بينما يختفي معقم اليدين التجاري في الولايات المتحدة وأوروبا من رفوف المتاجر، يتحول الناس في تركيا إلى الكولونيا، وهي عطر تقليدي اكتسب أهمية جديدة وسط جائحة فيروس كورونا.
كانت الكولونيا رمزا عزيزا للضيافة والصحة التركية منذ الإمبراطورية العثمانية، وغالبًا ما توصف بأنها الرائحة الوطنية التركية. تقليديا، يقع رش هذه الرائحة المعطرة المصنوعة من أزهار التين أو الياسمين أو الورد أو الحمضيات على أيدي الضيوف عند دخولهم المنازل والفنادق والمستشفيات، أو عند الانتهاء من وجبات الطعام في المطاعم، أو عندما يجتمعون من أجل الخدمات الدينية. إلا أنه على عكس الروائح الطبيعية الأخرى، يمكن لهذا الخليط القائم على الإيثانول، والذي يحتوي على نسبة عالية من الكحول، أن يقتل أكثر من 80 بالمئة من الجراثيم ويعمل كمطهر فعال لليدين.
لذلك، عندما دافع وزير الصحة التركي عن قدرة الكولونيا على محاربة فيروس كورونا في 11 آذار/ مارس، لم يكن ذلك مصدر إلهام لموجة من اهتمام وسائل الإعلام الوطنية التي تروج لقدرة الكولونيا على محاربة فيروس كوفيدـ 19 فحسب، بل تسبب أيضًا في تشكّل طوابير تمتد لما يقرب من 100 متر أمام الكيميائيين والمتاجر في جميع أنحاء تركيا. في الواقع، منذ تأكّد أول حالة إصابة بالفيروس في تركيا في منتصف آذار/ مارس، قال بعض منتجي الكولونيا الرئيسيين في البلاد إن مبيعاتهم زادت بنسبة خمسة أضعاف على الأقل.
من جهتها، قالت الدكتورة هاتيرا توباكلي، طبيبة الأسرة في اسطنبول، التي أوضحت أن معظم منتجات الكولونيا تحتوي على 80 بالمئة من الكحول: “الكولونيا فعالة في الحماية من فيروس كورونا لأنها عندما تحتوي على 60 بالمئة على الأقل من الكحول، فإنها تكسر الغلاف الصلب للفيروس”. وتشير توباكلي أيضا إلى أن المطهرات التجارية ليست شائعة في تركيا كما هي في البلدان الأخرى، مضيفة: “الكولونيا فعالة بشكل إضافي لأنها شيء يمتلكه الكثير من الناس بالفعل وهو جزء من روتينهم اليومي. لا يحتاجون إلى تعلم طريقة جديدة لحماية أنفسهم من هذا الفيروس”.
لتلبية الطلب المتزايد على العطر، توقفت الحكومة التركية في 13 آذار/ مارس عن طلب الإيثانول للبنزين من أجل تعزيز إنتاج الكولونيا والمطهرات المنزلية الأخرى، خصيصا لمحاربة فيروس كورونا.
وفقًا لكريم مودريس أوغلو، الرئيس التنفيذي لشركة “ريبول هولدينغ”، التي تمتلك ” أتليي ريبول”، وهي واحدة من أقدم العلامات التجارية للكولونيا التجارية وأكثرها شهرة في تركيا، فإن إنتاج الكولونيا بسيط إلى حد ما. أولاً، يتكون الإيثانول النقي من الشعير المخمر أو العنب أو دبس السكر أو البطاطس ويخلط مع الماء المقطر. بعد ذلك، يضاف عطر طبيعي مثل ماغنوليا أو ليمون أو إكليل الجبل، ويترك لمدة ثلاثة أسابيع قبل أن يقع تعبئته.
بصفتها عادة متجذّرة تنمّ على حسن الضيافة، ورمزا للصحة الجيدة، تمثل الكولونيا أكثر من مادة مطهرة عملية، بل هي كذلك مصدر راحة للعديد من أصدقائي الأتراك هنا في وقت يتسم بعدم اليقين. في السنة والنصف التي عشت فيها في اسطنبول، استخدمت الكولونيا في عدد لا يحصى من المطاعم والمتاجر والمنازل. والآن، على الرغم من أن الكثير منا يستخدمونها بمفردهم أثناء الحجر الذاتي، فإنها تثير شعورا بالحنين إلى التقارب والاهتمام ببعضنا البعض.
قبل الكولونيا بوقت طويل، وقع استخدام ماء الورد. وابتداء من القرن التاسع، استخدمت الثقافات في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية عطر الورد كمعطر، كما استُخدم للطهي ولأغراض جمالية ودينية وطبية. بالإضافة إلى ذلك، استعمله الفرس والمصريون والعثمانيون أيضًا لتطهير أنفسهم والترحيب بالضيوف.
