“بنو وطني، هذا يوم تشرق فيه شمس الحرية الساطعة على وطنكم، فلا يخفق فيه إلا علمكم، ولا تعلو فيه إلا رايتكم”، خاطبت هذه العبارة جموع السوريين، تهنئهم باستقلال سوريا وجلاء القوات الفرنسية عنها، بعد احتلال دام قرابة 26 عامًا، وقالها الرئيس السوري آنذاك شكري القوتلي.
الفترة التي سبقت تاريخ جلاء القوات الفرنسية عن سوريا، الذي يعدّه السوريون عيدًا وطنيًا لهم، اشتهرت بكونها فترة نضال وكفاح مسلح وسياسي، في ذلك الزمان كان الشعب السوري الطيب بجميع مكوناته قلبًا واحدًا وإرادةً واحدةً في سبيل هدف واحد هو الاستقلال وزوال الانتداب الفرنسي الذي فرضته معاهدة سايكس بيكو عام 1916.
إثر نضال طويل نجحت الكتلة الوطنية في سوريا في تشكيل وفد سوري ليتفاوض من أجل الاستقلال مع حكومة الجبهة الشعبية برئاسة ليون بلوم، ذهب الوفد إلى باريس برئاسة زعيم الكتلة الوطنية هاشم الأتاسي عام 1936، وبعد ستة أشهر من المفاوضات تم التوقيع على اتفاقية استقلال سوريا بين الوفد السوري والحكومة الفرنسية، لم تقدم المعاهدة فورًا إلى البرلمان الفرنسي لتصديقها، وقد تغيرت الحكومة الفرنسية آنذاك.
الحكومة الفرنسية اليمينية التي تلت حكومة الجبهة الشعبية التي وقعت على نصوص المعاهدة السورية الفرنسية، انقلبت على الاتفاقية وأضافت بندًا يؤكد سيطرتها على سوريا بالكامل، وبدأت بوضع العراقيل أمام الحكومة السورية الوطنية.
عام 1943 كانت فرنسا مقسمة بين حكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول بعد إنزال الجيش الفرنسي بمساعدة الحلفاء في النورماندي، وحكومة فيشي الواقعة تحت الاحتلال الألماني النازي، ومن خلال محادثات سوريا مع حكومة فرنسا الحرة سمحت بإجراء انتخابات برلمانية مع بعض ممارسات الحكم الذاتي في سوريا، وجرت انتخابات لمجلس نيابي وترشح شكري القوتلي لمنصب رئاسة الجمهورية وتم انتخابه رئيسًا لسوريا عام 1943.
أشاع حديث الانتخابات الرئاسية الفرح في قلوب السوريين أملًا بالحصول على الاستقلال التام، الذي تم في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 بعد نضال شاق وطويل، إذ أيدت منظمة الأمم المتحدة قرار استقلال سوريا ووحدتها، بأغلبية الأعضاء، وهكذا احتفلت سوريا حكومة وشعب بعيد الاستقلال لأول مرة في 17 من أبريل/نيسان 1946 في عهد رئاسة شكري القوتلي.
سوريا – اللاذقية في يوم جلاء القوات الفرنسية عن سوريا
سوريا بعد الاستقلال
لقد كان الشعب السوري بعد نيل الاستقلال أعزل، ولاءه الإسلام، معظمه جاهل أُميّ، ومنه توجد نخبة قليلة العدد ذات ثقافة غربية، غالبها من الأقليات، منتشرة في الجيش والوظائف وعلى رؤوس الأحزاب “على رأس معظم المفاصل الحساسة في الدولة”.
بدأت الحياة السياسية تظهر في دمشق وباقي المدن السورية، واستجدت مفاهيم جديدة لمرحلة زمنية جديدة في سوريا كانت قد تأكدت في العالم الحرّ الذي نتج عن سقوط ديكتاتوريات مستبدة في النظام النازي في ألمانيا والنظام الفاشي في إيطاليا، بعد انهيارهم وانهزامهم في الحرب العالمية الثانية.
بدأ الناس في سوريا المستقلة بتداول الأحاديث السياسية فيما بينهم بعبارات مثل الديمقراطية والعدالة وحرية التعبير والنظام البرلماني، وشيئًا فشيئًا بدأت تتشكل الأحزاب السياسية على أنقاض الكتلة الوطنية التي انقسمت على بعضها بعد أن كانت تجمع الشعب السوري وتقود المفاوضات والثورات.
