ترجمة وتحرير: نون بوست
في 24 آذار/ مارس 1947، كانت طائرة النقل العسكري من طراز سي 47 تتجه من جدة إلى أديس أبابا عبر أسمرة، عندما تحطمت فوق الجبال شمال العاصمة الأثيوبية لتؤدي لوفاة ستة أمريكيين كانوا على متنها، من بينهم الملحق الأمريكي لشؤون النفط، والملحق الثقافي في بيروت دانيال دينيت.
وبعد سبعين عاما لا تزال ابنته شارلوت دينيت تحاول كشف خيوط هذه الحادثة، وقد ألفت كتابا حول صراعها الطويل من أجل فهم لعبة النفط الكبرى التي قد تكون وراء مقتل والدها.
كان دانيال دينيت متحدثا بارعا باللغة العربية ودارسا للإسلام، وكان في نفس الوقت أبرز جاسوس أمريكي في الشرق الأوسط، يعمل مع مجموعة الاستخبارات المركزية، التي أعقبها تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية. وقد جاء دينيت إلى المنطقة لملاحظة منشآت النفط الأمريكية في السعودية، والمساعدة على تحديد المسار الذي سيسلكه خط الأنابيب العابر لشبه الجزيرة العربية، والذي يفترض أن يصل إلى لبنان. وكان الهدف الأساسي لأمريكا في المنطقة، كما تذكر وثيقة رسمية تعود للعام 1944، هو السيطرة على النفط مهما كان الثمن.
وقد كانت طائرة دانيال دينيت تحمل على متنها معدات راديو وجهاز استقبال هوائي في غاية السرية، كانت ستمكن الولايات المتحدة من تنفيذ عمليات مراقبة واتصال عبر أثيوبيا والشرق الأدنى.
كانت هذه تمثل لحظة مفصلية في اللعبة الكبرى من أجل النفط، التي كانت تدور بين القوى العظمى، في وقت كانت فيه بريطانيا لا تزال تمثل القوة المهيمنة في شرق أفريقيا والشرق الأوسط، فيما كانت أمريكا تمثل قوة صاعدة متمركزة بشكل جيد في المملكة السعودية منذ اتفاق التنقيب على النفط مع الملك ابن سعود في 1933.
انقلاب خط الأنابيب
سعت الولايات المتحدة أيضا لطرد البريطانيين من أثيوبيا، وقد كان الامبراطور هايلي سيلاسي منفتحا على فكرة التخلص من البريطانيين المكروهين، وذلك بمساعدة أمريكية. وكان هذا المخطط يمثل تهديدا استراتيجيا كبيرا للمصالح الامبريالية والنفطية لبريطانيا في المنطقة. فقد كانت هذه الامبراطورية لا تزال في أوج قوتها رغم خسائر الحرب العالمية الثانية، ولم تكن لدى لندن أي نية للتنازل عن ممتلكاتها وسلطتها لواشنطن.
الامبراطور هايلي سيلاسي مع القائد العسكري دانيال أرثر ساندفورد على اليسار والعقيد وينغايت في قلعة دمباتشا بعد السيطرة عليها في 15 نيسان/ أبريل 1941.
وقبيل انطلاقها في تلك الرحلة المميتة، كان دانيال دينيت الذي يشار إليه بالرمز “كارات”، قد كتب إلى زوجته من السعودية يقول: “لأسباب سأخبرك بها لاحقا أنا متجه إلى أثيوبيا.” إلا أنه لم يعد أبدا من هذه الرحلة.
في تلك الأيام كانت أرامكو تسمى الشركة العربية الأمريكية للنفط. وكان مقترح خط الأنابيب العابر للمنطقة العربية يواجه بعض العراقيل، حيث أن سوريا التي كانت قد استقلت للتو مترددة جدا حيال السماح لهذا الخط بعبور أراضيها، في مسار سيصل إلى البحر الأبيض المتوسط، ليتم تحميل النفط في الناقلات البحرية.
ومثلما تتذكر شارلوت دينيت، فإن وكالة الاستخبارات المركزية نفذت أول انقلاب لها بعد الحربين العالميتين في سوريا في العام 1949، في حدث دخل طي النسيان بما أن قائمة الانقلابات التي تقف ورائها واشنطن طويلة جدا. حيث أن الرئيس شكري القوتلي تم تعويضه بقائد الشرطة الذي سرعان ما وافق على مشروع خط الأنابيب.
