في الوقت الذي استجابت فيه بعض حكومات العالم لمناشدات المنظمات الحقوقية الدولية بالإفراج عن السجناء كأحد الإجراءات الاحترازية لمواجهة تفشي كورونا الجديد، ومن بينها نظم سياسية كان من الصعب أن تلجأ لمثل هذا الإجراء في الأوقات العادية وعلى رأسها إيران ، كان للنظام السعودي رأي أخر.
ورغم امتثال بعض الأنظمة الخليجية وثيقة الصلة بالرياض، لتلك المناشدات، كالبحرين مثلا التي أفرجت عن 1500 سجين، إلا أن العاهل السعودي وولي عهده ارتأيا أن يسبحا ضد التيار، وبدلا من تخفيف الأعداد داخل السجون والمعتقلات كان النقيض تمامًا، حيث الزج بأسماء جديدة تضاف لقائمة المعتقلين الذي لا يوجد إحصاء رسمي موثق عن أعدادهم فيما تشير التقارير الحقوقية إلى أنهم يتجاوزا الآلاف.
وقد شنت السلطات السعودية الأسبوع الماضي، حملة اعتقالات طالت العديد من الناشطين، والمغردين، وبعض الدعاة، ورغم تباين توجهات ومواقف المعتقلين الجديد، إلا أن القاسم المشترك بينهم غيابهم عن الساحة طيلة الفترة الماضية، وعدم الحديث بأي شأن سياسي داخلي منذ فترة طويلة، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات حول أسباب اعتقالهم في هذا الوقت الحساس الذي يهرع فيه العالم للتصدي للوباء المتفشي ولو على حساب قوانين ولوائح معمول بها في السابق.
في 29 مارس الماضي، قال ناشطون سعوديون، إن السلطات اعتقلت الناشط الشهير، محمد الفوزان، المعروف بلقب “أبو نورة”، بعد تحريض المحامي عبد الرحمن اللاحم، قبلها بيومين، مستخدما تغريدات تعود إلى سبع سنوات للوراء، حيث نشر تغريدات تعود للعام 2013، وحملت نقدا صريحا لحكم الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز.
اللافت أن المحامي المعروف عنه قربه من السلطة توعًد بأنه سيلاحق من أسماهم “مشاهير الفلس”، وعلى رأسهم “أبو نورة”، قائلا إن هناك اثنين آخرين، هما -بحسب ناشطين- “منصور الرقيبة، و”أبو بجاد الهارف المطيري”، لتبدأ بعدها مباشرة حملات ممنهجة للتحريض ضد شخصيات سعودية عبر “نبش التغريدات” القديمة كذريعة للملاحقة الشرطية والقضائية.
كلاب الصيد
لم يكن تحرك اللاحم تحركًا منفردًا، ولم تكن فكرة النبش في الماضي من بنات أفكاره، إذ تكشف فيما بعد أنه فصل من مسلسل طويل من بطولة وإخراج اللجان الإلكترونية المدعومة من السلطات في المملكة، والتي لها باع طويل في هذه الممارسات منذ بزوغ نجم ولي العهد محمد بن سلمان.
ويشارك في حملات نبش التغريدات القديمة حسابات شهيرة، بعضها يحمل أسماء وهمية مثل “مجموعة نايف بن خالد” و”بن هباس” و”الردع السعودي” و”خميني بريدة”، وتُتهم من قبل معارضين بأن أجهزة الدولة الأمنية من تقوم بتوجيهها، بجانب بعض الحسابات المستحدثة نسبيًا لهذا الغرض.
حساب “موجز الأخبار” المقرب من السلطات، والذي يتابعه 3.8 مليون شخص، في تغريدة مثيرة قبيل حملة الاعتقالات بنحو 12 يوما كتب يقول: “أعطني تغريداتك أعوام 2011-2012-2013 أقول لك من أنت في عام 2020″، في إشارة إلى الاعتقالات التي تأتي بأثر رجعي يعود لأعوام.
وفي تعريفه الخاص على حسابه على توتير، أشار حساب يحمل اسم “حساب_جلنار” إلى أنه “يكشف المستور ويعري الطابور الخامس ويظهر المتلونين على حقيقتهم”، مستهدفا شخصيات عامة، إعلاميين ومثقفين، سعوديين وغير سعوديين، لها أراء تتعارض والسلطة الحاكمة، حتى ولو من سنوات بعيدة مضت، وذلك عبر هاشتاغ #صراط_جلنار.
