وفقاً للمبادئ الأساسية المتعارف عليها عالمياً ترتكز الديمقراطية على؛ دستور وانتخابات وتعددية حزبية وفصل للسلطات ومؤسسات، ولكن تيموثي ميتشل رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا بجامعة كولومبيا الأميركية يطرح من خلال كتابه “ديمقراطية الكربون” منظوراً جديداً للديمقراطية إذ يرى أنها أتت كنوع جديد من السلطة السياسية ارتبط مباشرة بثورة الفحم والثورة الصناعية التي أوجدت نظاماً سياسياً جديداً لم يولد بسبب الفحم فحسب ولكن أيضاً بسبب التفاعلات المتبادلة بين الفحم والسكك الحديدية والبخار والمدن والموانئ ومواقع توليد الطاقة الكهربائية ومواقع التصنيع.
تاريخ العلاقة بين عملية استخراج النفط وبين نشوء الأنظمة السياسية في أوروبا
يتحدث الفصل الأول من الكتاب عن البدايات الأولى لمفهوم الديمقراطية في الغرب والتي ظهرت قبل مائتي عام مع بدايات عصر الثورة الصناعية واستخدام الفحم في عملية إنتاج الطاقة عوضاً عن الخشب؛ وهنا يتتبع الكاتب مسار العلاقة بين الوقود الأحفوري وبين الديمقراطية بوصفهما ظاهرتين لهما تاريخ مترابط ومتقاطع في تطورهما كشكلين من أشكال القوة في العالم الحديث.
فمنذ البداية ومع أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وانطلاقاً من التوسع في وجود المناجم والمصانع؛ خلق تجمع العمال في أماكن واحدة بشكل غير مسبوق الحاجة إلى تأسيس النقابات والحركات الاجتماعية وإلى ظهور ممارسات سياسية ومفاهيم مثل الانتخاب وهو ما مهد بعد ذلك لظهور الحركات التي ناضلت بشكل تدريجي من أجل الديمقراطية.
لقد تمكن النمو المتسارع للحياة الصناعية من هدم النظم الاجتماعية القائمة على السلطة المطلقة وساهم تركيز السكان بالمدن في تعبئة قوى جديدة فاعلة في عملية الديمقراطية؛ إن الكتاب هنا لا يقدم فهماً لتكون تلك القوى السياسية بشكل أحادي الجانب إذ لم تتشكل فقط بسبب الوعي السياسي والحقوقي ولكن المؤلف يرى أن تكونها كقوى سياسية وحركات اجتماعية وحقوقية جاء نتيجة تغيرات مرتبطة بشكل مباشر بعملية استخراج الطاقة وتوزيعها ومن ثم تحويلها إلى عوائد مالية.
استخراج النفط في الشرق الأوسط
يتحدث المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب عن تاريخ إنتاج النفط في الشرق الأوسط والحقيقة أن السمة الرئيسية لنفط الشرق الأوسط على مدار القرن العشرين هي أنه كان على الدوام كثيراً جداً في مواقع قليلة جداً والحال ان هذا الاجتماع للوفرة غير العادية ومحدودية المواقع هو ما أدي إلى حدوث المشكلة.
فمع الفحم وكما ذكرنا مسبقاً قامت الشركات المسئولة عن استخراجه بتقاسم عوائد الانتاج مع من قاموا باستخراجه ونقله وهو الأمر الذي مكن عمال الفحم وحلفاؤهم من حشد قوى سياسية غير عادية، أما في حالة نفط الشرق الأوسط فالوضع كان أكثر تعقيداً إذ بذلت المؤسسات الأوروبية دوراً كبيراً من أجل إيقاف إنتاج النفط أو إيقاف اكتشاف أماكن جديدة لاستخراجه وذلك في محاولة منها للسيطرة على الطاقة والنفط في العالم، ومنذ ذلك الوقت بدأت علاقة أوروبا مع نفط الشرق الأوسط حاسمة وعتبة جديدة لبدء نشوء الصراعات المختلفة.
العلاقة المباشرة بين النفط والصراع في الشرق الأوسط
في هذا الجزء تحديداً يظهر واحداً من أهم فرضيات الكاتب الرئيسية والتي يذكر فيه أنه وعلى الرغم من كل محاولات شركات البترول للسيطرة على عملية إنتاج النفط وتوزيعه إلا أن هذه الشركات لم تكن قوية بما يكفي لأن تحتكر تدفق النفط إذ كانت في حاجة لمساعدة من خارجها؛ عسكرية ومالية على حد سواء، وفي الثلث الأخير من القرن العشرين بدأت حكومات البلدان المنتجة للنفط في الاشتراك بعملية السيطرة على النفط وبذلك عرقلت كل تلك الجهود عملية بناء صناعات نفطية كبيرة في الشرق الأوسط.