وقد تم بناء الأنابيب والانتهاء منها، إلا أن هذا المشروع كان مصيره مشؤوما، إذ أنه في السبعينات والثمانينات ذهب ضحية الحرب الأهلية اللبنانية، والمقاومة ضد إسرائيل والإمبريالية الأمريكية، بما أن خط الأنابيب كان يمر عبر مرتفعات الجولان المحتلة.
البحث في الأرشيف
مؤلفة الكتاب وهي تبلغ حاليا 73 عاما، كان عمرها ستة أسابيع فقط عندما توفي والدها. وأثناء عملها كمراسلة شابة لصحيفة دايلي ستار البريطانية في بيروت، أصيبت بإطلاق نار أثناء الأسابيع الأولى لاندلاع الحرب الأهلية في 1975، ثم غادرت لبنان عائدة إلى الولايات المتحدة.
كما أن ارتباط هذه العائلة بالشرق الأوسط يعود إلى فترة حياة جدتها، التي تم إرسالها لتدريس مادة الأحياء في المعهد المسيحي للفتيات في القسطنطينية في العام 1900، وذلك في إطار استراتيجية أمريكا للقوة الناعمة في الشرق الأدنى.
وفي تسعينات القرن الماضي شرعت شارلوت دينيت في الغوص في الأرشيف الوطني الأمريكي، لقراءة التقارير السرية التي تتعلق بوالدها، وعادت أيضا إلى لبنان لتلتقي بأشخاص تعاملوا مع وكالة الاستخبارات الأمريكية، لتأخذ منهم المعلومات. وكان السؤال الحارق الذي بحثت له عن إجابة هو ما إذا كانت خلاصة التقرير الرسمي حول تحطم الطائرة، والذي يرجع سبب الحادثة إلى سوء الأحوال الجوية، استنتاجا صحيحا أم أنه مجرد تمويه لإخفاء الحقيقة، نفذه الأشخاص الذين كانوا يعتبرون والدها ومعدات التجسس التي كان ينقلها تهديدا لمصالحهم الاستراتيجية.
وفي الحقيقة هنالك أسباب وجيهة لشكوك شارلوت، حيث أن ضابطا في الاستخبارات الأمريكية كان يعرف والدها دانيال قال لها في 1995: “لطالما اعتقدنا أن الأمر ليس مجرد حادث، ولكننا لم نتمكن من إثبات ذلك.”
كما أن ولع هذه الكاتبة بالأنابيب وخطوط نقل النفط قادها للبحث والتحليل وكانت تعتقد أن النفط والأنابيب التي تنقله هي المفتاح لفهم كل حروب وصراعات الشرق الأوسط. وهذا يتضمن ليس فقط العراق، بل أيضا أفغانستان وصراع إسرائيل وفلسطين، واليمن وتركيا وسوريا.
حروب العراق
قليلون من يشككون في أن النفط والأمن الطاقي لعبا دورا كبيرا في التخطيط للعديد من التدخلات الغربية، في منطقة الشرق الأوسط خلال القرن المنقضي.
ففي العام 1953 قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بتنفيذ انقلاب أسقط رئيس الوزراء محمد مصدق في إيران، بعد قراره بتأميم شركة النفط التي كانت تسيطر عليها بريطانيا.
وفي 1991 اندلعت حرب الخليج بعد غزو صدام حسين للكويت، والمخاوف من سيطرة العراق على حقول النفط الكويتية، التي كانت تمثل واحدة من الإمارات التي أسسها ونستون تشرشل لضمان وصول البريطانيين للنفط العربي. وقد كان حينها تصرف صدام حسين ينظر إليه على أنه تهديد كبير للمصالح الغربية.
وفي إطار سعيها للوصول للحقيقة حول مقتل والدها ودوره في تشكيل لعبة النفط الكبرى، تستخدم الكاتبة حجتها الرئيسية في تحليل أكبر الصراعات الإقليمية، والتي تعود كلها إلى نفس السبب، وهو السيطرة على إنتاج وتوزيع النفط.
تشرشل وبلفور
يقتفي الكتاب أثر تشكيل اللعبة الكبرى من أجل النفط وانطلاقها قبل الحرب العالمية الأولى، عندما أمر الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أسطوله بالانتقال من الاعتماد بشكل أساسي على الفحم الحجري إلى النفط. ولكن بريطانيا كان لديها الكثير من الفحم وكانت تفتقر للنفط. وبحلول العام 1917 أصبحت السيطرة على العراق لضمان حقوله النفطية هدفا أساسيا للحرب.