تنكيل وترهيب
أسفرت حملة النبش الأخيرة عن اعتقال العديد من النشطاء من بينهم المدونون راكان العسيري، ومحمد الجديعي “جدّوع”، وحسن القرني، ومغرد ملقب بـ”بوجاسم”، وجميعهم يحظون بشعبية في مواقع التواصل، وابتعدوا عن الحديث بالسياسة منذ أيام.
هذا بالإضافة إلى عدد من الدعاة والأكاديميين من بينهم ماجد الغامدي، وإبراهيم الدويش، وخالد الشهري، وآخرين لم يكشف عن هوياتهم، بعد اتهامهم بنشر الإرجاف وبث الخوف، لقولهم إن “كورونا” عقوبة من الله، فضلا عن بعض الشخصيات الأخرى على رأسهم الإعلاميين منصور الرقيبة، ومحمد الجديعي، الذي جاء اعتقالهما على خلفية التعبير عن الرأي في سنابات وتغريدات قديمة، بحسب حساب “معتقل الرأي”.
حملة الوشاية التي قادتها السلطات السعودية، والتي تتشابه إلى حد كبير مع الاستراتيجية التي كان يتبعها حزب البعث في كل من العراق وسوريا، و تستهدف تحويل كل مواطن إلى مخبر على المواطنين الأخرين، في محاولة لبث الرعب والخوف في نفوس الشارع وتعزيز روح الفرقة بين أطياف المجتمع وفق المبدأ العنصري “فرق تسد”، أصابت المواطنين السعوديين بحالة من الهلع دفعتهم إلى إعادة النظر في الكثير من مواقفهم.
بندر، مصمم سعودي، كان أحد ضحايا حملة الوشاية الأخيرة، حيث تم استدعاء تغريدات له كتبها في 22 أكتوبر 2011 عقب مقتل الرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي، حينها أشار إلى أنه لو مكان الثوار الليبيين لفعل في رئيسه كما فعلوا هم في القذافي، وهي التغريدة التي يتم استغلالها الأن لتشويهه على حد قوله.
المصمم السعودي علق على هذا الاستدعاء قائلا “أن تأتي أنت من المستقبل و تحكم على تغريدات من زمن مختلف و دون معرفة مناسبتها و مجتمعها المختلف كلياً آنذاك و رؤية محتوى التغريدة الأصلية التي ترد عليها و تاريخها و ظروفها التي لم تعاصرها أنت و لم تكن جزءاً منها سيقودك لتفسيرها بشكل غير صحيح.”
غير أنه وأمام حملة التنكيل تراجع عن تلك التغريدات، مقدما اعتذاره عنها، وذلك أن نبهه بعض المغردين بشأنها، ليكتشف بعد مراجعتها إلى أنه تدخل كثيرًا في أمور لا تعنيه، مضيفا ” أنا مجرد مصمم و لا يليق بي التغريد في غير فني..”
حالة الترهيب انتقلت هي الأخرى لموقع “ثمانية” السعودي، إحدى أكبر مواقع انتاج الوثائقيات والبودكاست بالمملكة، حيث أصدرت بيانا نشرته على حسابها الرسمي على “تويتر” اعتذرت فيه عن استضافتها لبعض الضيوف “لا يكنون لنا أو لوطننا أي احترام” على حد قولهم.
وتعهد الموقع ببذل قصارى الجهد فيما بعد في تقصي واختيار ضيوفها ومراجعة خلفياتهم الفكرية والسياسية، حتى وإن كانت لسنوات بعيدة مضت، مؤكداً في ختام بيانه أن “وطننا وقيادتنا وشعبنا خط أحمر” لا يجوز لأحد المساس به، كما لايجب أن تتحول إلى منبر لأي من هؤلاء مهما كانت مؤهلاتهم العلمية.
ويعد إعلان الداعية المقرب من بن سلمان، عائض القرني، براءته من ماضيه، خير تجسيد لهذه الحالة التي خيمت على أرجاء الكثير من الدعاة والأكاديميين والنشطاء في المملكة، حيث تبنى الرجل حملة هجوم حادة ضد الرئيس التركي رجيب طيب أردوغان، وهو الذي كان قد امتدحه قبل عدة أشهر من خلال نشر مقطع مرئي تحدث عنه وعن صفاته كرئيس مسلم.
نشطاء اعتبروا انقلاب القرني على ماضيه صورة لنجاح النظام السعودي في ترويض عدد من الرموز الدينية المعارضة بشكل كامل، فمن داعية ينادي بالجهاد ويناصر الإخوان ويعارض سياسات الدولة، إلى شيخ يتبرأ من ماضيه ويُبغض الإخوان وينقلب على رفاق الصحوة، غير أنهم برروا ذلك بالخوف من ملاقاة مصير رفاقه الدعاة الذين نالهم القمع والاعتقال، والذين تُثار الأحاديث حول قرب إعدام الكثير منهم، وعلى رأسهم، رفيق القرني القديم، الشيخ سلمان العودة.
