بعد كورونا.. هل ستحول أمريكا تركيزها من الإمبريالية إلى نظام الرعاية الصحية؟

190930-D-SW162-2211_0

ترجمة وتحرير: نون بوست

تكمن عظمة التراجيديا اليونانية الكلاسيكية في قدرتها على التأثير في مشاعر المتفرج أو القارئ من خلال اعتماد تقنية “التطهير”، أي التنقية أو تطهير العواطف، وهي استعارة اعتمدها أرسطو لأول مرة في النظرية الشعرية لوصف آثار المأساة الحقيقية على العقل. وفي الواقع، لا يعرف المرء ما إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد اطّلع على التراجيديا اليونانية أم لا.

يمكن اعتبار مسرحية “أوديب في كولونوس”، الدراما التي كتبها سوفوكليس في أواخر حياته في 406 قبل الميلاد، مرجعا جيدًا لارتباطها الوثيق بالحياة المعاصرة. وهي مسرحية تروي قصة أوديب الشاقة، ملك طيبة، الذي أعمى نفسه وذهب إلى المنفى في يأس بسبب هويته المشوهة بعد أن اكتشف أنه قتل والده عن غير قصد، الملك السابق لايوس، وتزوج من والدته جوكاستا، أرملة لايوس.

لا توجد علامات تشير إلى أن المأساة التي لحقت بالولايات المتحدة قد خلّفت أي تأثير ذو طابع تطهيري على النخب السياسية في البلاد. هذا بالتأكيد لا يمثل “نهاية التاريخ” بالنسبة للاستراتيجيين الأمريكيين. وعلى النقيض من ذلك، في مقال نشر في صحيفة “وول ستريت جورنال” يوم الجمعة الماضي بعنوان “جائحة فيروس كورونا ستغير النظام العالمي إلى الأبد”، ذكّر هنري كيسنجر بالاستثناء الأمريكي، ورأى أن فيروس كورونا بمثابة تهديد للنظام العالمي، وحثّ ترامب على حماية هذا النظام، مهما كان الثمن، وإطلاق مشروع مارشال لتوحيد وحشد الحلفاء من أجل “حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي” إذا لزم الأمر.

لا يزال كيسنجر متمسكا ببقايا نظام فاشل في البلاد ويرفض التخلي عن عدم استقرار شمال أفريقيا، عبر الشرق الأوسط ووسط آسيا، الناجم عن الاستراتيجيات الأمريكية المعتمدة تحت عنوان “الاستثناء”. بالتأكيد، لا يعي كيسنجر سمة التطهير. لكن ما يحدث في الولايات المتحدة هو “سيناريو دولة من العالم الثالث”، كما أفاد أحدهم، ولا يمكن لكيسنجر أن لا يدرك ذلك. في الأسبوع الماضي، اعترف ترامب نفسه بأنه لاحظ ذلك: “لقد رأيت أشياء لم أرها من قبل. أعني أنني رأيتها، لكنني رأيتها على شاشة التلفاز وفي الأراضي البعيدة، ولكن ليس في وطني على الإطلاق”.

يُعزى السبب الجذري لهذه المأساة إلى الهيمنة الأمريكية التي كانت ترسخ تحت ذريعة “الاستثناء”، والتي ركزت على استنزاف موارد المستعمرات على نطاق واسع ونقل الثروة مما كان يطلق عليه العالم الثالث إلى وول ستريت، على الرغم من أن زمن الاستعمار قد ولّى. وهكذا، تطلبت الهيمنة الأمريكية ميزانية دفاعية أضخم من ميزانية الدول السبع الكبرى معا.

تتجسد الهيمنة العسكرية الأمريكية في 800 قاعدة منتشرة في أكثر من 70 دولة، وهو ما يفوق بكثير ما توفر لأي إمبراطورية في التاريخ. وقد تم تنظيم هذا الجهاز العسكري والأمني ​​المنتشر في جميع أنحاء العالم في قيادات إقليمية تشبه تلك التي كانت موجودة في “الإمبراطورية الرومانية أو الحكام العامين البريطانيين” – وهو جهاز بني لترسيخ الهيمنة.

