة تمكّن النظام وتشرعن دخوله إلى السويداء”، ويضيف المفلح “إسرائيل تسعى دومًا لتأمين وضع محمي لأهلنا في السويداء، نتيجة لحساباتها الداخلية مع أهلنا الدروز في فلسطين، ولرؤيتها للمنطقة الجنوبية عمومًا، لولا “إسرائيل” لدخل الأسد السويداء بعد تسويات درعا مباشرة بكل جيشه”.
يؤكد محمد صبرا الخبير السياسي والقانوني بذات الوقت أن أحداث درعا والسويداء لا تخرج عن سياق إرادة النظام السوري وتخطيطه السياسي على حساب الأمن الاجتماعي، موضحًا أن “النظام يسعى لإحكام سيطرته على الجنوب السوري بالكامل، عن طريق سياسة تحويل بوصلة العدو، بحيث يصبح ابن السويداء عدوًا لابن درعا وابن درعا عدوًا لابن السويداء، ويحقق ذلك بواسطة عصابات الخطب والابتزاز التي يزرعها في المحافظتين التي ترتبط مباشرة بالأمن العسكري التابع للنظام، وبذلك يهدف النظام إلى خلق فوضى هائلة وإرسال رسالة لمشغليه “الإسرائيليين” مفادها أن غيابه عن المشهد يعني ما سترونه من عنف واقتتال طائفي (على مقربة من حدودكم)، في محاولة منه لاستجداء بقائه في السلطة” فترة أطول.