مالذي يمكنك توقع رؤيته حينما تشاهد فيلم رسوم متحركة “للكبار فقط”؟
الكثير، ولكن ما وجدته أنا، بعدما شاهدت الفيلم الفرنسي I Lost My Body مؤخرًا، فاق التوقعات المعتادة لمثل هذه النوعية من الأفلام، فالفيلم موجه للكبار، لا لمجرد أنه يحتوي على مشهدين لا يناسبان الأطفال، أحدهما مشهد حميمي قصير والآخر مشهد صادم، وإنما لأن محتوى الفيلم نفسه حزين أكثر من اللازم وقصته معبرة أكثر عن طبيعة الحياة، بما تحويه عادةً من تجارب سيئة وصدمات وهزائم متكررة. أما عن الصورة التي تراها أمامك في الفيلم، حية بالرسومات وزاهية بالألوان، فلا تجعلها تخدعك، فما هي إلا وجه مخادع آخر للواقع القاسي الذي نحياه.
سنقترب في هذا المقال من تفاصيل دقيقة خاصة بالفيلم الذي بدأ عرضه على شبكة نتفليكس في مارس الماضي، وبدا غامضًا للكثيرين ممن شاهدوه، وخاصةً في جزئية النهاية، وهو بالتالي، ما سيتضمن حرقًا للأحداث، فوجب التنويه لذلك.
عن الفيلم
فيلم I lost My body، أو J’ai perdu mon corps، كما هو عنوانه الأصلي بالفرنسية، مقتبس عن رواية بعنوان اليد السعيدة لجيلوم لوران الذي شارك في كتابة الفيلم مع مخرجه جيرمي كلابين، وجيلوم هو نفسه الذي شارك في كتابة الفيلم الفرنسي الشهير أميلي عام 2001 وترشح للفوز عنه بالأوسكار، عن فئة أفضل نص أصلي.
الفيلم يعتبر أول فيلم أنيمشن يفوز بجائزة نسبريسو الكبرى بمهرجان كان لعام 2020، هذا غير ترشحه لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم رسوم متحركة لهذا العام أيضًا.
يسير الفيلم في خطين متوازيين، سيتقابلا في نهاية الفيلم كالعادة، الخط الأول الخاص بنوفل، الشاب الذي يعمل بتوصيل البيتزا، وهو الشاب الخجول، المرتبك دومًا، الذي يملك في نفس الوقت روحًا حالمة وقلبًا بريئًا، وخط آخر شديد الغرابة، وهو الخاص بيدٍ مقطوعة يبدو أن لها روحًا خاصة بها، تحركها، وتجعلها تجري في شوارع المدينة، قاصدةً وجهة معينة.
نوفل الحالم البائس
في حكاية نوفل.. نعرف من العديد من مشاهد تداعي الذاكرة أو الفلاش باك، التي تجعلنا نرى صورًا من الماضي، أن نوفل كان يحظى بطفولة سعيدة حقًا وبأبوين رائعين، حتى فقدهما في حادث، بينما نجا هو، وهي التجربة الأشد تأثيرًا عليه حتى الآن، وأطاحت بالكثير من أحلامه بعيدًا.
بعدها نتعرف على جابرييل، الفتاة المرحة التي تبادل معها نوفل حديثًا خاصًا عبر جهاز الهاتف الداخلي لإحدى البنايات، وكانت توبخه في البداية على تأخره في توصيل البيتزا الخاصة بها، ولكن انقلب الحديث بينهما إلى حوار عذب طال لفترة ليست بالقصيرة، على صوت سقوط الأمطار خارج البناية.
ودون أن يرى وجهها، يتعلق نوفل بجابرييل ويذهب للقائها في المكتبة محل عملها، دون أن يخبرها بأنه عامل توصيل البيتزا، ويتبعها وصولًا إلى بيت أبيها الذي يملك ورشة نجارة، ويتمكن نوفل بصعوبة من العمل كمساعد لوالدها في الورشة القديمة كي يقترب منها أكثر.
وبعد فترة، ظن فيها نوفل أن بينهما انسجامًا من نوع خاص، صارح جابرييل بأنه هو نفسه فتى البيتزا، ولكن ردة فعلها لم تكن مثلما تمنى، فقد وبخته بشكلٍ قاسٍ، لظنها إياه مترصدًا بها.
Boards
تنتاب نوفل حالة نادرة من الغضب، يذهب بعدها إلى الورشة للعمل ويطارده حلم طفولي قديم بالإمساك بذبابة، ربما للتعويض عن شعوره بالفشل في قصته مع جابرييل، وحينما كاد يفعل، سقطت يده فجأة تحت جهاز قطع الأخشاب العملاق، وسقط على الأرض غارقًا في الدماء، بجوار يده المبتورة.