صناعة حكومية
حالة التحريض بين المواطنين جاءت بمباركة من السلطات السعودية، هكذا أشار رئيس المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان، علي الدبيسي، مضيفا في تصريحات صحفية له أن “نبش التغريدات باتت تستخدم بأسلوب فج جدا، وتعطي مظهرا مقززا، وهي من تربية وتصميم الحكومة”.
الدبيسي أوضح أن الحالة الراهنة “تربية حكومية” من الطراز الأول، لافتا إلى أن المملكة في كثير من الأحيان “تؤكد على مواطنيها برفض حذوهم دور الدولة، لكن في بعض المسائل مثل هذا التحريض، تريد منهم القيام بدور الدولة، وهذا التحريض ينمي القمع، ويعطي للقمع مشروعية اجتماعية، وينمي حالة الجاسوسية بشكل أو بآخر، مثل تطبيق (كلنا أمن) الذي ممكن أن يصنع من كل مواطن جاسوسا”.
وأشار إلى أن المحامي عبد الرحمن اللاحم على سبيل المثال، وبرغم أنه “غير بريء من حملات الاعتقالات التي تحصل كونه أداة بيد السلطات، إلا أنه قد يتم الاستغناء عنه في أي وقت، والزج به في السجن، على غرار آخرين يقبعون حاليا خلف القضبان رغم قربهم السابق من السلطة، وتحريضهم على آخرين”.
فيما ألمح المعارض السعودي عبد الله الغامدي، إلى احتمالية تكليف السلطات بعض موظفيها بالتجسس على الناشطين الذين تم اعتقالهم، موضحا أن “نفس النظام السعودي طويل في ما يخص ملاحقة المغردين، وأنه يوجد العديد لم يفهموا بعد أن السلطات ستحاسبهم على تعبيرهم عن آرائهم بأثر رجعي، ولو بعد سنوات طويلة”
أما الأكاديمية المعارضة حصة الماضي، فحذرت من حملة الاعتقالات التي يقوم بها بن سلمان، لافتة إلى أن اعتقال أشخاص صامتين، وآخرين موالين للعائلة الحاكمة، لا يمكن تصور نتائجه على المملكة، مضيفة أن “الاعتقالات التعسفية سمة مميزة للنظام السعودي منذ نشأته وازدادت حدة وشراسة في عهد الملك سلمان وابنه محمد، فطالت جميع الفئات والأطياف، وهو ما أدى إلى ازدياد الضغوط الدولية عليه”.
وقد أعربت منظمة الفيدرالية الدولية للحقوق والتنمية “إفرد“، عن بالغ قلقها من حملة الاعتقالات الأخيرة التي تأتي في ظل تسجيل أعداد متزايدة من فيروس “كورونا” في السعودية، قائلة إن “استمرار الاعتقالات التعسفية أمر مستهجن لاسيما في ظل تفشي فيروس كورونا داخل المملكة وغالبية دول العالم بما يعبر عن استهتار بالغ للحق في الحياة والصحة، ويتوجب على السلطات نظرا لسجلها الحافل بالانتهاكات، إجراء إصلاحات أساسية للنظام القضائي لضمان إنهاء ظاهرة الاعتقالات من دون سند قانوني ودون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة”.
وتعد حملة النبش في التغريدات القديمة رغم ما تحمله من تعميق لروح الكراهية والتجسس والوشاية بين المواطنين السعوديين، واحدة من سلسلة طويلة من الإجراءات الديكتاتورية التي اتخذها بن سلمان لتعبيد الطريق نحو كرسي العرش، إذ بات من الواضح أن الأمير الشاب لن ينتظر والده الملك سلمان حتى يموت، ليقفز على الحكم، فوجوده يمنحه شرعية مسبقة له.
وعليه يُصعٍد الرجل من خطواته نحو القضاء على كافة الأصوات التي من الممكن أن تغرد بمعزل عنه، لم تتوقف تحركاته عند حاجز المنافسين له على العرش، وعلى رأسهم عمه الأمير أحمد بن عبد العزيز، أو ابناء عمومته، الذي احتجزهم قبل ذلك، بل تجاوز ذلك إلى تطهير الساحة تماما حتى من بين أصحاب الأراء القديمة، التي كانت قبل صعود نجمه السياسي، وإن تراجعوا عنها أو ابتعدوا عن الساحة من الأساس.