تتزايد أرقام مرضى الاكتئاب في العالم بشكل مخيف، تتوقع التقارير زيادة أكبر في حجم سوق مضادات الاكتئاب بالسوق الإقليمية لكل منطقة بالعالم، لا سيما أن عدد المرضى يتراوح بين 2 و6% من تعداد البشر، يحمل الشرق الأوسط النصيب الأكبر في العالم، والغريب أن أكثر نسب الإصابة، يتحملها الشباب الذي عرف كل ألوان الويلات خلال العقود الماضية والأخيرة منها على وجه الخصوص!
الاكتئاب.. ما هو؟
بحسب بحث للدكتور سارة عبد الله، يعتبر الاكتئاب حالة ذهنية معقدة، تجعل الشخص يشعر بمزاج منخفض، وقد يجعله يشعر بالحزن أو اليأس باستمرار، ويمكن أن تكون أعراضه مؤقته استجابة للحزن أو الصدمة، ولكن إذا استمرت لفترة أطول من أسبوعين، يمكن أن تكون إشارة لوجود اضطراب خطير، يشتبك مع مرض آخر مثل اضطراب الإجهاد ثنائي القطب، أو ما بعد الصدمة.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، الصحة النفسية ليست مجرد غياب للاضطرابات النفسية، بل حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة والتكيف مع حالات التوتر العادية، والعمل بشكل منتج ومفيد والإسهام في المجتمع المحلي، بشكل منتج ومثمر، كما يمكن الإشارة إلى الصحة النفسية، فيما يتعلق بالحالة العاطفية والنفسية للفرد وقدرته على التأقلم وكفاءته في التعامل مع المواقف المختلفة بحياته.
تقول جمعية علم النفس الأمريكية (APA)، إن الاكتئاب هو أكثر اضطرابات المزاج شيوعًا، وتبدو الأرقام الخاصة به مفزعة، بالنظر إلى تقارير منظمة الصحة العالمية التي قدرت عدد المصابين بالاكتئاب المرضي بنحو 300 مليون نسمة من سكان العالم عام 2018، اعتمد العديد منهم على تناول تلك العقاقير لأغراض طبية، وهو ما يساعد على نمو سوق مضادات الاكتئاب بشكل كبير.
نشرت مؤسسة “أبحاث السوق TMR” قبل عامين حصيلة سوق أدوية الاكتئاب العالمي، وأكدت أنه بلغ نحو 6.5 مليار دولار لعام 2017، بزيادة ملحوظة عن أعوام 2014 و2015، التي استقرت عند 4.6 مليار دولار، وتوقعت المؤسسة ارتفاع معدل حدوث اضطرابات الاكتئاب الكبرى التي ستؤدي حتمًا إلى نمو سوق الأدوية، خلال الفترة من 2018 لـ2023، بنحو 1.8%، قياسًا على تحقيق شركات الأدوية العالمية من بيعها لأدوية الاكتئاب، وخاصة المحمية ببراءة الاختراع التي تملكها أرباحًا تقدر بـ3 مليارات دولار سنويًا.
أعراض الاكتئاب
يضاعف الاكتئاب مشاعر الحزن وفقدان الاهتمام، ومن أعراضه الشعور بالقلق وانخفاض القيمة والحزن، ويستمر هكذا إذا لم يتلق المريض العناية المناسبة، حتى يتحول بعد فترة إلى اكتئاب سريري، ولهذا بحث المتخصصون أسبابه، بداية من الأبعاد البيولوجية بما في ذلك علم الوراثة والتركيب البيولوجي للفرد والنظام الهرموني والغدد الصماء.
