سوريا العريقة بتاريخها، والأصيلة بماضيها، والغنية بتراثها، مرت عبر حقب كثيرة وتوالت عليها الحضارات والممالك والدول، وليس ذلك بالغريب على أرض لطالما ضربت جذورها في القدم، وكانت عقدةً لالتقاء الاقتصاد العالمي ومنبعًا للثقافة ومهدًا لبعض الأديان، ونتيجةً لذلك عانت هذه الأرض من الحروب والغزوات والتدمير لأكثر من مرة، وكانت تنهض إبان كل أزمة وكارثة.
محالٌ أن تجمع الصحائف والأوراق والكتب ذلك التاريخ بسهولة، فثقل الحالة يحتاج لجموع من المختصين ومداد من الحبر لتوثيق ما حصل عبر الزمن في هذه البقعة من الأرض. إلا أننا وفي هذا الإيجاز وعبر ملف جديد على موقع “نون بوست”، أردنا تسليط الضوء ببعض التقارير والمقالات على جزءٍ بالغ الأهمية من تسلسل البلاد الزمني، الذي لم نكن كسوريين على إطلاع عليه، ولم يُذكر إلا بسطحية في مناهجنا الدراسية، حتى إن الكتب التي كانت تتناول الحالة حينها لم تكن في متناول الأيدي أو ربما كانت محظورة.
حقبة سوريا “ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي”، كانت تلك الزاوية التي نوقشت في العديد من الكتب والبحوث، لكن البعض كنظام الأسد الأب والابن تعمدوا تهميشها من الذاكرة والدراسة، كون هذه السنوات كانت نشأةً للجمهورية السورية الأولى، وحاولت فيها البلاد الالتحاق بالركب الديمقراطي وتحسين الاقتصاد والتعليم والخروج من قبضة التدخل الخارجي، ولملمة الشتات الطائفي الذي خلقه الاستعمار والنهوض بالدولة، إلا أن هذه المحاولات اصطدمت بعد سنوات بانقلاب حزب البعث على كل مظاهر الحياة العامة في البلاد واستيلائه على الحكم ليقضي على آمال الدولة والجمهورية الوطنية.
الجمهورية السورية الأولى
تمتد فترة الجمهورية الأولى التي تأسست في سوريا من عام 1932 إلى 1963 وتُقسم إلى فترتين: الأولى ما قبل الاستقلال والثانية ما بعده إلى العام الذي انقلب فيه حزب البعث على السلطة، تخلل هذه الجمهورية فترتان بدستورين، الأول أُعلن عام 1932، والثاني عام 1950، وتعتبر الفترة الثانية من الجمهورية من أهم الفترات السياسية التي شهدتها البلاد، إذ إنها شهدت أحداثًا كبيرةً على كل المستويات والأصعدة، سنأتي على ذكرها في التقارير اللاحقة من هذا الملف.
شهدت الفترة من 1932 وحتى عام الاستقلال 1946، حراكًا مهمًا في البلاد على كثير من الأصعدة وإن كان هذا الحراك مصحوبًا بتوترات نتيجة الوجود الفرنسي والتقسيمات التي خلقها في الأقاليم السورية على الأساس الطائفي، وما لبثت أن انتهت في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، حين وافقت باريس عام 1936 على منح سوريا استقلالًا جزئيًا، وكما عادتها تنصلت فرنسا من بنود المعاهدة وبقيت الحاكم الفعلي على الأرض السورية.
تطورت الحالة العالمية في حربها الثانية لتؤثر تأثيرًا واضحًا على سوريا التي أصبحت تحت سيطرة حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان، ونشبت معارك بين قوات حكومة فيشي وقوات فرنسا الحرة والقوات البريطانية، وانتهت تلك الصدامات بسيطرة الحلفاء على سوريا سنة 1941، الذين بدورهم قدموا وعودهم باستقلال البلاد.
في 29 من مايو/أيار عام 1945 قصفت فرنسا دمشق بوحشية واستهدفت مبنى البرلمان ردًا على انطلاق المقاومة السورية للاستعمار الذي كان ينكث بوعود منح البلاد استقلالها، هذا القصف الذي طال البلاد فجر احتجاجات واسعة في سوريا والعالم العربي، وانتقلت الأزمة إلى مجلس الأمن الدولي الذي طالب بجلاء القوات الفرنسية عن البلاد، وفي 17 من أبريل/نيسان 1946، وتحت ضغوط دولية متزايدة، انسحبت آخر القوات الفرنسية من سوريا.
الحالة السياسية
يقول محمد حرب فرزات في كتابه “الحياة الحزبية في سوريا دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها 1908-1955”: “الحياة الحزبية بين عامي 1932 و1939 كان النشاط مبذولًا فيها لعقد معاهدة مع فرنسا”، وفي هذه الفترة بحسب حرب فإن الكتلة الوطنية التي ستصبح فيما بعد الاستقلال الحزب الوطني السوري، سيطرت منذ عام 1935 على أكثرية الشعب، واستفادت من تأييدها المطلق لعقد معاهدة عام 1936، لكنها كما يقول حرب لم تحترم الرأي العام بل اتخذته واسطة فقط، وفقدت الكتلة الوطنية بعد هذه التجربة قوتها.
