تقرير: ورد فراتي | تصوير: سعد الحاج – عمران الدوماني
“الله أكبر.. الله أكبر..”
يرتفع أذان الظهر من الجامع الكبير الأثري في مدينة الباب السورية، الذي اعتاد “أبو عبدو” – ذو الأعوام الـ60 – انتظار سماعه للقدوم إلى المسجد الذي بات متنفسه الوحيد في الأعوام الثلاث الماضية، منذ قدومه إلى المدينة ضمن قوافل التهجير من مدينة حلب بعد احتلال روسيا وإيران لها
أبو عبدو في ساحة المسجد الكبير في الباب
لكن هذه المرة لم يدخل إليه! بل اكتفى بالجلوس على كرسي عام في الساحة المنشأة حديثًا أمامه، يستمع إلى الأذان ويراقب أقرانه من رواد المسجد الذين يأتون إلى هذه الساحة مراقبين بواباته المغلقة، بعد قرار وزارة الأوقاف في الشمال المحرر منع إقامة صلاة الجماعة في مساجد المدينة، ضمن محاولات الجهات الرسمية فيها لمنع انتشار فيروس كورونا الذي يبدو أنه لا يعترف كثيرًا بالحدود أو توزع مناطق النفوذ والسيطرة أو حتى المسافات!
الجامع الكبير في مدينة الباب
فرغم أن منشأ الفيروس ذي الاسم العلمي “كوفيد-19” كان في مدينة ووهان بدولة الصين، على بعد 7000 كيلومتر شرقًا، إلا أننا اليوم وبعد مرور أربعة أشهر على الحالة الأولى، نعيش في مواجهة مفتوحة، طرفها الفيروس من جهة والبشرية جمعاء على اختلاف ألسنة أهلها وثقافاتهم وأفكارهم وحتى مواقفهم السياسية من جهة أخرى.
حتى في هذا الجزء المحرر من دولة مزقتها حرب لم تهدأ جبهاتها منذ تسع سنين، تجد أن السلطات تأخذ الموضوع على محمل الجد، فتصدر قراراتها بإغلاق المساجد والمدارس وما شابهها من المعاهد التعليمية والجامعات، إضافة إلى تعليق الأنشطة الرياضية وعمل اللجان الحكومية غير الضرورية، مع منع إقامة خيم العزاء والأفراح، وقصْر عمل المطاعم على تقديم الطعام إلى الزبائن ليأخذوه معهم.
الشارع العام في مدينة الباب
يؤيد أبو عبدو هذه القرارات – رغم أثرها السلبي الكبير على حياته – إحساسًا منه بأهميتها ليس لحمايته فقط، بل لحماية أهالي المدينة عمومًا، وهو ما يتعارض مع موقف عدد من قاطني المدينة الذين لا يأخذون الوباء على محمل الجد كما يتضح، ففي الوقت الذي يمنع فيه أبو عبدو أبناءه الصغار من الخروج إلى الشارع للعب بعد قرار إغلاق المدارس، تجد كثيرًا من الأطفال ينتشرون في المدينة هنا وهناك، يلعبون كرة القدم أو أيًا من الألعاب التي يمكن لهم ممارستها في الشارع، مع إغلاق حدائق الألعاب القليلة أمامهم.
مدرسة طارق بن زياد في مدينة الباب
يجري بلال ذو الأعوام العشر بالكرة محاولًا إحراز هدف الفوز لفريقه المكون من أطفال الحارة التي يقطنها مع أهله، بعد قدومهم إلى الشمال مهجرين من مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية في أبريل/نيسان عام 2018، فرحًا بالعطلة المفاجئة التي فرضتها إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، التي سمحت له ولأقرانه باللهو ساعات دون عبء “كتابة الوظائف” التي اعتاد قضاء يومه في إنجازها.
يخبرنا بلال أن عددًا من المنظمات مرت إلى مدرستهم – قبل إغلاقها – توزع بعض المنشورات التوعوية بشأن فيروس كورونا وتعلمهم طرق الوقاية الصحية منه وعلى رأسها التزام المنزل، لكن هذه التحذيرات لا يبدو أنها تلقى آذانًا صاغية عند أهله الذين يلتزمون بتعقيم أيديهم “أحيانًا” بحسب بلال، لكنهم لا يفرضون عليه البقاء في المنزل، شأنهم في ذلك شأن غالبية أهالي الحارة، التي يتجمع أطفالها منذ إغلاق المدارس بشكل يومي للعب كرة القدم!
لعبة كرة القدم للأطفال في أحد آزقة مدينة الباب
يدرك بلال جيدًا أن عليه البقاء في المنزل، لكنه يمل كثيرًا من البقاء طوال اليوم دون فعل أي شيء حسب قوله، خاصة مع تعطل الكهرباء كثيرًا الذي لا يسمح له بمتابعة التلفاز، مع غياب أي نوع من أنواع التعليم عن بعد المنتشر في عدد من الدول حول العالم، لذلك يخرج من المنزل بحثًا عن التسلية، لكن هذا ليس حال كل من يغادرون منازلهم في مدينة الباب اليوم، فما زالت الأسواق رغم حملات التوعية المستمرة تشهد حركة طبيعية، دون أي تغيير يذكر!