يواجه العالم العربي الكثير من مشكلات التقاليد التي توطن الاكتئاب فيه بنسب أكبر
يقول الدكتور جواد مبروكي المحلل النفسي المغربي، إن العديد من الدراسات تؤكد فرضية وراثة الاكتئاب في العائلات، حيث يميل بعض الأفراد بيولوجيًا إلى الاكتئاب، وتلعب في ذلك الناقلات العصبية المختلفة دورًا كبيرًا، بما يساهم في اختلال الهرمونات، ولهذا تشدد هذه الدراسات على أهمية الخضوع للعلاج وتناول الأدوية المضادة للاكتئاب بشكل منتظم، حتى تندثر هذه الاختلالات البيولوجية والفيزيولوجية، ويستعيد المرضى حالتهم الطبيعية.
الاكتئاب في الشرق الأوسط.. ضغوط داخلية وخارجية
تكشف تقارير منظمة الصحة العالمية، أن الشرق الأوسط يضم أعلى معدلات مرض الاكتئاب النفسي في العالم، ويحدث ذلك في وقت ينعدم فيه تقريبًا الوعي بالصحة النفسية، بل ازداد الطين بلة، بالوصم الجماعي لصاحب المرض، والإشارة إليه بما يحمل على إرهابه ويسارع به إلى التدمير كلية، وقبل سنوات أظهرت دراسة أن 7% من إجمالي سكان منطقة الشرق الأوسط بما فيها المملكة العربية السعودية يعانون من مرض الاكتئاب.
أكدت الدراسة التي شملت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر ولبنان وسوريا، أن هذه الدول مجتمعة تخسر أكثر من مليون سنة من سنوات العمر بسبب الاكتئاب بغض النظر عن الفئة العمرية، وقد يكون منطقيًا احتلال مصر صدارة القائمة بأكثر من 622 ألف سنة، ولكن ما يدعو للتأمل، وجود السعودية في المركز الثاني خلف مصر، بأكثر من 201 ألف سنة، ثم سوريا في المرتبة الثالثة بأكثر من 156 ألف سنة، وبعدهم الإمارات بالمرتبة الرابعة بأكثر من 39 ألف سنة، وأخيرًا لبنان بأكثر من 37 ألف سنة بغض النظر عن الفئة العمرية.
يمكن القول إن خصائص الشخصية في الشرق الأوسط أيضًا، تساعد على افتراسها بهذا المرض، بداية من التربية بأنماط عنيفة، ما يؤدي في النهاية إلى ميل الشخصية للخجل المفرط والتقدير المنخفض للذات وفقدات الثقة بالنفس، فضلًا عن الانحياز دائمًا للتعامل بمثاليات مفرطة في نقد النفس، تعززها ضعف القدرات المعرفية وأنماط التفكير الخاطئة التي تنتهي أيضًا بالاكتئاب.
تبقى الضغوط الاقتصادية واحدة من العوامل الأساسية التي تؤدي إلى الاكتئاب
كما يواجه العالم العربي الكثير من مشكلات التقاليد التي توطن الاكتئاب فيه بنسب أكبر مقارنة بباقي دول العالم، بداية من الإسراف القبلي في التعامل مع الواقع والتوسع في المحرمات بكل أنواعها، ولهذا يتردد المواطن العربي في كشف مشكلاته النفسية، بما يضعف من احتمالية مساعدته طبيًا ونفسيًا، وهذه البيئة التي تؤدي إلى تراكم المشكلات، تؤدي في النهاية إلى اكتئاب سريري قد ينتهي بالانتحار في معظم الحالات.
إلى جانب ذلك تبقى الضغوط الاقتصادية واحدة من العوامل الأساسية التي تؤدي إلى الاكتئاب، بسبب عبء العمل المفرط وبيئة العمل المتشائمة التي تؤثر على أنماط التفكير، بما يساهم في تطور الأمر إلى اكتئاب مزمن مع مرور الوقت، وبخلاف ذلك توجد الظروف السياسية وتزايد الصراعات غير المسبوقة في التاريخ الحديث بالشرق الأوسط، التي خلفت صراعات وحروب عسكرية مدمرة، من حيث عدد النازحين والمفقودين، ومن نجا وعرف طريقه للهروب، ظهرت عليه أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، بعدما أصبح دون مأوى، خاصة أن منهم من فقد فردًا أو أكثر من العائلة أو الأصدقاء، ومنهم من تعرض لإصابة جسدية قاسية.