ازدهر الإعلام في الصحافة السورية وتأسست صحف جديدة في العاصمة وبقية المحافظات، كما بدأت تتشكل حركات قومية بين الشباب مثل حركة البعث العربي والقومي السوري والحزب الشيوعي، وبدأت أيضًا تطفو على السطح تجمعات حزبية أخرى كانت موجودة قبل الاستقلال ولكنها كانت منطوية تحت شعار النضال ضد الاستعمار في بوتقة الكتلة الوطنية.
في عام 1947 جرت انتخابات نيابية لمجلس نواب جديد يلي المجلس الذي انتهت مدته الدستورية، وخلال الحملة الانتخابية حصلت انقسامات قوية بين التجمعات السياسية، وبرزت إلى السطح نزعات مناطقية محتدة المصالح، فقد تجمع الدمشقيون وممثلوهم من زعماء دمشق في تحالف ليكون لهم السبق في نيل السلطة، وفي الشمال جرت تحالفات منها ما هو بالمرصاد لتحالف دمشق، وهكذا وبدرجة أخف في بقية المحافظات.
كانت تلك التحالفات السياسية تتم على أساس المصلحة بالدرجة الأولى، ولم تكن الخلافات بينها سياسية جوهرية أو خلافات عقائدية إيديولوجية، بل كانت تحالفات تتعلق بسير الأعمال في الإدارات وتعيين الموظفين حسب صلتهم القريبة أو البعيدة بالوزراء والمسؤولين، وظهرت الخلافات بشكل جليّ دائمًا في أوقات إجراء الانتخابات النيابية.
حاول مرشد الإخوان المسلمين الدكتور مصطفى السباعي دخول المعترك السياسي، ولكنه قوبل بتحالف جميع القوى ضده “حتى المتناحرة فيما بينها”
القوى والأحزاب السياسية في سوريا بعد الاستقلال
يمكن تحديد أربعة أصناف لتلك القوى والتجمعات بناءً على معتقداتها، وهي:
- أحزاب ليبرالية:
- حزب الشعب 1948 – 1962 بقيادة رشدي الكيخيا وناظم القدسي.
- الحزب الوطني، أُسس عام 1947 برئاسة سعد الله الجابري
- أحزاب قومية اشتراكية:
- الحزب التعاوني الاشتراكي بقيادة فيصل العسلي الذي أسسه عام 1947.
- حزب البعث وقد تأسس عام 1946 وكان أستاذاه ميشيل عفلق وصلاح البيطار.
- الحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني.
- الحزب القومي السوري بقيادة أنطوان سعادة.
- أحزاب شيوعية:
- الحزب الشيوعي السوري الذي تأسس على يد فؤاد الشمالي عام 1924.
- أحزاب إسلامية:
- الإخوان المسلمون الذين حاول مرشدهم الدكتور مصطفى السباعي دخول المعترك السياسي، ولكنه قوبل بتحالف جميع القوى ضده “حتى المتناحرة فيما بينها”.
سوريا في حضرة الأحزاب السياسية
لم تكن الكتلة الوطنية قبل الاستقلال حزبًا سياسيًا، بل إنها أدانت تشكيل أي أحزاب، لأن ذلك يشكل تهديدًا للوحدة الوطنية في مواجهة الاستعمار، ومن هنا جاء اختيارها لمصطلح “كتلة” دلالة على رؤيتها، ومن هذا المنطلق غاب عن بيان تأسيسها أي برنامج اجتماعي أو اقتصادي، وانحصر كل تركيزها في هدف وحيد هو وحدة الأراضي السورية واستقلالها.
جرى حل الكتلة بعد الاستقلال وأسس أعضاؤها الدمشقيون حزبًا أسموه “الحزب الوطني”، بينما أسس أعضاؤه الحلبيون حزبًا آخر أسموه “حزب الشعب”، وقد عكس تشكيل هذين الحزبين الانقسام السياسي والاقتصادي والمناطقي الذي كان حاصلًا بالفعل بين وطنيي دمشق ووطنيي حلب، خلال الفترة الانتدابية.
