مع تراكم المشكلات التي يواجهها العراق سياسيًا واقتصاديًا وأخيرًا المشكلة الصحية المتمثلة بجائحة فيروس كورونا التي اجتاحت العالم، تثار العديد من التساؤلات عن إمكانية تحقيقه اكتفاءً ذاتيًا في المجال الزراعي الذي يعد الأهم من بين جميع القطاعات.
فمع تراجع التجارة الدولية وتراجع كذلك إيرادات الحكومة العراقية وهبوط أسعار النفط إلى 30 دولارًا للبرميل، بات الاكتفاء الزراعي الذاتي ضروريًا لحفظ الأمن الغذائي للعراقيين وحفظ موارد العراق من الاستنزاف.
الأسطر التالية لـ”نون بوست” تناقش وضع العراق الزراعي بين الماضي والحاضر واقترابه من تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض المحاصيل.
الزراعة في العراق قديمًا
يعود تاريخ الزراعة في العراق إلى آلاف السنين الماضية، إذ يشير أستاذ التاريخ أحمد قاسم الجمعة في حديثه لـ”نون بوست” أن أول تاريخ زراعي ثابت في العراق عرف قبل نحو 5500 سنة قبل الميلاد، وذلك في منطقة القليعات قرب قلعة (باشطابيا) الشهيرة بمركز مدينة الموصل.
ويضيف الجمعة أن التنقيب الآثاري كشف أن أول قرية زراعية في العراق نشأت في تلك المنطقة، وعلى إثرها تحول الإنسان في تلك الحقبة من مرحلة البداوة والتنقل بحثًا عن الطعام إلى مرحلة الاستقرار وبناء أول قرية زراعية.
وعلى مدى العقود الماضية التي سبقت سقوط النظام السابق عام 2003، حقق العراق اكتفاءً ذاتيًا من المنتجات الزراعية، إذ عاش العراقيون طيلة فترة الحصار الأممي بين عامي 1991 و2003 على ما تجود به الأراضي العراقية من خيرات، إضافة إلى استيراد بعض المواد فيما عرف حينها بصفقة (النفط مقابل الغذاء والدواء).
تغير حال العراق بعد 2003 كليًا، فبسبب الانهيار الشامل لمؤسسات الدولة، بات الاستيراد سيد الموقف، وباتت جميع السلع الغذائية والزراعية وغيرها مستوردة، مع تراجع الزراعة في البلاد لأسباب عديدة.
الخبير الزراعي إياد أحمد يجمل مجموعة من الأسباب التي أدت إلى تراجع العراق في المجال الزراعي، إذ يؤكد لـ”نون بوست” أن العراق شهد انتكاسة في مجال الإنتاج الزراعي بسبب عدم حماية الحكومات العراقية المتعاقبة للمنتج المحلي، فضلًا عن نزوح آلاف الفلاحين والمزارعين من الأرياف إلى المدن، بعد أن باتت معادلة الاستثمار الزراعي في غير صالحهم ونتيجة التدهور الأمني كذلك.
العامان الأخيران شهدا بعض التحسن في أداء وزارة الزراعة، وأطلقت الوزارة عدة قرارات بمنع استيراد المنتجات الزراعية التي تنتج محليًا
ويؤكد أحمد أن قانون الحاكم المدني الأمريكي للعراق، بول بريمر، الذي خفض قيمة الجمارك على البضائع المستوردة في عام 2004 إلى نحو 5% فقط، أدى إلى أن منافسة المنتجات الزراعية الأجنبية للمحاصيل المحلية والتغلب عليها، وبالتالي لم يعد المزارعون يجدون نفعًا في الاستمرار بالزراعة.
من جانب آخر، يشير أحمد إلى أن الوضع ليس سيئًا بالصورة التي قد يتخيلها البعض، إذ يؤكد أن العامين الأخيرين شهدا بعض التحسن في أداء وزارة الزراعة، وأطلقت الوزارة عدة قرارات بمنع استيراد المنتجات الزراعية التي تنتج محليًا وتكفي للاستهلاك المحلي، وبالتالي انعكست هذه القرارات إيجابًا على الوضع الزراعي في البلاد، وباتت الأسواق العراقية تشهد كثيرًا من الأصناف الزراعية التي فقدتها خلال السنوات الماضية.