بحلول القرن التاسع عشر، شق العطر ذي الرائحة الطبيعية، والمعروف اليوم باسم الكولونيا، طريقه على طول الأسلاك التجارية، من كولونيا الواقعة في ألمانيا إلى الإمبراطورية العثمانية. وعندما جرب السلطان العثماني عبد الحميد الثاني العطر لأول مرة، حاول تعديله من خلال مزج ماء الورد التقليدي مع العطور الأجنبية الحديثة القائمة على الكحول لإنشاء الكولونيا.
من ناحية المكونات، لا يوجد فرق كبير بين الكولونيا والكولونيا التركية، حيث يستخدم كلاهما تقريبًا نفس نسبة الإيثانول والزيت العطري وغالبًا ما يشتملان على زيوت الحمضيات مثل البرتقال والليمون. ولكن ما يجعل الكولونيا فريدة من نوعها هو كيفية استخدامها ثقافيًا وعمليًا.
بحلول أوائل القرن العشرين، ارتفعت شعبية الكولونيا بفضل الكيميائيين الرائدين. في اسطنبول، افتتح كيميائي فرنسي شاب يدعى جان سيزار ريبول واحدة من أولى صيدليات تركيا في سنة 1895، وابتكر رفقة صانعه، كمال مودريس أوغلو (جد كريم)، ما لا يزال يمثل واحدًا من أكثر العطور المقطرة شهرة في تركيا في محلات أتليي ريبول.
اليوم، لا تزال أتليي ريبول تبيع عطرها المميز، “ريبول لافاندا”، الذي صُنع في الأصل باستخدام الخزامى المزروعة في حديقة ريبول. ووفقا لتقديرات كريم، تضاعفت مبيعات الكولونيا الخاصة بهم بثمانية أضعاف منذ بدء الوباء. وأوضح كريم أن الكولونيا تمثل “مطهرا ذو الفائدة المضافة لعطر الجمال”.
في غضون ذلك، على ساحل بحر إيجة في مدينة إزمير، سافر أصغر الكيميائيين في الإمبراطورية العثمانية، سليمان فريد بك، إلى مدينة غراس في فرنسا في عشرينات القرن العشرين لتعلم تقنيات صناعة العطور الفرنسية، وعاد لإنشاء كولونيا أخرى معروفة تسمى “غولدن دروب”، والتي أصبحت تمثل رمزا لإزمير. في نفس الوقت تقريبًا في أنقرة، صنع رجل أعمال يدعى أيوب صبري تونجر كولونيا باستخدام الليمون من مدينة تشيشمي الساحلية، والتي أصبحت واحدة من أشهر أنواع الكولونيا في جميع أنحاء تركيا اليوم. لا تزال علامته التجارية التي تحمل الاسم نفسه واحدة من أبرز المنتجين في البلاد.
وفقًا للمرشدة السياحية في اسطنبول، إليزابيث كوروملو، بدأت المدن الأصغر في تبني خيار الكولونيا وتغيير رائحتها بمكوناتها الفريدة والمحلية، إذ أنتجت إسبرطة كولونيا ذات رائحة الورد الحلوة. كما أنتجت المجتمعات التي تعيش بالقرب من البحر الأسود كولونيا التبغ، وفي أماكن أخرى، صُنعت كولونيا باستخدام زهر التين والفستق والياسمين والمغنوليا.
على غرار عدد مصانع النبيذ التي وقع تسميتها على اسم عائلة المالك، استحوذت الكولونيا على مكانة عائلية مرموقة، حيث وقع تسمية معظم العلامات التجارية الراقية نسبة إلى اسم مؤسسها. وانعكاسا لهذا، غالبا ما يقع تصميم زجاجات الكولونيا بأشكال مزخرفة في مصنع زجاج في إسطنبول.
اليوم، أضحى من الممكن تجميع الزجاجات الزخرفية، حيث تُباع الزجاجات النادرة من العصر العثماني مقابل خمسة آلاف ليرة تركية في المزاد. في اسطنبول، يقع عرض مجموعة جذّابة من هذه الزجاجات من خلال مجموعة وأرشفة أورلاندو كارلو كالومينو في غاليري بيرزامانلار. بحلول منتصف القرن العشرين، وقع إنتاج الكولونيا على نطاق صناعي لجعلها في متناول الجمهور. في الوقت الحالي، يوجد هذا المنتج في كل منزل تركي تقريبًا.
في السياق ذاته، أشارت كوروملو: “أضحى وجود كولونيا في منزلك أمرًا شائعًا مثل تناول الطعام في الثلاجة”. وأضافت قائلة: “عادة ما يحتفظ الناس بزجاجة في غرفة النوم والحمام وغرفة المعيشة، لذا لم تكن صعبة المنال أبدا”. وأردفت كوروملو قائلة:” كما أضحت الكولونيا أداة أساسية لتعليم آداب الضيافة للأطفال في سنّ مبكرة. عندما كنت طفلة، كان من واجبي أن أحيي الضيف وأتأكد من أن لديهم ثلاثة أشياء تركية معتادة: الكولونيا والحلوى والسجائر”.