من ناحية أخرى، ينتمي هذا الجهاز إلى عالمِِ موازٍ تمامًا للعالم الذي يعيشه معظم الأمريكيين في حياتهم اليومية. وكان من المفترض أن يؤدي الانهيار الكامل لنظام الرعاية الصحية الأمريكي إلى إثارة نقاشات في الولايات المتحدة حول أولويات الإنفاق الأمريكي؛ لكنها لم تفعل. لقد أضرّت الرأسمالية غير المقيدة بقطاع الرعاية الصحية الأمريكي. فبوجود مستشفيات وشركات أدوية موجهة نحو الربح، باتت صناعة الرعاية الصحية موجهة كثيرًا نحو تحقيق الأرباح. ونتيجة لذلك، أدى فائض القدرة الإنتاجية إلى تآكل الأرباح، وغياب القدرة على التدخل السريع. 

الاستثناء الأمريكي يتواصل في العراق، أملا في إرساء نظام مرن في بغداد لن يؤدي إلى المطالبة بانسحاب القوات الأمريكية

مع ذلك، كما يوضح مقال كيسنجر، لا يوجد أي شيء من هذا القبيل في ضمائر النخب التي ترفض عقد صلة بين القوة الأمريكية والسياسة الداخلية. إنهم لا يزالون في وضع الإنكار أمام المواجهة العنيفة لفيروس “كوفيد-19” مع الاستثناء الأمريكي – علما بأن التكهنات تشير إلى أن معدل البطالة في الولايات المتحدة قد يصل إلى 32 بالمئة، كما كان متوقعًا، وأن ملايين الأشخاص لن يفقدوا وظائفهم فحسب وإنما التأمين الصحي أيضا.

من المفارقة أن اجتياح “كوفيد-19” للولايات المتحدة لا يضاهي الهولوكوست الذي أشعله الاستثناء الأمريكي في بلاد ما بين النهرين. وتظهر دراسات مستقلة أجراها أمريكيون أن عدد الوفيات يقدر بـ 2.4 مليون في العراق منذ غزو 2003. وهي مأساة مضاعفة إذا ما تذكرنا أن كل شخص قُتل كان عزيزا على أحبائه – أمهات، آباء، أزواج، زوجات، أبناء، بنات.

لكن الأسوأ من ذلك أنه لا توجد علامة على تأثير التطهير هنا أيضًا. حتى في خضم الجائحة التي ضربت الولايات المتحدة، فإن الاستثناء الأمريكي يتواصل في العراق، أملا في إرساء نظام مرن في بغداد لن يؤدي إلى المطالبة بانسحاب القوات الأمريكية.

في المشهد الأخير لدراما سوفوكليس الملحمية، يظهر أوديب على خشبة المسرح ليظهر كيف فقع عينيه مستعملا دبابيس جوكاستا. لقد شرح في عذاب أنه فقع عينيه حتى لا ينظر بهما مرة أخرى إلى الأحباء الذين دنّسهم، وخاصة ابنتيه إيسمان وأنتيجون اللتين أنجبهما من والدته.

إن الشفقة والرعب اللذين أثارهما سقوط أوديب المأساوي يتميز بتأثير التطهير. هل سيكون لـ كوفيد-19 تأثير مشابه على الدبابات الإمبريالية الأمريكية؟ طبعا سيكون. في مقاله الشهير الذي نشر في سنة 1955 حول الاستعمار، أشار الشاعر الفرنسي والسياسي من أصول أفرو-كاريبية، إيمي سيزير، إلى أن مبررات الاستعمار القائمة على العنصرية وكره الأجانب – المدفوعة بالرغبات الرأسمالية – تؤدي في النهاية إلى التدهور الأخلاقي والثقافي للأمة المستعمِرة. إن الإمبريالية تضر بالحضارات الجناة الذين شاركوا خاصة على الصعيد الداخلي. وللدمار الذي يلحقه “كوفيد-19” بنيويورك دلالة رمزية عميقة.

المصدر: غلوبال فيلاج