نحو الاكتفاء الذاتي بشروط
بعد سنوات من الاستيراد المفرط لجميع أنواع المنتجات الزراعية والفواكه والخضراوات، يبدو أن بارقة أمل بدأت تلوح في القطاع الزراعي بالعراق، إذ أعلنت وزارة الزراعة في فبراير/شباط الماضي أنها حققت الاكتفاء الذاتي من محصول القمح وعدد من المحاصيل الزراعية الأخرى.
قال وزير الزراعة صالح الحسني: “الوزارة ورغم الظروف التي تمر بها البلاد استطاعت خلال فترة قصيرة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح”، مبينًا أن الوزارة صدّرت أيضًا الفائض من محصول فاكهة الرمان إلى ألمانيا، متعهدًا بأن العراق سيكون لديه فائض من محصول الطماطم المنتج في محافظة البصرة ومن محصول البطاطا المنتج في محافظة نينوى.
بحسب الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية، فإن المساحة المزروعة بالقمح فقط وبطريقة الري بالغمر لعام 2019 بلغت نحو 6331 مليون دونم، فيما تشير البيانات الإحصائية إلى أن الإنتاج بلغ نحو 4.4 مليون طن، في الوقت الذي بلغت فيه كمية المحصول من المناطق المطرية نحو 947 ألف طن.
وأضاف “العراق أسوة بالدول الأخرى ذو موارد متعددة ويسعى إلى زيادة نسبة الاكتفاء الذاتي من المحاصيل المختلفة وخاصة الرئيسة وكذلك المنتجات الحيوانية”.
وفي السياق، أكد رئيس لجنة الزراعة والمياه والأهوار في مجلس النواب العراقي سلام الشمري في الـ9 من مارس/آذار الماضي أن هناك 25 محصولًا زراعيًا محليًا جاهزًا للتصدير، لافتًا إلى أن من بين تلك المحاصيل التمور والطماطم والباذنجان والفواكه والخضراوات.
لا يزال أمام العراق صعوبات كبيرة لتحقيق اكتفاء ذاتي يقيه شراهة الاستيراد
على جانب آخر، يشير عدد من الخبراء الاقتصاديين أن العراق لا يزال أمامه مشوار طويل لتحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي، إذ يقول الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطوان إنه وعلى الرغم من أن العراق شرّع عام 2010 قوانين التعرفة الجمركية وحماية المستهلك والتنافسية ومنع الإغراق السلعي، فإنها لا تزال غير مفعلة وغير ذات جدوى، ويؤكد أنطوان أيضًا أن “العراق يفتقد لمنهجية استيراد مدروسة، وجميع البضائع المستوردة لا تخضع للسيطرة النوعية”.
أما الخبير الاقتصادي رياض العبيدي فيشير إلى أن العراق حقق اكتفاءً ذاتيًا في بعض المحاصيل الزراعية، لكن لا تزال هناك الكثير من المراحل الغائبة أمام ذلك الاكتفاء، مشيرًا إلى أن الصناعات الغذائية التحويلية لا تزال غائبة، إذ يصدر العراق العديد من المحاصيل الزراعية لدول أخرى، ليعيد استيرادها بعد دخولها في الصناعات التحويلية من دول أخرى مثل محصول التمر وغيره.
كما يؤكد العبيدي أن هناك مشكلة أخرى تتمثل في أن العراق وفي غير ذات مرة، وكلما أعلن تحقيقه الاكتفاء الذاتي في بعض المحاصيل والثروة الحيوانية، فإنه بعد ذلك يشهد انتكاسة تتمثل بتسمم الأسماك والمحاصيل كالطماطم فضلًا عن الحرائق التي التهمت مئات آلاف الهكتارات في موسم الحصاد الماضي، عندما التهمت نيران مجهولة الفاعل محصول القمح في العديد من المحافظات دون أن تؤدي التحقيقات إلى كشف الجهات الفاعلة.
تستمر حركة الإنتاج الزراعي في العراق بالتحسن تدريجيًا، لكن يبدو أن العراق لا يزال أمامه صعوبات كبيرة لتحقيق اكتفاء ذاتي يقيه شراهة الاستيراد، فتوسيع مساحة الأراضي الزراعية وبناء السدود واستصلاح الأراضي وبناء المصانع الغذائية التحويلية وسن مزيد من القوانين التي تحمي المنتج المحلي، كلها عقبات لا يزال العراق بحاجة ملحة لها.