يرى الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو أن “كل عمل فني جريمة لم يتم ارتكابها”، ويقصد بذلك أن الفن يتحدى الوضع الراهن بطبيعته، فكل عمل فني بظاهره هو سياسي المضمون والرسالة ويخاطب أيديولوجيا معينة، ولذلك لا بد من التعامل معه على محمل الجد، فهو أداة صريحة وقوية كالسلاح، ولا يغيب عن ميادين الثورات السياسية والحركات الاجتماعية التي تتحدى الإجراءات والتقاليد غير العادلة، سواء بأدوات مرئية أم سمعية أم حركية.
ولعل فن الكاريكاتير من أبرز هذه الفنون الاحتجاجية الناقدة التي تتكلم الحقيقة مع السلطة بشكل رمزي وبأسلوب جريء وأحيانًا لاذع، ولا يكون بالضرورة مؤذيًا أو خادشًا، ولكنه غالبًا ما يتعمد لهجة تهكمية وساخرة، وتحمل بداخلها مضامين قوية عن قضايا إنسانية مثل المرأة والهجرة وغيرها من الحقوق الإنسانية، وتكون قيمته الأساسية في تسجيل الأحداث والوقائع للأجيال القادمة، إضافة إلى إثارة الشك في القرارات المفروضة من تسلسلات السلطة الهرمية بكل أشكالها، بهدف إحداث تأثير على الرأي العام وبالتالي الضغط على السلطات ودفعها لتغيير المسار.
فن الكاريكاتير.. جزء بارز من ثقافات العالم
ظهر فن الكاريكاتير بالمعنى الذي نعرفه اليوم في العصور الفرعونية القديمة منذ آلاف السنين، حيث تم العثور على بعض الرسوم والرموز على أوراق البردي وجدران الكهوف، ثم لوحظ انتشارها على نطاق أوسع بين مقابر النبلاء القديمة، إذ كان المصريون القدماء يستخدمونه للسخرية من الحاكم أو أي سلطة مستبدة، ومن ناحية أخرى كانوا ينتقدون من خلاله السياسات الخاطئة في المجتمع والأوقات العصيبة التي مروا بها.
مثلًا، عندما هوجمت مصر من العديد من القوى الأجنبية التي تدفقت إلى البلاد وسيطرت على أراضيها وثرواتها كما لو أنها تمتلك هذا الحق، حتى أصبحت تلك الجماعات أكثر مكانةً ومنزلةً من المواطنين المصريين أنفسهم، كثرت حينها الرسومات التي صورت أسدًا يلعب لعبة تشبه الشطرنج مع غزال بري وأخرى تمثل فأرًا يجلس على عرش وهو يحتسي النبيذ في وعاء قدمته له قطة، حيث تمثل الأخيرة الشعب المصري في إشارة إلى هيمنة الأجانب على البلاد.
وصفت الفترة ما بين الستينيات والسنوات الأولى من هذا القرن بأنها “العصر الذهبي” لرسامي الكاريكاتير
ظهرت جذور فن الكاريكاتير أيضًا في الحضارة اليونانية والرومانية، حيث شوهدت رسوم مختلفة على أسوار بومبي والأواني اليونانية، أما فيما يتعلق ببداياته في التاريخ الحديث، فيرجع إلى عصر النهضة في إيطاليا التي أنجبت أشهر فناني هذا الفن وأهمهم تيتيانوس، ولذلك تذكر الوثائق التاريخية أن الكاريكاتير اسم مشتق من الكلمة الإيطالية “كاريكير” (Caricare) التي تعني “يبالغ، أو يحمَّل ما لا يطيق”.
استخدمت هذه الكلمة لأول مرة سنة 1646، وفي القرن السابع عشر، كان جيان لورينزو برنيني أول من عرف المجتمع الفرنسي على هذا الفن، ثم انضمت بريطانيا إلى هذا الحقل من خلال الفنان جورج تاوتسهند الذي يعد أول من استخدم فن الكاريكاتير للتعبير عن الأفكار والآراء السياسية، وبالنسبة إلى العالم العربي، يعد يعقوب صنوع ومجلته “أبو نضارة” أولى الإنتاجات في هذا المجال، إذ انتقد فيها الاحتلال الإنجليزي والخديو إسماعيل وابنه الخديو توفيق، ولسوء الحظ انتهى به الأمر منفيًا من الخديوي إسماعيل إلى باريس عام 1872.
أنجبت سوريا أيضًا أعلامًا في هذا المجال، ومن أبرزهم الرسام عبد الوهاب أبو السعود رائد فن الكاريكاتير عام 1921 بجريدة باسم “جراب الكردي” التي انتقد بها جرائم الحركات الصهيونية في فلسطين، وحكومة الانتداب الفرنسي وغيرها من الأنظمة والشخصيات التي انعكست سياساتها وأجندتها على واقع المواطن السوري آنذاك، وبشكل عام، وصفت الفترة ما بين الستينيات والسنوات الأولى من هذا القرن بأنها “العصر الذهبي” لرسامي الكاريكاتير.
النكتة السياسية ونافذة الغضب المغلقة
العام الماضي، أعلنت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تخليها عن نشر رسوم كاريكاتورية سياسية في نسختها الدولية بشكل تام، بعد نحو شهر على بدء جدال وضجة بشأن كاريكاتير اعتبر “معاديًا للسامية”، الحادثة التي أثارت العديد من المخاوف والتحديات التي تواجه هذا الفن مع تزايد الدور الرقابي والتدخل السياسي في أعمالهم، ليس فقط في الدول العربية وإنما في أكثر البلدان مناداةً بمبادئ حرية التعبير.
لا تقتصر أوجه التطفل والتضييق على حذف بعض المنشورات أو تراجع حجم المساحات المخصصة لها داخل الصحف والمجلات، وإنما قد تصل في بعض الأحيان إلى محاولة كسر أصابع الرسامين مثلما حدث مع الرسام السوري علي فرزات المعروف بمعارضته وانتقاده لنظام بشار الأسد، ففي أثناء ضرب المختطفين له، قالوا: “حتى لا ترسم مرة ثانية وتتطاول على أسيادك يا عميل”.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها الفنان فرزات للقمع، فقد أغلقت السلطات سابقًا جريدة “الدومري” الساخرة في سوريا بعد أن حصل على ترخيص لها عام 2001.
دفع الرسام الفلسطيني ناجي العلي ضريبة النقد ذاتها ولكنها كلفته حياته بعدما أنتج أكثر من 40 ألف رسمة كارتونية عن القضية الفلسطينية والانتهاكات الإسرائيلية وحق العودة وغيرها من المسائل التي دفعت به إلى السجون والحظر وتلقي أكثر من 100 تهديد بالقتل طوال حياته المهنية، إلى أن انتهى به المطاف عام 1987 مقتولًا في أحد شوارع لندن.
كسرت رسومات الكاريكاتير جدران السلطة بكل أشكالها، سواء في الدوائر الاجتماعية أم الدينية أم السياسية، على أمل أن تحدث صدمة أو تغيير أو توقظ فكرة ما، ولكن في المقابل، تتعرض هذه الجرأة للتكسير، بمعناه الحرفي والمجازي، وتصبح واحدة من المتطلبات الأساسية التي تسبب الصداع للحكومات ولكنها تكفل لنا حرية التعبير والرأي في كل ما هو ممنوع بحسب مفاهيم الأنظمة الديكتاتورية.