حين نتعمق في التاريخ، ندرك أن للأزمات جانبًا سلبيًا وآخر إيجابيًا، فالإنسانية لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار إلا عبر التعلم من أخطائها وأخذ العبر منها، فبعد كل حادث طيران تمضي فرق التحقيق أشهر وربما سنوات في التدقيق بأبسط التفاصيل للحول دون تكرار المأساة مرة أخرى، وأوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية تعلمت جيدًا أن مستقبلها يكمن في أوروبا موحدة تعمل معًا في سبيل خير ورخاء شعوبها لا أوروبا مفككة ومتناحرة، وقد أسست لاتحاد سياسي اقتصادي صار نموذجًا.
اليوم، يقف العالم مرة أخرى أمام مفترق طرق وهو يواجه وباء وأزمة دولية هي الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وتونس لا تنفصل عن هذا العالم ولا هي باستثناء، والسؤال الذي بدأ يطرح اليوم سواء في البرامج الحوارية التلفزية أم حتى في نقاشات المواطنين العاديين هو: ما الذي علينا تعلمه من هذه الأزمة التي أرغمت الملايين من التونسيين على البقاء في منازلهم دون عمل ومئات الآلاف من التلاميذ دون دروس؟
5 خيارات
ثمّة خمسة خيارات كبرى لها الأولوية القصوى على مستوى المراجعة والمناقشة إذا مرت هذه الجائحة بسلام وبأقل الخسائر والأضرار الممكنة، وهو ما نتمناه لتونس والبشرية جمعاء.
نظام حكم لا مركزي
أولًا، تفعيل نظام الحكم اللامركزي حتى تكون للسلطة الجهوية (أي على مستوى كل ولاية) قدرةً أكبر ونجاعةً أفضل في مواجهة مختلف الأزمات سواء كانت أمنية أم اقتصادية أم صحية أم بيئية، هذا أحد استحقاقات الدستور (في الباب السابع منه) الذي تأجل تفعيله لسنوات بسبب ما عشناه خلال الدورة البرلمانية الماضية من تفكك الحزب الحاكم صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر (نداء تونس) وغياب روح الفريق عن التحالف الحكومي القائم بين حركتي النهضة ونداء تونس آنذاك، وأخيرًا الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة) خلال العامين الأخيرين.
يجب إعادة النظر في المنظومة الاقتصادية وجدوى استمرارية المراهنة على القطاع السياحي
ثورة رقمية
ثانيًا، البلاد بحاجة إلى ثورة رقمية سواء على مستوى تطوير خدمات الإدارة العمومية وشركات القطاع الخاص أم تدريب الناس على إتقان التكنولوجيا الحديثة، من العار أننا نعيش في القرن الـ21 بينما جل مواقع الإدارات عمومية تليق بتسعينيات القرن الماضي ولا تتوافر على أبسط معايير الأمن السيبراني، ولدينا مواطن عمره 40 سنة يقف أمام موزع آلي بنكي وهو يجهل طريقة استعماله (كنت أنا شخصيًا شاهدًا على هكذا حالات).
في حوار أجري معه مؤخرًا وبالتحديد يوم 24 من مارس 2020 أوضح زياد الصغاري عضو المكتب التنفيذي بالغرفة الوطنية لمؤسسات الخدمات والهندسة الإعلامية التابع لاتحاد الصناعة والتجارة أن كل من القطاع العام وبعض شركات القطاع الخاص ما زالت تستعمل الأوراق في معاملاتها ولم تتبن بعد سياسة صفر أوراق.
إضافة الى ذلك تونس لديها الكفاءات الشابة القادرة على قيادة الثورة في هذا المجال لكن للأسف أغلبهم يهاجر إلى الخارج وتستفيد منها الدول المتقدمة لأنها لا تجد ما يلبي تطلعاتها في تونس، رغم أن مهاراتها جد مطلوبة في باقي أنحاء العالم، فإذا نجحنا في القيام بهذا التحول الرقمي، فسوف تُفتح الآفاق للنهوض بمنظومة العمل عن بعد والدراسة عن بعد.
تطوير المنظومة الاقتصادية
يجب إعادة النظر في المنظومة الاقتصادية وجدوى استمرارية المراهنة على القطاع السياحي الذي أثبتت الوقائع مرات ومرات أنه قطاع جد حساس قادر أن يتأثر ببركان يثور في أيسلندا (وهو ما حصل في ربيع العام 2010)، للأسف هذا خيار سرنا فيه منذ 30 عامًا، في حين أن الاستثمار في الفلاحة والصناعات الوطنية والتكنولوجيات العالية كان أولى، فالسياحة تكون من الكماليات عندما يكون لدى البلد زراعة عصرية وصناعات تصديرية مثلما هو الحال مع إسبانيا أو تركيا أو الصين.
فتح أسواق جديدة هو الآخر مسار يجب المضي فيه بتخطيط دبلوماسي واقتصادي مدروس حتى لا نكون في تبعية كاملة للاتحاد والسوق الأوروبية
الاتحاد المغاربي
تفعيل الاتحاد المغاربي وتحويله من مجرد فكرة أو مبادرة إلى مؤسسات وهياكل تشتغل على الأرض (سوق مشتركة، اتحاد جمركي، قوانين اقتصادية موحدة، معاهدة شبيهة بمعاهدة ماستريخت وإذا كنا جد حالمين عملة وبنك مركزي مشترك) صار أكثر من ضرورة، وقد سبق أن نادى الرئيس السابق المنصف المرزوقي بالحريات الخمسة بين دول المغرب الكبير (حرية التنقل ببطاقة الهوية، حرية العمل، حرية الإقامة دون ترخيص مسبق، حرية الملكية، المشاركة في الانتخابات البلدية) وحاول تحريك المياه الراكدة بين الجزائر والمغرب (الذي يمثل خلافهم القائم بشأن الصحراء الغربية العقبة الكبرى في طريق بناء الاتحاد) خلال بداية عهدته سنة 2012، لكن جهوده ذهبت أدراج الرياح.
ولعلنا نرى تحركًا تونسيًا جديدًا وجديًا في هذا الاتجاه مع العلم أن مسار التوحيد قد يستغرق سنوات أو عقود حتى يصل إلى مراحل متقدمة.
الاتجاه شرقًا
خامسًا وأخيرًا، التوجه نحو بلدان آسيا الشرقية (اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، ماليزيا) والانفتاح على هذه الدول اقتصاديًا وعلميًا وحضاريًا كوجهة لتنويع علاقاتنا الدولية وفتح أسواق جديدة هو الآخر مسار يجب المضي فيه بتخطيط دبلوماسي واقتصادي مدروس حتى لا نكون في تبعية كاملة للاتحاد والسوق الأوروبية.
هذا ما أراه خطوطًا كبرى لأي عملية مراجعة وإصلاح شامل بعد الانتصار في الحرب ضد وباء كورونا، قد يتفق معي البعض وقد يختلف الآخرون، لكن من المهم أن يطلق النقاش ويدلي المختصون والخبراء بدلوهم في هذه القضايا.