ونظرًا لأن الشخصيات التي ساهمت في تأسيس الحزبين السابقين كانت منحدرة من صلب الكتلة الوطنية، وكلهم ذوي تاريخ نضالي ووطني، فقد تمكنت قيادة الحزبين من السيطرة على الساحة السياسية السورية لبضع سنوات بعد الاستقلال، لما كان لها من قدرة على حشد الجماهير ولإمكاناتها الاقتصادية والاجتماعية، بحكم انحدارها من طبقة المُلاك الأعيان البيروقراطيين، والبورجوازية التجارية، تلك الطبقة التي تمرست في السياسة والحكم على مدار عقود.
ساهمت العصبة في وضع الأسس الفكرية والتنظيمية للعروبة الراديكالية، التي طور حزب البعث نفسه على أساسها بعد الاستقلال
لم يختلف الحزبان في سياستهما الداخلية التي تمثلت في دعم التجار والصناعيين في المدن والحفاظ على العلاقات الزراعية القائمة في البلاد، ولكنهما في الوقت نفسه، لم يطرحا أي برنامج عقائدي/إيديولوجي أو سياسي، في الوقت الذي بدأت فيه بالظهور أحزاب قادمة من الطبقة الوسطى الصاعدة، مفعمة بإيديولوجيات راديكالية، مختلفة ومتباينة، استهوت الأجيال المثقفة الجديدة التواقة إلى التشبه بالمناخ السياسي والإيديولوجي الذي كان يعصف بأوروبا في تلك الفترة.
وكان للرفض الشعبي العميق لمفرزات اتفاقية سايكس بيكو، كما للسياسة البريطانية المتحالفة مع الحركة الصهيونية في فلسطين، دورهما الحاسم في تجذير تلك الإيديولوجيات وانتشارها في الضمير الوطني للسوريين.
كانت بداية نشوء هذه التيارات الراديكالية مع عصبة العمل القومي التي ظهرت في الثلاثينيات كاستجابة للتغييرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي كانت تجري تحت السطح السياسي، ولقد تركت بصماتها على السياسة الوطنية بحكم أنها عبّرت عن مركب متين من الطبقة الوسطى، ومع أن العصبة لم تنج من الحرب، فقد ثبت أنها الأصل الإيديولوجي لحزب البعث، التنظيم السياسي ذو التأثير الأطول مدى في حياة سوريا.
ساهمت العصبة في وضع الأسس الفكرية والتنظيمية للعروبة الراديكالية، التي طور حزب البعث نفسه على أساسها بعد الاستقلال، وكان البعض من مؤسسي البعث وقادته الأولين أعضاءً سابقين في العصبة، ومنهم زكي الأرسوزي وجلال السيد، وعلى غرار قيادة العصبة التي ضمت عددًا من الشبان غربيي الثقافة، تلقى العديد من أوائل القادة البعثيين علومهم في باريس، وكان منهم ميشيل عفلق وصلاح الدين بيطار والأرسوزي نفسه.
جذبت العصبة، ومن ثم البعث، أعدادًا كبيرة من العاملين في التعليم، كما أن قيادات العصبة وقيادات البعث الأولى كانت تنتمي إلى جيل من الشباب السوريين الذين ولدوا بين عام 1900 والحرب العالمية الأولى، وما بعدها، فيما يمكن اعتبارهما الجيلين الثاني والثالث من أجيال الساسة السوريين.
ومثلما تشددت العصبة في معارضة نخبة الوطنيين القدامى بشأن التسويات مع الفرنسيين في أواخر الثلاثينيات، وعارضت رغبتهم في توكيد القطرية السورية على حساب العروبة، فقد كان البعث ذات الشيء في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد فضل الفرنسيون تجنيد الشبان من الأقليات وسكان الأرياف، لأنهم كانوا بعيدين جدًا عن إيديولوجيا سوريا السياسية السائدة “السياسة الوطنية”
وقد كان لوحدة الحزبين، البعث والعربي الاشتراكي الذي أسّسه رجل حماة القوي أكرم الحوراني، دور محوري في مد حزب البعث بأنصار من الطبقات الشعبية وشبان الأقليات، وإنشاء روابط حاسمة مع صغار الضباط في الجيش.