المفارقة هنا، أن العلاج والدعم لا يتوفران في الغالب بالمنطقة، وربما هذا يبرر نتائج مسح أجرته شركة اتصالات “أصداء بي سي دبليو” التي تتخذ من دبي مقرًا لها، على الشباب العربي عام 2019، وخرجت بنتائج تؤكد أن المرض النفسي أصبح يشكل مصدر قلق واسع النطاق بين الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكشف المسح أن أكثر من نصف الذين استطلعوهم يعتقدون أن المرض النفسي لا يزال وصمة عار في المجتمعات العربية، بينما وافق أقل من نصف المستطلعين، على طلب مساعدة مهنية إذا استشعروا بأي معاناة من اضطراب نفسي.
توضح هذه المؤشرات الخطرة، التقصير الشديد لكل المؤسسات المعنية في المنطقة، بمعالجة أسباب الظاهرة، بداية من ضعف برامج الصحة النفسية الممولة من الحكومات، وكذلك ضعف أو ربما ندرة فعاليات التوعية المجتمعية التي تتبناها وسائل الإعلام لزيادة الوعي العام وكشف خطورة مثل هذه الأمراض وطرق الوقاية والتعافى منها، لا سيما أن الطب النفسي أحد أكثر التخصصات الطبية التي تعتمد بشكل كبير على تعزيز الثقافة ورفع الوعي كجزء مهم من برامج العلاج والوقاية .
أسلوب العلاج.. المظاهر والأسباب أولًا
يمكن القول إن امتلاك البيانات يسهل التعرف على مريض الاكتئاب وعلاجه، ولكن تكمن المشكلة بالبلدان العربية بافتقارها إلى ثقافة البيانات بشكل أساسي، حيث يتم تجاهل القضايا من هذا النوع في الغالب، لا سيما أن مضادات الاكتئاب ليست من أنواع الأدوية التي يتم تناولها لفترة قصيرة وينتهى الأمر، إنما يتطلب الأمر من المرضى، الالتزام باستهلاك هذه العقاقير لفترات طويلة، لمقاومة أعراض الاكتئاب والقلق.
يقول المتخصصون إن عوامل الأزمة هي نفسها أسباب العلاج، وبالتالي فالترابط الأسري القوي الذي يحافظ عليه أبناء بلدان الشرق الأوسط، بجانب رمزية الدين في حياتهم، تعتبر سمات جيدة للغاية، لبناء دور إيجابي إذا تم تحويل هذه العوامل من مسببات ضغط اجتماعي لدى البعض إلى جدران صلبة تحمي الشخص من الأذى.
كما يجب الاستثمار في زيادة الوعي بالمشكلات، كجزء من برامج الرعاية الصحية الشاملة، والتخلص من الأزمة المزمنة في الواقع العربي، التي لا تجعل الوعي يترجم إلى عمل، فالعربي غالبًا يعرف ويدرس ريادة الأعمال ويترجمها إلى ثروات في خياله، ولكنه يفتقد القدرة على تطبيقها، كما يملك الكثير من الوعي ويطلع على طرائق شتى لمحاربة السمنة بما يجعله قادرًا على القضاء عليها، ولكن الغالبية لا يستطيعون اتخاذ خطوة واحدة على طريق الحل.
مشكلة الوعي وتطبيقاته على أرض الواقع، أكثر ما يجعل مسببات الاكتئاب باقية، حتى لو تعالج المريض منه، فهناك دائمًا فرصة كبيرة للإصابة بانتكاسات من جديد، وبداية الحل إيجاد طريق سهل بين الوعي والتطبيق ومعرفة طرق التعايش، وتعلم كيفيات التأقلم مع الضغط النفسي من خلال التدريب المستمر على هذا وذاك.