أسواق مدينة الباب
لم يصدر عن المجلس المحلي في مدينة الباب أي قرارات تغلق الأسواق بأوجه الناس، واقتصرت القوانين على بعض الإجراءات الوقائية، وذلك بعد محاولة للشرطة المحلية في المدينة إغلاق المحلات و”البسطات” بالقوة، وانتهت بمشكلة كبيرة بين فصيل محلي تابع للجيش الوطني والشرطة الحرة، إثر مشادة كلامية بين الشرطة وصاحب أحد “البسطات” نهاية شهر مارس/آذار المنصرم، حيث لم تصدر قرارات جديدة بعد ذلك، لتستمر الأسواق بالعمل بصورة طبيعية، مع انتشار بعض مظاهر الإجراءات الوقائية بين البائعين ومرتادي السوق، كلبس الكمامات والكفوف، وإنْ لم يطبقها الجميع.
أحد الباعة المتجولين في مدينة الباب
ورغم عدم إغلاق الأسواق واستمرار الناس بارتيادها، فإنها تشهد حالة جمود كبيرة بحسب أبو جمعة، أحد أبناء مدينة الباب وصاحب محل لتجارة الأحذية والحقائب النسائية، حيث يعزو أبو جمعة حالة الجمود هذه إلى حالة الخوف العامة بين الأهالي والتجار على حد سواء، فإغلاق معابر المنطقة التجارية حولها إلى سجن كبير بحسب قوله، فلم يقتصر إغلاقها على تلك مع الدولة التركية أو مع مناطق سيطرة قوات قسد ونظام آل الأسد، بل حتى المعبر الذي يربطها مع منطقة إدلب التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام وتديرها حكومة الإنقاذ تم إغلاقه، وهو ما يحول دون ورود بضائع جديدة إلى المنطقة، ليجد تجارها خياراتهم في بضائع جديدة مقتصرًا على البضائع التي دخلت قبل إغلاق المعابر، لكنْ حتى هذا الخيار ليس مشجعًا بالنسبة لأبو جمعة الذي يخشى في حال شرائه بضائع جديدة، أنْ تصدر قرارات بإغلاق الأسواق التجارية، فتكون خسارته كبيرة.
أحد المحال التجارية في مدينة الباب
إلا أن وضع أبو جمعة يبدو ممتازًا إذا قارنته بحال أبو أحمد، أحد قاطني المدينة المهجرين من مدينة البوكمال في أقصى شرق سوريا، حيث يفترش أبو أحمد منذ ساعات الصباح الأولى الرصيف قرب دوار السنتر في المدينة، بانتظار صاحب بيت يريد بناء جدار أو عملية هدم يبحث صاحبها عن عمال، فهذه النقطة هي التي يتجمع فيها عمال اليومية في المدينة -أغلبهم من المهجرين إليها – الذين لم تبق لهم السنين السابقة رأس مال يستطيعون به افتتاح مشروع تجاري ما.
تجمع عمال اليومية في مدينة الباب قرب دوار السنتر
يجد أبو أحمد، وهو أستاذ مدرسة أساسًا لم يتمكن من الحصول على وظيفة منذ قدومه إلى المدينة قبل عامين ونصف، أن الإجراءات المتبعة في الباب تفتقد إلى الحزم، حيث ما زالت الحركة والتجمعات طبيعية فيها، بما يخالف ما تفعله كل دول العالم اليوم، رغم الضرر الذي يمكن أن تسببه إجراءات كهذه لعامل يومية مثله، حيث يجد أن مسؤولية “الحكومة المؤقتة” توفير إعانات مالية أو إغاثية لكل شرائح المجتمع، وخاصة عمال اليومية الذين لا يمتلكون مدخرات تعينهم في هذه الأيام الصعبة.
حيث يبدو أن حالة الترقب التي يعيشها الناس اليوم ألقت بظلالها ثقيلةً على حركة البناء في المدينة، التي يعتمد عليها أبو أحمد وأقرانه لتوفير قوت يومهم، خاصة مع غياب أي حملاتٍ إغاثية تستهدف العمال في المدينة بحسبه، الذي لا يجد سبيلًا لإطعام عائلته إلا النزول اليومي والاحتكاك بالناس، حيث يخشى أن يؤذيهم من حيث أراد مساعدتهم!
أبو أحمد يجلس في نقطة تجمع عمال اليومية منتظراً عملاً
لم تسجل حتى الآن أي حالة كورونا في منطقة ريفي حلب الشمالي والشرقي، بحسب الدكتور مرام الشيخ وزير الصحة في الحكومة السورية المؤقتة، الذي صرح الخميس الماضي أن عدد الحالات المختبرة في المنطقة منذ بدء تطبيق الإجراءات وصل إلى 92 حالة، كانت جميعها سلبية.