هذه حكاية نوفل، السيئ الحظ، البائس، الذي فقد أبويه طفلًا، وفقد حبيبته قبل أن تصير حبيبته حتى، وفقد يده من أجل مطاردة ذبابة، كان الإمساك بها يمثل له انتصارًا صغيرًا لم يحظ به للأسف.
اليد الوحيدة في العالم الواسع المخيف
في خط الأحداث الآخر، نرى مشاهد اليد الوحيدة التي هربت من معمل التشريح فيما يبدو، وبدأت بالجري في شوارع المدينة، نزولًا إلى مترو الأنفاق، هاربة من خطوات المارة الطائشة وأسنان الفئران المتعطشة للدماء ومنقار الحمامة الذي يحاول حماية بيوضه، هذا بخلاف الكلب المذعور الذي ثار حينما رأى هذه اليد التي تتحرك بحرية بلا صاحب.
هذه المشاهد السابقة، كانت من أكثر مشاهد الفيلم حزنًا بالنسبة لي، فبدت لي هذه اليد وحيدة، وحيدة تمامًا وخائفة، لا يوجد من هو أكثر وحدة من يدٍ مبتورة تجري في شوارع المدينة.
ثم تلا ذلك مشاهد تنقلات اليد من مكانٍ إلى آخر، في محاولة منها للذهاب إلى مكانٍ بعينه، وهنا تظهر براعة التصوير الذي جعل هذه المشاهد غاية في العذوبة، فرأينا اليد الجاثية على أصابعها عند النهر عند سقوط المطر، قريبة الشبه جدًا بشخص جاثٍ على ركبتيه من الألم، ورأيناها استكانت في حوض الاستحمام الممتلئ بالماء، وكأنها جسم إنسان تراخت أعضاؤه المرهقة في ماء الحوض الدافئ.
ورأيناها تستقر على الشاطئ مختبئة في الرمل الذي ينساب من بين أصابعها المفتوحة والشمس الدافئة تغمرها، ورأيناها حينما اشتاقت إلى لمس جسد إنسان، كيف احتضنت في حنانٍ بالغ كف طفل رضيع.
وكما شاهدنا مشاهد كثيرة فلاش باك في حكاية نوفل، فكانت لليد أيضًا مشاهد خاصة بذكرياتها في الماضي، حينما كانت يد طفل يعزف على البيانو أو يصنع أشكالًا من الرمل على الشاطئ، وحتى حينما كان ذلك الطفل يستخدمها في العبث بالأنف، فهذه اليد البائسة كبؤس صاحبها، كانت لها حياة سعيدة ذات يومٍ أيضًا.
ونجدها في النهاية، وصلت بصعوبة بالغة إلى صاحبها، نوفل، لتحاول عبثًا الالتحام بذراعه، بينما كان نائمًا، ولكنها للأسف، لم تلتصق بالذراع كما توقعت، وتوارت في الغرفة حزنًا.
لم تنتهِ الحكاية على هذا النحو ولله الحمد، ولكن قبل أن نصل لنهاية الفيلم وتفسيرها، دعونا نخوض أكثر في تفاصيل الفيلم، ودلالة رموزه الكثيرة.
رسوم متحركة بطعم الواقع المر
الشيء الغريب في هذا الفيلم، أن كونه فيلم رسوم متحركة أعطاه مصداقية أكثر، ولا أعرف كيف حدث هذا، فتخيل معي لو أن الفيلم كان عاديًا بأشخاص حقيقيين، لم نكن لنصدقه، ولكن لأنه جمع في عذوبة شديدة بين الواقع القبيح والفانتازيا، فكانت النتيجة أن هذه المشاعر التي أثارتها الرسوم المتحركة مع الموسيقى الشجية، كان لها تأثير كاسح، فصرت أنت المشاهد تصدق ما ترى فعلًا، بل وتتألم لما تراه.
بالنسبة للتصوير السينمائي، فكان رائعًا ودقيقًا ومليئًا بالتفاصيل، وبالطبع لأننا نتحدث عن فيلم رسوم متحركة فأعني هنا رسومات الجرافيك التي صورت لنا مشاهد واقعية تعلق في الذهن، كأرضية الورشة القديمة التي يتحرك حجر منها حينما يضغط عليها حذاء نوفل، وجاكت جابرييل الأصفر مثلًا وسماعات أذنها الملونة ونظارات نوفل التي تم لصقها بشريط لاصق من بعد حادثة البتر، أما الموسيقى، فكانت من أبرز عناصر الفيلم في رأيي، شعرت بأنها مألوفة بدرجة غريبة ومغرقة في الحزن أيضًا.