وتنقل الكاتبة تصريحا عن وزير الخارجية أرثر بلفور حول أهمية النفط لبريطانيا. وهذا الشخص هو نفسه الذي كانت تصريحاته في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 قد منحت اليهود وطنا فوق الأراضي الفلسطينية. وقد كان الطرف الصهيوني الذي يتعامل معه هو اللورد روثشيلد، الذي بدوره يعد واحدا من أكبر أباطرة النفط في أوروبا.
الأعلام الأمريكية والإسرائيلية في مستوطنة كيلع بروخيم في الجولان المحتلة.
وتربط الكاتبة بشكل صريح بين هذه الوثيقة سيئة السمعة والاستراتيجية البريطانية بشكل عام، حول ضمان مصادر النفط في الشرق الأوسط. وبعد مرور قرن من الزمن، فإن الدولة التي ساعدت بريطانيا على نشأتها، وهي إسرائيل، أصبحت منتجة للغاز من خلال استغلال حقول تقع قبالة شواطئ غزة، تم الاستيلاء عليها بشكل غير قانوني من الفلسطينيين.
وترجح الكاتبة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال خطة السلام لصالح إسرائيل التي عرضها، والتي تساند استيلاء إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، تعكس جهود مستشاره وصهره جاريد كوشنر لإحياء مشروع خط الأنابيب العابر للمنطقة العربية، الذي مني سابقا بالفشل.
أباطرة النفط والعملاء المزدوجون
بالنسبة للكاتبة، فإن المشتبه به الرئيسي في مقتل والدها هو العميل البريطاني السوفياتي المزدوج كيم فيلبي، الذي كان في أواخر أربعينات القرن الماضي رئيس وحدة مكافحة التجسس البريطانية في الشرق الأوسط، وكان ينشط من الرياض في وقت وفاة دانيال دينيت.
وشيئا فشيئا تبحث الكاتبة في تفاصيل حادث تحطم الطائرة في 1947، من خلال التدقيق في كل ارتباطات وحسابات الصراع على النفط في الشرق الأوسط. هذا الأمر قد يكون في بعض الأحيان مشتتا للانتباه، كما هو الحال مع حديثها عن والدها واكتشافاتها حوله التي دفعتها لإنجاز هذا العمل.
العميل المزدوج كيم فيلبي في لندن في 1951.
إلا أن تحليلها للعبة النفط الكبرى ودورها في مختلف الصراعات يبقى أمرا مثيرا للاهتمام، رغم أنها في بعض الأحيان تبدو وكأنها تغرق في الكثير من المعلومات والتفاصيل، منها ما يتعلق بأخبار وتقارير صحفية حديثة العهد، قد لا تساهم بالضرورة في توضيح الصورة والوصول للهدف.
وهنالك أطروحة مضادة أمام ما تقوله الكاتبة، مفادها أن الحروب والتدخلات في الشرق الأوسط لها العديد من الدوافع، واختزال كل تلك الأحداث في هدف واحد هو السيطرة على مصادر الطاقة، قد يؤدي إلى تبسيط مسألة هي في غاية التعقيد، ترتبط بالحسابات الجيوسياسية والسياسات الوطنية وإدارة الطاقة، وهي كلها عوامل تتظافر لبلورة قرار بالذهاب إلى الحرب أو التدخل في السياسة الداخلية لدولة ما.
إلا أن الهدف الأساسي للكاتبة هو الإشارة إلا أن حسابات الطاقة كانت دائما ترافق القضايا التي تصرح بها الدول الغربية لتبرير تدخلها في الشرق الأوسط، مثل حماية المدنيين والبحث عن أسلحة الدمار الشامل.
وتقول شارلوت في حديث عبر سكايب مع ميدل إيست آي: “أولئك الذين حاولوا فك شفرة التعقيدات في الشرق الأوسط سوف يصطدمون دائما بقضية النفط. يجب أن نكون حذرين، فهذا التفسير لا ينطبق على كل شيء، ولكنه يفسر الكثير.”
وتقول الكاتبة: “إن هذه الحقيقة تم إخفاؤها عن الرأي العام الأمريكي لعقود، وقد بذلت جهود متواصلة للتعتيم على هذا السبب، وقد نجح هذا الأمر في الولايات المتحدة.”
الحرب على الإرهاب والحرب من أجل النفط
ومن الأسئلة التي لا تزال مطروحة هنالك: إلى أي مدى تمثل الحرب الدائرة منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر مجرد حرب للحفاظ على الهيمنة الأمريكية على نفط وغاز الشرق الأوسط. وتنقل المؤلفة مقولة الصحفي والمراسل فرانك فيفيانو في صحيفة نيويورك تايمز بعد أسابيع من تلك الهجمات: “إن جوهر الصراع العالمي في العقود المقبلة لن يكون مجرد مواجهة بين الإسلام والغرب، بل هو الدفاع عن الموارد النفطية.”