لطالما كانت الكولونيا عنصرًا أساسيًا أثناء تنظيم التجمعات الكبيرة، كما أنها من العادات التي تمارس في الأعياد الدينية مثل رمضان. في الإطار ذاته، أفادت الدكتورة توباكلي:” في العادة، عندما يجتمع الكثير من الناس من أماكن مختلفة، يستخدم الناس الكولونيا كهدية للترحيب بالضيوف، ولكن أيضا كوسيلة للحفاظ على صحة الجميع”. وأردفت توباكلي قائلة:” إن الاعتناء بصحة ضيوفك هو شكل من أشكال الضيافة”. من المحتمل أن السياح في تركيا شاهدوا وجود زجاجة من الكولونيا في فندقهم، في حمامات المطاعم الفاخرة، أو قُدّمت إليهم في نهاية رحلة طويلة بالحافلة.
بالإضافة إلى خصائصها الصحية، يعتقد أن الكولونيا لها فوائد صحية أخرى. في الواقع، يُقال إن رش بضع قطرات منه على مكعب السكر يساعد على الهضم، وفركه على الأصداغ يمكن أن يخفف من الصداع. في هذا الصدد، أفادت كوروملو:” كلما نزور المرضى في المستشفى، كنا نأخذ إليهم الكولونيا أو كيس برتقال”.
تواصل تنامي صناعة الكولونيا حتى قبل ظهور فيروس كورونا. وبصورة تقليدية، كان العطر يباع لدى الكيميائيين ومحلات البقالة والمحلات التجارية، ولكن في العقد الماضي، شرعت العلامات التجارية التركية الكبرى في فتح متاجرها الخاصة. افتتح ” أتليي ريبول” متجره الأول في سنة 2013، ولديه الآن 22 متجرًا في جميع أنحاء تركيا. كذلك، بدأت هذه العلامة التجارية في التوسع دوليا وتوزيع العطور إلى أوروبا والشرق الأوسط وعقد شراكة مع شركة أدوية يابانية السنة الماضية. وقال كريم إنهم يخططون لافتتاح مصنع جديد لتلبية الطلب المتزايد الناجم عن كوفيد-19.
علاوة على ذلك، قال كريم: “بالكاد ستجدون الكولونيا خارج تركيا، ولكن من المرجح أن يتغير ذلك قريبا”. بعيدًا عن المحلات العصرية، لا تزال الكولونيا موزعة على نطاق واسع في جميع أنحاء تركيا. إلا أنه مع الضغط المسلّط على سلسلة التوريد خلال هذه الفترة التي شهدت ارتفاعا في مستوى الطلب، يلجأ بعض الأشخاص إلى طريقة جديدة لضمان توفير مخزون شخصي قار.
حيال هذا الشأن، أشارت كوروملو إلى أن الإيثانول، المركب الأساسي للكولونيا، يُستخدم كذلك لصنع مشروبات الكرز المقطرة التقليدية المصنوعة في المنزل، لذلك ستجد أغلب العائلات بحوزتها زجاجة من الإيثانول. وأضافت قائلة: “في أعقاب فيروس كورونا، أصبح بعض الأشخاص يستخدمونه لصنع الكولونيا بمفردهم بدلا من مشروب الكرز المعتاد. الكل ينادي بعضهم البعض ويسأل: ‘هل لديك ما يكفي من الكولونيا في المنزل؟'”.
على غرار ما يقارب من 16 مليون شخص آخر في اسطنبول، صرتُ أقضي معظم الوقت في منزلي. مع فرض تدابير البقاء في المنزل وزيادة القيود التي تنتشر يوميا تقريبا في تركيا، أرحل بذاكرتي إلى حياتي خارج هذه الجدران. إن المثير للإعجاب في هذا الواقع الجديد هو أن إحدى صفات الكولونيا الأكثر فاعلية ليست مجرد القدرة على التطهير، ولكن قدرتها على غمرنا بشتى المشاعر. فكل عبق يحمل في طياته ذكريات متعددة، وتعيدني رائحة الخزامى في الكولونيا لزيارة حقول الخزامى في إسبرطة مع الأصدقاء المقربين في الصيف الماضي. وأتذكر العشاء الجماعي في وقت متأخر من الليل في حانات ميهان المليئة بالدخان على مضيق البوسفور.
قد أكون أجنبية في هذا البلد، لكن سرعان ما أصبحت الكولونيا جزء من طقوسي اليومية والاجتماعية. وفي هذه الآونة، وعندما أستخدمها عدّة مرات في اليوم، تلهمني رائحتها وتثير مشاعري وتهدئ قلقي الناجم عن العزلة وتذكّرني بأننا جميعًا سنصنع ذكريات جديدة مرة أخرى عن قريب.
المصدر: بي بي سي