وعلى هذا فقد كان هناك جيل ثانِ من القوميين العرب مهيأ لمحاولة الحصول على السلطة في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الجيش السوري عاملًا حاسمًا في محاولة الحصول على هذه السلطة، فقد كان العسكريون المسيسون هم الأقل بروزًا خلال الانتداب، لكنهم كانوا فيما بعد أكثر من عمل بالسياسة السورية تمزيقًا، كما أن عاملًا آخر ظهر خلال الانتداب، ساهم كثيرًا في تجذير المؤسسة العسكرية بعد الاستقلال، وهو تركيبها المتبدل، فوفقًا للتخطيط الفرنسي، طوّر الجيش تركيبًا ريفيًا وأقلّويًّا قويًا، كان فيه للعلويين موقع مرموق، وفي نهاية الانتداب كانت عدة كتائب في القوات الخاصة مؤلفة بكاملها تقريبًا من العلويين، بينما لم تكن هناك أي كتيبة عربية سنية.
لقد فضل الفرنسيون تجنيد الشبّان من الأقليات ومن سكان الأرياف، لأنهم كانوا بعيدين جدًا عن إيديولوجيا سوريا السياسية السائدة “السياسة الوطنية”، ولما كان العلويون هم الأكثر فقرًا، فقد كانوا الأكثر عددًا في الجيش، إلا أنه لم يكن لهم تأثير ملموس لمدة جيل كامل بعد الاستقلال، ولم يسيطر العلويون على الجيش إلا في الستينيات، بعد أعمال تطهير متتالية جرّدت المراتب العليا فيه من الضباط السنة.
ولكي يعبّر صغار الضباط العلويون والدروز والسنة عن أهدافهم وتطلعاتهم، كانوا يحتاجون إلى إيديولوجيا، وقد وفر البعث لهم إطارًا فضفاضًا من الأفكار بدرجة تكفي غاياتهم، إذ شدد برنامجه وقتها على إصلاح الأراضي وعلى إجراءات اقتصادية ترمي إلى المساواة وندّد بالطائفية.
ومع حلول الخمسينيات بدأ أولئك الضباط يخترقون حزب البعث عبر قاعدته في الجيش السوري، وبذلك عززت كل مؤسسة راديكالية منهما الأخرى، ونبذتا معًا الأسس الاقتصادية والاجتماعية لسلطة النظام القديم واستبدلتا الخبرات السياسية لقدامى الوطنيين بأسلوب جديد وأكثر فاعلية، وفي النهاية، غيّرتا جذريًا أساليب الممارسة السياسية، وبهذا أصبحت أيام الحرس القديم الذي قاد البلاد باتجاه الاستقلال، معدودةً.
بدأت الاضطرابات الناتجة عن تلك الفترة بالتزايد وأُلقي القبض على ميشيل عفلق زعيم البعث الأول، لتوزيعه منشورات ضد الحكومة تشجب إخفاقها في فلسطين
التخلي عن الديمقراطية وانقلابات متتابعة
في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1947 دفع الرئيس شكري القوتلي الحكومة إلى التقدم بمشروع قانون لتعديل المادة (68) من الدستور، كي يتم إعادة انتخابه خمس سنوات في 18 من أبريل/نيسان 1948، فابتهج المنتفعون وازداد غضب المخططين للإصلاح فيما بعد الانتخابات، وقد أسهم ذلك في انهيار النظام البرلماني السوري في الأشهر الـ14 التالية.
في حرب فلسطين عام 1948 ذهبت قوات الجيش السوري للمعركة بذخيرة لا تتجاوز بضع مئات للسلاح الواحد، وقد تكشّف ضعف الجيش من الأيام الأولى فاستقال على إثرها وزير الدفاع، وتولى حينها رئيس الوزراء جميل مردم وزارة الدفاع بنفسه. في ذات الوقت ظهرت قضية فؤاد مردم الذي أُرسِل لإيطاليا لشراء الأسلحة والذخائر، وتكشّف أنها وصلت عن طريقه لـ”إسرائيل”، بدل أن تصل لسوريا.
بدأت الاضطرابات الناتجة عن تلك الفترة بالتزايد وأُلقي القبض على ميشيل عفلق زعيم البعث الأول، لتوزيعه منشورات ضد الحكومة تشجب إخفاقها في فلسطين، وفي الذكرى السنوية لقرار التقسيم أخرج حزب البعث الطلاب ومناصريه للشوارع ضد الحكومة وانتشرت المظاهرات وأطلق رجال الشرطة النار على المتظاهرين وقتلوا أربعة منهم في دمشق.