كما أن الرئيس جورج بوش الإبن كانت له “حكومة نفطية” تضم نائبه ديك تشيني، الذي كان يشغل منصب مدير تنفيذي في شركة هاليبرتون التي تمتد مصالحها النفطية في الخليج والبلقان. كما أنه حاول التقرب من طالبان في 1998 أثناء زياراته لأفغانستان، وذلك في إطار لعبة كبرى جديدة من أجل نفط وغاز بحر قزوين، على اعتبار أن أفغانستان قد تكون طريقا محتملة لأنابيب النفط نحو آسيا. وتعرض شارلوت دينيت في كتابها خرائط مفيدة تبرز مسارات الأنابيب ومصادر النفط في المنطقة.
الرئيس الأمريكى جورج بوش على اليسار ونائب الرئيس ديك تشيني في فندق ماريوت وردمان في 19 كانون الثاني/ يناير 2001.
وقليلة هي الشكوك التي تحوم حول كون النفط مثل عاملا حاسما في حرب العراق في 2003. إذ أن بوش أراد الإطاحة بصدام حسين وإعادة فرض الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتأمين المصالح الطاقية، وفتح العراق للشركات الأمريكية والدولية بعد أن كانت تمثل سوقا مغلقة. وقد دفع المواطنون الأمريكيون والعراقيون كلفة الحرب التي بلغت واحد تريليون دولار، فيما استفادت الشركات من أرباح تقدر بمليارات الدولارات. وبعد غزو العراق تم فتح البلاد لشركات النفط الغربية، التي فازت بعقود في هذا البلد الذي كان في السابق يمثل جوهرة الامبراطورية النفطية الغربية. وشركة بريتش بتروليوم البريطانية التي غادرت العراق في السبعينات، تضخ الآن ملايين البراميل من مدينة البصرة، بينما يعيش الناس في تلك المنطقة في حالة غضب وتمرد مستمرين بسبب سوء الأوضاع وتفشي الفساد والبطالة والتلوث.
حرب اليمن
لعبت أرباح الشركات والتنافس على النفط والغاز والموارد دورا رئيسيا في السياسة الخارجية للقوى الغربية على مدى عقود. وفي فصل مثير من التسابق على الغاز في شرق المتوسط، تبحث الكاتبة في إمعان إسرائيل في محاصرة غزة والسيطرة على مياهها، والحرب في ليبيا، والعلاقات المتوترة بين تركيا وأوروبا وأمريكا، وهي كلها أطراف مرتبطة بالمعركة حول احتياطات الغاز الضخمة التي تقبع تحت المتوسط.
وهنالك حرب أخرى حول الطاقة غير معلنة، تدور رحاها في اليمن. حيث تظهر الكاتبة كيف أن حرب اليمن لها أسباب متعددة، ولكن بالنسبة للسعودية والإمارات، فإن السيطرة على طرق تصدير النفط، مثل مضيق باب المندب، وموانئ المهرة في جنوب اليمن، تمثل أهدافا أساسية لهذا التدخل. وهذا واحد من التفسيرات المهمة لتركيز السعودية قواتها في جنوب شرق اليمن، بعيد جدا عن مركز القتال في هذه الحرب المستمرة منذ خمس سنوات.
كما أن محافظة حضرموت توجد فيها حقول النفط اليمني، ومن المزمع إنشاء خط أنابيب سعودي فيها ليصل إلى موانئ جنوب اليمن.
الحرب السورية
ولكن هنالك أيضا ثغرات في هذه الرواية وهنالك روايات أخرى مضادة لها. إذ أن الكاتبة تبحث في السؤال حول ما إذا كان الصراع السوري ليس مجرد حرب ضد الدكتاتورية أو الأرهاب كما يتم تصويره، بل حربا على أنابيب النفط. وهي الفرضية التي قدمها قبل سنوات روبرت كينيدي جونيور، ابن السيناتور الذي قتله مسلح فلسطيني يدعى سرحان بشارة سرحان في 1968.
إذ يرى كينيدي أن قطر مولت المجموعات المسلحة لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، بسبب إجهاض اتفاق لإنشاء خط أنابيب في 2009، إلا أن هذا الرأي عارضه العديد من الكتاب مثل غاريث بورتر وبول كوشران.
وتجدر الإشارة إلى أن شارلوت دينيت تنقل حجج بورتر حول أن العائق الأساسي أمام مخططات قطر ربما كان السعودية وليس سوريا. إذ أن الصراع بين البلدين الخليجيين ظهر في أرض المعركة في سوريا في 2012.