عام 1939 حتى 1949 أصبحت الأحزاب والحركات السياسية “أكثر مسايرة لروح العصر وأكثر تفهمًا لحاجات المجتمع، وأكثر صلاحية لحل المشكلات القائمة” وفقًا لحرب، وظهرت أيضًا أحزاب جديدة انقلابية النزعة، قومية العقيدة إلى جانب وأخرى تعمل أحدها لسوريا وأخرى للوطن العربي وثالثة للعالم الإسلامي ورابعة لحركة أممية. ويذكر الكاتب أن “الاختلاف في المنطلقات الفكرية كان من أشد عوامل التنافر والتصادم”.
يرجع شكل سوريا الموحد والمعروف إلى عام 1936، حيث كان النظام السياسي نظامًا جمهوريًا برلمانيًا، وأفرزت انتخابات ذلك العام مجلسًا نيابيًا أكثريته الساحقة من الكتلة الوطنية، وانتخب هاشم الأتاسي رئيسًا للجمهورية، وبعد أن قسمت فرنسا البلاد عادت لتتوحد بعد انضمام دولة جبل العلويين ودولة جبل الدروز لها في ديسمبر 1936 وسلخ لواء إسكندرون عنها وإلحاقه نهائيًا بتركيا عام 1939.
كان أول رئيس منتخب لسوريا في الجمهورية الأولى هو محمد علي العابد، ويعتبر العابد من الطبقة الثرية الدمشقية، ليتبعه بهذا المنصب هاشم الأتاسي، ومن ثم بهيج بك الخطيب، وبعده يأتي خالد العظم الاقتصادي الشهير الذي أرخ من خلال مذكراته لتلك الفترة، ويتبعه تاج الدين الحسني في رئاسة البلاد، ليلحق به جميل الآلشي وعطا أيوب لفترات محدودة، ليكون وجودهم مقدمة لحكم شكري القوتلي الذي يعد رقمًا صعبًا في تاريخ تلك الفترة ويستمر في هذا المنصب حتى ما بعد الاستقلال ويواجه انقلابات وأحداثًا كبيرة سنأتي عليها لاحقًا.
الاقتصاد
نصّ إعلان الوحدة عام 1922 على أن يملك كل إقليم من الأقاليم السورية موازنة خاصة به وموازنة تخص إدارة البلاد المركزية، ولكن أتت اتفاقية معاهدة الاستقلال لعام 1936 وألغت هذه الموازنات الخاصة، لمصلحة موازنة واحدة لكل البلاد.
وخلال وجود الاستعمار الفرنسي وبعد توقيع اتفاقية الـ1936، لم يكن هنالك وجود للمواد النفطية الطاقاوية كالنفط فيما كانت الصناعة مقتصرة على بعض المصانع في حلب، في الوقت الذي كانت الصناعات التقليدية اليدوية ما زال لها وجودها وتشتهر بها البلاد كالصناعات النسيجية الدمشقية وما شابه ذلك. فيما كانت الزراعة أساس الاقتصاد السوري ويعمل بها 75% من الشعب.
لم يستطع المصرف الإمبراطوري العثماني خلال الحقبة العثمانية فرض العملة الورقية في سوريا، واستمرت المعاملات الرئيسية باستخدام النقود الذهبية العثمانية وكذلك أيضًا الفرنسية والإنجليزية، وحاولت القوات الفرنسية، عند وصولها، فرض الجنيه المصري الذي ارتبط وقتها بالجنيه الإسترليني، وكان عملة تمويل جيوش الحلفاء في المنطقة، فاستبدلته فرنسا، بليرة سورية متصلة مباشرة بالفرنك الفرنسي وهكذا ولدت الليرة السورية، وخلقت الصلة مع الفرنك، مشكلة أساسية للاقتصاد السوري منذ البداية، ويتضح ترافق الانتداب السياسي والعسكري الفرنسي على سوريا ولبنان بانتداب اقتصادي ونقدي.
كانت هذا الفترة تأسيسية للجمهورية السورية الأولى التي اتسمت إلى حد كبير بالحياة السياسية الحرّة، وأثر بذلك وجود تنوع الأحزاب والحياة البرلمانية وانتخاب أول رئيس للحياة الجمهورية، وأثرت آخر سنوات الانتداب الفرنسي بشكل واضح وجلي على ما سيتبعها من سنوات بعد الاستقلال على جميع الأصعدة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والعلاقات مع الدول وما سيتبعها أيضًا في حالة الانقلابات العسكرية والحالة الدستورية بالبلاد.