عندها تحرك الجيش بقواته ودباباته لفرض حظر تجول في العاصمة، وهنا كانت المرة الأولى التي يستشعر فيها الجيش طعم السلطة، وهو ما مهّد لمرحلة الانقلابات العسكرية المتتابعة.
- انقلاب حسني الزعيم 1949:
جرى الانقلاب ليلة 30 من مارس/آذار 1949، وصدر عن راديو دمشق حينها بلاغ عسكري رقم (1) جاء فيه أن الجيش تدخل ليعيد الأمور في سوريا إلى نصابها. حصل الانقلاب دون إراقة قطرة دم. وقد آزر حسني الزعيم في انقلابه نائبه في القيادة بهيج الكلاس وأديب الشيشكلي قائد وحدات المشاة والمدرعات التي نفذت الانقلاب بالزحف إلى دمشق من قطنة.
- انقلاب سامي الحناوي 1949:
كان للضباط الدروز الدور الأساسي في هذا الانقلاب، ومعظمهم كان ينتمي للحزب السوري القومي، وكانوا من الحاقدين على حسني الزعيم بعد أن سلم في فترة حكمه زعيمهم أنطوان سعادة إلى الحكومة اللبنانية التي أصدرت حكمًا بإعدامه، وقتل.
جرى الانقلاب في الـ14 من أغسطس/آب 1949، وقد أجرى انتخابات لجمعية تأسيسية وضعت دستورًا للبلاد، وتم انتخاب هاشم الأتاسي رئيسًا للجمهورية، وكلف ناظم القدسي بتشكيل الوزارة.
في هذه الفترة أُسنِدت وزارة التربية إلى ميشيل عفلق “زعيم البعث الأول”، الذي أتى بجميع رفاقه البعثيين ووضعهم في مكاتب وإدارات الوزارة، وعمل على تغيير المناهج في إطار الفكر القومي البعثي.
اتسمت فترة الخمسينيات والستينيات بتصدع البنية للمجتمع السوري، إثر غياب التوافق السياسي الداخلي وضعف التماسك المجتمعي
- انقلاب أديب الشيشكلي 1949:
في الـ19 من ديسمبر/كانون الأول 1949، أطاح الشيشكلي بالحناوي، بعد اختلاف حاد مع توجهات الأخير، وزج به في السجن، في أول سنتين من حكم الشيشكلي تشكلت خمس وزارات نتيجة التجاذبات السياسية والإقليمية.
تنسب للشيشكلي المقولة المعروفة الشهيرة “احذروا الجبلين” ويقصد جبل العلويين وجبل الدروز، وقد اغتاله في منفاه الاختياري في البرازيل شخص درزي.
حكم لفترة أطول من نظرائه السابقين، وفي الـ25 من فبراير/شباط 1954 قام النقيبان مصطفى حمدون وفيصل الأتاسي بانقلاب ضده، ونُفي بعد أن سجن.
من الوحدة والانفصال إلى قبضة البعث
اتسمت فترة الخمسينيات والستينيات بتصدع البنية للمجتمع السوري، إثر غياب التوافق السياسي الداخلي وضعف التماسك المجتمعي، وتعرف هذه المرحلة بالطريق المعبد الذي أوصل البعثيين ومن ثم الأسد، للسلطة في سوريا.
في 22 من فبراير/شباط 1958 أعلنت الوحدة بين سوريا ومصر بتوقيع ميثاق الجمهورية المتحدة من الرئيسين، السوري شكري القوتلي والمصري جمال عبد الناصر، واختير الأخير رئيسًا، والقاهرة عاصمة للجمهورية الجديدة التي دام عمرها ثلاث سنوات ونصف، وكانت وبالًا على سوريا.
صورة تجمع الرئيسين السوري والمصري بعد توقيع معاهدة الوحدة
تم في عهد عبد الناصر إصدار قرار تأميم المصانع والملكية الزراعية، ما أدى لهروب رؤوس الأموال من سوريا ومصر، وتحولت المصانع التي كانت تنافس الدول الأوروبية لأماكن إيواء لمن يريدون راتبًا بلا عمل.