وقد بدأت التحركات السرية المدعومة من الغرب ضد سوريا في عهد إدارة جورج بوش الإبن، أي قبل وقت طويل من العرض القطري المزعوم الذي قدمته إلى دمشق في 2009 لبناء خط أنابيب يمر عبر أراضيها ويصل إلى البحر الأبيض المتوسط.
عناصر جبهة النصرة يشاركون في استعراض في حلب يدعو إلى إقامة دولة إسلامية في سوريا.
ولكن ما لا يمكن إنكاره هو أن سوريا تقبع في مفترق طرق رئيسي في مسارات نقل النفط بين أوروبا وآسيا والخليج العربي، وتبقى دولة ذات بعد استراتيجي. كما تبحث الكاتبة في الادعاءات التي يتبناها بشكل كبير الأكراد والإيرانيين، حول كون تنظيم الدولة الإسلامية ليس إلا صنيعة غربية وتركية وخليجية لتدمير سوريا والإدارة الذاتية للأكراد في الشمال والشرق.
وبعد مرور حوالي 20 عاما على هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، عكس الرئيس ترامب قراره بسحب القوات من سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، معلنا أن الآلاف من الجنود سوف يبقون في سوريا لحماية حقول النفط في شمال شرق البلاد.
ومن المعروف أن ترامب شخص يمكن التعويل عليه للإعلان بشكل جريء عن الأسرار التي يخفيها بقية الرؤساء، وهي أساسا أن الحفاظ على مصادر النفط في الشرق الأوسط تحت سيطرة أمريكا وحلفائها يمثل دائما عاملا أساسيا في السياسة الخارجية، ويعتبر أكثر أهمية من أي اعتبارات أخرى قد تتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية.
رقابة وكالة الاستخبارات الأمريكية
مع تواصل بحثها في ملابسات وفاة والدها، تكشف شارلوت دينيت عن مختلف الأسرار والألغاز المحيطة بالقضية. إذ أن ثلاثة إرهابيين مرتبطين ببريطانيا ومساندين للاتحاد السوفياتي كانوا موجودين في أثيوبيا تزامنا مع وفاة والدها.
إلا أن التقارير التي تفيد بأن سبب الحادث هو الأحوال الجوية تم دحضه من قبل التقرير الميداني الأول الذي قدمه الضابط الأمريكي الكولونيل ماكناون، الذي أشار إلى أن لا أحد من الضحايا كان يربط حزام الأمان.
وفي خضم سعيها لتعقب الوثائق التي أرادت لها وكالة الاستخبارات الأمريكية أن تظل سرية، واجهت شارلوت ردود سلبية عديدة على طلباتها للاطلاع على السجلات، إلى أن اضطرت في النهاية لرفع دعوى قضائية ضد الوكالة في 2007. وهي دعوى حازت على اهتمام اعلامي كبير، وأثارت قلق الوكالة.
وبعد أن ساندت المحكمة حجج وكالة الاستخبارات بشأن حماية الأمن القومي في جلسة الاستماع الأولى، تم غلق ملف القضية في جلسة الاستماع الثانية في محكمة في نيويورك.
ولكن في النهاية بعد عقود من الجهود المضنية، قررت الوكالة الاستماع لها ولعائلتها، والاعتراف بأهمية الأعمال التي قام بها والدها في الشرق الأوسط، وذلك من خلال تخليد اسمه في جدار الطابق السادس من المقر الرئيسي للوكالة في فرجينيا.
وفي الفصل الأخير من الكتاب نقرأ حول حدث تذكاري في أيار/ مايو 2019 لتكريم والدها، وهي مبادرة جاءت متأخرة سبعين عاما، ولكن على الأقل تم في النهاية الإقرار بالخدمات التي قدمها لبلاده، وهو ما مثل انتصارا لشارلوت دينيت وإخوتها. وحتى مديرة وكالة الاستخبارات جينا هاسبيل ظهرت بشكل مفاجئ في الحفل وقالت للكاتبة: “واصلي هذا العمل”، وهي إشارة لم تفهمها شارلوت بشكل جيد.”
في العام 1942، كان دانيال دينيت قد قال في خطاب تحذيري: “ادع الله أنه إذا اضطررتم للتدخل في أي مكان آخر، فإن الولايات المتحدة لن تبقى بعيدة عن عار التدخل في الشرق الأدنى.” إلا أن هذه الكلمات لم تجد من يستمع إليها.
المصدر: ميدل أيست آي