علامات استفهام
هل لاحظت معي أن عنوان الفيلم بالإنجليزية وبالفرنسية، معناه فقدت جسدي، بينما نحن نعرف أن نوفل فقد يده فقط؟ ترى لماذا لم يكن اسم الفيلم، فقدت يدي؟ فهل معنى هذا أن نوفل فقد جسده حينما فقد يده؟
شيءٌ آخر لفت نظري، قدر الذبابة، هو اسم إحدى المقطوعات الموسيقية الخاصة بالفيلم للفنان الفرنسي دان لافي، ألم يكن الأصح أن يكون اسم المقطوعة قدر نوفل؟ ألم يكن ما حدث، هو قدر نوفل البائس الذى لم يتخل عن حلم الطفولة القديم؟ أم هو قدر الذبابة التي خرجت سالمة من محاولة نوفل الطائشة للإمساك بها؟
ما بين الفقد والقدر
يرى النقاد أن الفيلم مليء بالرموز، فالذبابة في الفيلم، رمز للقدر الذي يحوم حول نوفل باستمرار منذ أن كان صبيًا، وبينما نرى محاولات نوفل البائسة للإمساك به، أي للسيطرة عليه، إلا أنه يظل يهرب من بين أصابعه باستمرار، وصولًا إلى مشهد بتر اليد الصادم.
“لا يمكنك الفوز كل مرة، هذه هي الحياة”، كانت هذه كلمات والد نوفل إليه، حينما رآه متشبسًا بمحاولات الإمساك بالذبابة، ويا ليته استمع إليه.
بينما تمثل اليد المبتورة رمز الشعور بالذنب ورمز الفقد، وهي كل الأحلام الجميلة التي دفناها كي ننساها، ولم نفعل، هي كل خيبات الماضي التي كان مقدرًا لها أن تصبح واقعًا كالحلم في روعته ولم تفعل.
فلسفة نوفل للهروب من القدر
كان لنوفل مخبأ سري للفرار من العالم، وهو البيت الذي صنعه بنفسه، فوق سطح مبنى الورشة، الذي على شكل بيوت الإغلو Igloo التي يعيش فيها سكان القطب الشمالي.
كان كل ما يريده نوفل أن يختبئ من القدر أو يراوغه هربًا منه، لشعوره بأن القدر سيسلب منه ما يملك
رأينا كيف رسم نوفل مخطط البيت وبدأ في صنعه من الخشب، في حماسٍ بالغ، وذلك على أنغام أغنية رقيقة جدًا اسمها You’re the one، من أجل أن يريه لجابرييل، فقد أراد تخيل أنهما وحدهما تمامًا في أقصى العالم، حيث لا وجود لشيء إلا البياض الناصع والدببة القطبية.
ذلك البيت كان بمثابة الملاذ لنوفل الذي أرى أنه محاولة للاختباء من القدر، حتى إننا شاهدنا مشهدًا لطيفًا جدًا ليد نوفل المبتورة في النهاية، وهي تصنع بيت إغلو صغير من قوالب السكر البيضاء.
وظهرت فلسفة نوفل للهروب من القدر في مشهدٍ آخر مهم جدًا، وهو مشهد حديثه مع جابرييل على سطح أحد المباني القريبة من الورشة والقريب من إحدى الرافعات العملاقة، حينما سأل نوفل جابرييل إن كانت تؤمن بالقدر أم لا، وأخبرها أنه توصل لطريقة كي يرواغ بها القدر، وهي أن يفاجئ القدر ذاته، ويفعل شيئًا غير متوقع أبدًا، كقيامه بالقفز من سطح المبنى على الرافعة مثلًا.
كان كل ما يريده نوفل أن يختبئ من القدر أو يراوغه هربًا منه، لشعوره بأن القدر سيسلب منه ما يملك أو من يحب أو كلاهما معًا.
النهاية
بعد حادثة البتر، وحينما فقد نوفل تقريبًا كل شيء، لم يتبق له إلا فكرة أن يرواغ القدر بفعل غير متوقع أبدًا، كما كان في حديثه مع جابرييل سابقًا، والحقيقة أنه راوغنا نحن شخصيًا، فبينما كنا نتوقع جميعًا – في هلع – أن نوفل الذي صعد إلى سطح مبنى الورشة، بأداء درامي، وعلى خلفية موسيقية حزينة، سيقفز من فوق المبنى ليسقط على الأرض وينهي حياته، إلا أن نوفل قفز من سطح المبنى إلى الرافعة بنجاح، مطلقًا صيحة فرح حماسية، تعني أنه انتصر على قدره أخيرًا، بيدٍ واحدة نعم، ولكنه أخيرًا انتصر.
ينتهي الفيلم بمشهد من ذكريات نوفل حينما كان طفلًا يلعب على الشاطئ وهو يترك بصمة واضحة ليده على الرمل، ويقوم بعدها ليجري فاردًا ذراعيه وكأنه يطير، فربما كان هذا المشهد تنبوءًا بمستقبل نوفل الحزين، وربما كان إشارة مفادها أن نوفل سيستطيع التحرر من ماضيه ومن فقده لكل ما أحب وسيحلق بعيدًا، ليخوض في الاحتمالات اللانهائية للحياة، التي من بينها، ياللعجب، السعادة.