مما شرطه عبد الناصر من أجل الوحدة، على البعثيين، حلّ جميع الأحزاب، وقد تحولت سوريا من وقتها لحكم الحزب الواحد والرجل الواحد والعقلية الواحدة، ومما أتى به أيضًا عبد الناصر لسوريا هو حرف توجه واختصاص أجهزة الاستخبارات من دورها في حماية الدولة ومؤسساتها إلى عقلية “الاستخبارات في مواجهة الشعب” نصرةً للحزب الواحد والحاكم الواحد، وفي وقتها تم تشكيل أجهزة الأمن والاستخبارات باختلافها في سوريا.
في 28 من سبتمبر/أيلول 1961 قامت مجموعة مؤلفة من 37 ضابطًا سوريًا بقيادة عبد الكريم النحلاوي بانقلاب عسكري أدى لانفصال الوحدة بين مصر وسوريا.
ما بعد انقلاب الانفصال 1961، وقبل انقلاب الـ8 من مارس/آذار 1963، عرفت هذه الفترة بفترة الانفصال، وتميزت بالفترة التي تلت الاستقلال مباشرة من حيث الحرية السياسية وفرصة العودة لنشاط العمل الحزبي والسياسي من منبر الإصلاح والتغيير.
كان على رأس الحكومة في تلك الفترة ناظم القدسي وشخصيات كثيرة تتبع لمختلف الأحزاب السياسية في سوريا، لم تسرح الحكومة ولا المؤسسات من كان مناوئًا لها فيما سبق “زمن الانقلابات المتتالية”.
وبقي مجموع الضباط القوميين والبعثيين والناصريين في الجيش آنذاك، واستغلوا فرصة الظهور ضد عودة الوحدة بين مصر وسوريا من بعض الناصريين، ذاك ما أدى لعقد مؤتمر حمص لتسوية الأمور، الذي كان من قراراته نفي كل من كان له علاقة بانقلاب الانفصال وعلى رأسهم النحلاوي، في الوقت الذي بدأ فيه البعثيون والناصريون بالحركة القصوى إثر فراغ الساحة.
في 8 من مارس/آذار 1963 قامت اللجنة العسكرية في حزب البعث، بعيدًا عن القيادة المدنية له، بانقلاب على حكومة خالد العظم، على غرار الانقلاب العسكري الناجح لحزب البعث في العراق وقتها، قاد الانقلاب من أعضاء اللجنة العسكرية محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، وقد وافقهم من الناصريين راشد قطيني ومحمد الصوفي، بالإضافة لزياد الحريري ولؤي الأتاسي اللذين كانا في مقدمة الانقلاب ظاهرًا، أمام الجميع.
صورة من وكالة الأنباء الأمريكية “أسوشيتد برس” تنقل خبر انقلاب 8 من مارس/آذار
كان هذا الانقلاب الضربة الثانية الموجعة لسوريا، بعد إعلان الوحدة واستبداد عبد الناصر، فعلى إثره شُكل المجلس الوطني الأول وتألف من لؤي الأتاسي رئيسًا وعضوية أربعة بعثيين هم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وموسى الزعبي، وأربعة ناصريين هم راشد قطيني وفواز محارب وكمال هلال ودرويش الزوني، وثلاثة مستقلين هم زياد الحريري وغسان جديد وفهد الشاعر.
بعدها بدأت مرحلة عرفت بما قيل عنها “عدس” ويقصد بها (علوية – دروز – سمعولية) في إشارة لحكم الأقليات لسوريا جميعها آنذاك، واستمرت لعام 1966 إذ كانت البلاد تحكم بالوجه الحقيقي من خلال اللجنة العسكرية المتمثلة بصلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران.
في 1966 وبعد أن أزاح البعثيون خصومهم خلال الفترة السابقة، خصيصًا على إثر الانقلاب الفاشي لجاسم علوان الذي كان بعد انقلاب الـ8 من مارس/آذار بقليل، بدأ البعثيون الصراع فيما بينهم، بين كتلتين: الأولى وتمثل القيادة التاريخية للحزب متمثلة بميشيل عفلق وصلاح الدين بيطار ومنيف الرزاز وغيرهم، ومعهم بعض الضباط على رأسهم أمين الحافظ ومحمد عمران، والثانية كتلة من الضباط الصغار المنتمين للأقليات.