وبمرور الوقت ساهمت العلاقة التي بُنيت بين المؤسسات الأوروبية ومراكز إنتاج النفط بالشرق الأوسط في إيجاد صيغ محددة وثابتة للديمقراطية؛ وهنا يقول الكاتب أن لعنة النفط باعتبارها نقيضاً للتطور الديمقراطي لا تتمثل فقط في الشرق الأوسط ولكنها في كثير من الأحيان كانت تستخدم من أجل مواجهة وتحييد الحركات التي تناضل من أجل الديمقراطية حتى في أوروبا نفسها إذ كان هناك حرص دائم عند المؤسسات الأوروبية على إجهاض أي تبلور ديمقراطي لأنها تخشى من تهديد مصالحها وسيطرتها التي تضمن لها تحديد كميات وأسعار النفط وآليات تصديره وتوزيعه.
لاحقاً يدلل الكاتب على وجهة نظره بموقف حدث بعد تسعة أشهر من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 حين اجتمع خبير أمريكي في الشئون الديمقراطية أُرسل إلى جنوب العراق حتى يناقش “بناء القدرات ” مع أعضاء مجلس محلي حيث قال وهو يبدأ في عرض شرائح الصور التوضيحية للهيكل الإداري الذي صممه الأمريكيون ” أهلاً بكم في ديمقراطيتكم الجديدة، لقد سبق أن طبقت هذا النموذج التوضيحي، في كمبوديا وفي روسيا وكذلك نيجريا” وما أراد الخبير الأمريكي قوله هو أن السياسة الاستعمارية واحدة في كل مكان إذ تتألف من مجموعة من الإجراءات والصيغ السياسية التي يتم استنساخها من مكان إلى مكان.
يستشهد الكاتب أيضاً بنماذج حديثة توثق دعم فرضيته الأساسية في دور النفط بتقويض الحركات الديمقراطية حيث يأخذ من الثورات العربية التي اندلعت عام 2011 مثالاً إذ بدا له أنها تؤكد الصلة بين الإيرادات الكبيرة للنفط وصعوبة طرح مطالب بحياة أكثر ديمقراطية ومساواة، وبوجه عام فكلما كان النفط الذي ينتجه بلد من البلدان أقل نمت النضالات من أجل الديمقراطية نمواً أسرع ولذلك انتشرت الانتفاضات بسرعة في مصر وتونس بينما عانت ليبيا وانحدرت بشكل سريع في أعمال العنف والتدخلات الأجنبية.
وهنا يؤخذ على الكاتب تجاهله للخصوصيات والأسباب التاريخية والاجتماعية المتنوعة التي دفعت كل بلد عربي في اتجاه أثناء الاحتجاجات؛ فالعلاقة التي قدمها الكتابة بين النفط والديمقراطية تبدو مهمة للغاية في بعض السياقات وضرورية للنظر في قضايا إشكالية ولكنها في بعض السياقات الأخرى تبدو فجة للغاية.
في النهاية لا يمكن قبول أي قراءة لوضع المجتمعات العربية بغير الأخذ في الاعتبار المعنى الخاص الذي يحمله كل مجتمع وتاريخ القمع والتهميش الذي خضع له، وهذا الأمر لا يظهر في التحليلات الشمولية وذلك بدون إنكار أهمية التحليل الذي ارتكز عليه الكاتب.
هل تسبب النفط في استمرار الاستعمار الحديث؟
بداية من الفصل الثالث للكتاب يتحدث ميتشل عن أن العالم الصناعي الذي أنجبته الطاقة المستخرجة من الفحم ثم لاحقاً من البترول كان عالماً استعمارياً؛ ففي الوقت الذي ساعد الفحم على تركيز الإنتاج والسكان في المواقع قرب مناجم الفحم فإن الحاجة إلى مواد غير متاحة في المناطق الصناعية مثل السكر والقطن والذهب والمطاط قد شجعت على توسع عملية الاستخراج المنجمي والاستيطان الاستعماري عبر مناطق من العالم الغير أوروبي.
والخلاصة أن العالم الغربي في حاجة لبترول العرب من أجل تشغيل مصانعه وآلاته ولكنه لا يرحب بالديمقراطية في تلك البلاد إذا كانت ستؤثر على عملية استمرار سيطرته على تدفق النفط إلى بلاده والتحكم في أسعاره، وربما يفسر هذا الأمر سبب دعم الغرب للثورات المضادة في دول الربيع العربي البترولية مثل ليبيا واليمن.