حسم هذا الصراع في 23 من فبراير/شباط 1966، إذ أزاحت مجموعة من ضباط الرتب الصغيرة في حزب البعث، كل القيادة التاريخية للحزب، فانتهت السلطة إلى يد مجموعة من الضباط أبرزهم صلاح جديد وحافظ الأسد وسليم حاطوم وعبد الكريم الجندي ومعظمهم من الأقليات، وقد تحالفوا مع مجموعة من القيادات المدنية السنية، نور الدين الأتاسي في منصب رئيس الجمهورية شكليًّا، ويوسف زعين رئيسًا للوزراء، وغيرهم.
هنا أصبح حافظ الأسد وزيرًا للدفاع واستصدر قرارًا حصر فيه التنقلات بالجيش عن طريقه وركّز أتباعه في المراكز الحساسة للجيش.
في سبتمبر/أيلول من ذات العام حاول سليم حاطوم وعبد الكريم الجندي ومن معه سحب السلطة لصالحهم وإقصاء صلاح جديد وحافظ الأسد، وكانت المحاولة فاشلة واستدعت من جديد والأسد إرسال فرق الجيش لملاحقة كل من له علاقة بهذا الانقلاب، على إثرها هرب سليم حاطوم ومن معه إلى الأردن، وتم تسريح عدد كبير من الضباط في الجيش معظمهم من الدروز.
لم يلبث أن بدأ التصادم بين صلاح جديد وحافظ الأسد قبل حرب يونيو/حزيران 1967، وظهر الصراع بينهما جليًّا في المؤتمر القطري الرابع في سبتمبر/أيلول 1968، إذ تكتل الاتحاد الاشتراكي العربي مع الاشتراكيين العرب وحركة القوميين العرب والبعث العراقي في جبهة واحدة، معارضة لحكم صلاح جديد.
بعد نجاح حافظ الأسد بالانقلاب على الجميع ونجاح حركته التصحيحية، قدّم نفسه كزاهد في السلطة، إذ عين شخصًا يدعى ـحمد الخطيب رئيسًا للجمهورية
الأسد أو لا أحد
عُقدت دورة استثنائية للمؤتمر القومي العاشر لحزب البعث، بين 30 من أكتوبر/تشرين الأول و12 من نوفمبر/تشرين الثاني 1970، وتقرّر فيها تغيير قيادة الجيش وإقالة حافظ الأسد من مكانه كوزير للدفاع ومصطفى طلاس كرئيس للأركان، وفي صبيحة اليوم التالي، 13 من نوفمبر/تشرين الثاني، قام حافظ أسد بتحريك جميع القطع العسكرية التابعة له واعتقل صلاح جديد وكان الأمين العام لحزب البعث ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي ورئيس الوزراء يوسف زعين وأعضاء القيادة مصطفى رستم ومروان حبش وفوزي رضا، وجميع القيادة البعثية آنذاك.
في 16 من نوفمبر/تشرين الثاني 1970، أعلن حافظ أسد عما سمّه “الحركة التصحيحية”، منهيًا الصراع بينه وبين صلاح جديد، وتركه في السجن هو والكثير من أعضاء القيادة لمدة تقارب الربع قرن، وبعضهم توفي في السجن مثل صلاح جديد. وهم رفاق الأسد التاريخيين.
بعد نجاح حافظ الأسد بالانقلاب على الجميع ونجاح حركته التصحيحية، قدم نفسه كزاهد في السلطة، إذ عين شخصًا يدعى أحمد الخطيب رئيسًا للجمهورية، ومن ثم نظم مسيرات جماهيرية يومية تطالبه وترجوه بالترشح لرئاسة الجمهورية، وكانت إذاعة دمشق في ذاك الوقت تذيع باستمرار أغنية “تسلم إيديك يا معلم… قود السفينة يا معلم”.
ذاك ما اضطره للنزول عند الرغبة الشعبية للجماهير، وقبول تكليف الشعب له بهذه المهمة الشاقة “التي لا يرغب بها”، في 11 من مارس/آذار 1971 نظم الأسد استفتاءً شعبيًّا حول شخصه كمرشح وحيد لرئاسة الجمهورية، وفاز به بنسبة 99.7%، حينها أمسك الزاهد حافظ أسد بالسلطة، وقد أمسك بتلابيبها حتى مماته.