شكلت عملية بروز الفصائل المسلحة في العراق، إحدى الجدليات المثيرة في الساحة العراقية بعد عام 2003، وذلك بفعل طبيعة التأثير الذي أنتجته سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، فعلى الصعيد السياسي، تحولت هذه الفصائل إلى حالة معقدة في عملية تشكيل الحكومات العراقية، وبرز دورها واضحًا بعد انتخابات 2018، أما على الصعيد الأمني، تحولت إلى جيش موازٍ للمؤسسة العسكرية العراقية، لها نظامها التسليحي ومناطق العمليات وخطط الانتشار الخاصة بها، أما من الناحية الاقتصادية، فيمكن القول إنها أصبحت تمتلك اليوم اقتصادات مؤثرة في الداخل العراقي، وذلك عبر علاقاتها القوية مع العديد من الشركات والمؤسسات ورجال الأعمال.
إن النظرة المبسطة لطبيعة الدور الذي تؤديه هذه الفصائل في العراق، يوحي بتحولها اليوم إلى دولة داخل دولة، وهذا التحول مرده فكرة أساسية مفادها أن الرؤية الإستراتيجية الإيرانية القائمة على احتواء الدولة العراقية (دولة ومؤسسات)، لم تنجح في تحقيق الغاية النهائية واستيعاب الحالة العراقية حتى الآن، وهو ما دفعها إلى تقوية دور هذه الفصائل على حساب الدولة العراقية الرسمية، وذلك لامتلاك مقتربات تأثيرية قادرة على إحداث التأثير المطلوب إيرانيًا عند الحاجة الإستراتيجية لذلك.
الصعود السياسي
مثلت الانتخابات البرلمانية عام 2018، البداية الرسمية لصعود الفصائل المسلحة السياسي، وقد استعارت في هذه اللحظة التاريخية، تجربة حزب الله اللبناني السياسية، وذلك بالتحول إلى فاعل سياسي ومؤثر في سياسات البيت الشيعي أولًا، والمعادلة السياسية العراقية ثانيًا، وعلى هذا الأساس تنظر هذه الفصائل إلى دورها السياسي بأنه يمثل الشرعية السياسية التي تستلهم أسسها من الحرب على تنظيم داعش من جهة، والوقوف بوجه الولايات المتحدة من جهة أخرى، وعند مراجعة الأدبيات السياسية لأغلب الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران، نجد أنها تؤسس لشرعيتها السياسية انطلاقًا من هذه المخرجات.
تمثل النجاح الأول لهذه الفصائل لدورها المؤثر في عملية تشكيل حكومة السيد عادل عبد المهدي، عبر تحالف سياسي جمعها مع سائرون، فضلًا عن دورها في إعادة صياغة البيت السياسي الشيعي ضمن قواعد سياسية جديدة تعطي للفصائل المسلحة الأولوية في أي قرارات تصدر عن هذا البيت، وهو ما برز واضحًا في مرحلة ما بعد اندلاع التظاهرات الاحتجاجية في أكتوبر 2019، من خلال التصدي لمطالب المتظاهرين، ومن ثم في مرحلة ما بعد اغتيال قاسم سليماني، من خلال إجبار مجلس النواب العراقي على تبني قرار يقضي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد أو في مرحلة ما بعد استقالة حكومة السيد عادل عبد المهدي، من خلال دورها في عرقلة تشكيل أي حكومة عراقية بعيدًا عن التأثير الإيراني.
رغم اللهجة المتشددة التي تبنتها الفصائل حيال عملية تكليف الكاظمي، فإنها عادت وغيرت موقفها السياسي بعد لقائه برئيس المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني
تأثيرها في عملية التكليف
سلطت عملية تكليف السيد مصطفى الكاظمي بتشكيل الحكومة العراقية، خلفًا للمعتذر السيد عدنان الزرفي، الضوء على طبيعة الدور الذي تؤديه هذه الفصائل، في رفض أو قبول المرشحين، واللافت في الأمر، أنه سبق لهذه الفصائل أن اتهمت الكاظمي بالعمالة للأمريكيين والتورط بعملية اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس مطلع العام الحاليّ، ومن ثم اتهامه عبر بيانات رسمية ومن وسائل إعلام تابعة لها، بالوقوف خلف مخطط انقلاب عسكري في البلاد، بالاتفاق مع إحدى الرئاسات العراقية الثلاثة، في إشارة إلى رئيس الجمهورية برهم صالح، ويتعدى ذلك إلى مواقف كتل سياسية أخرى مثل تحالف الفتح الذي رفض تكليف الكاظمي مرات عدّة، خلال الأزمة السياسية المتعلقة باختيار اسم رئيس الحكومة.
التوجه الإيراني الحاليّ لا يمكن أن يسير على نسق واحد، طالما أن هناك موازنًا أمريكيًا، وعليه فإن لعبة الرفض والقبول ستستمر
وعلى الرغم من اللهجة المتشددة التي تبنتها هذه الفصائل حيال عملية تكليف الكاظمي، فإنها عادت وغيرت موقفها السياسي بعد لقائه برئيس المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني في أثناء زيارته لبغداد مطلع الشهر الماضي، قبل أن تعود مرة أخرى لترفض عملية التكليف، وهو ما يشير إلى أن قواعد اللعبة في العراق تجري اليوم وفق ثنائية معقدة تديرها إيران، قبول سياسي وضغط عسكري، تطمح من خلاله إيران إلى تعديل حظوظها في العراق، في ضوء التعثر الأمريكي في إيجاد مقاربات جديدة للتعاطي مع الحالة الإيرانية هناك.
تبادل أدوار لزيادة الضغوط
أدت عمليات الرفض والقبول التي لاقتها عملية تكليف الكاظمي، إلى توجه جديد في سياق عمل فصائل محور المقاومة في العراق، ففي مقابل الدعم السياسي من أطراف البيت السياسي الشيعي لعملية التكليف، كان هناك رفض واضح من فصائل مسلحة قريبة من إيران، التي يأتي في مقدمتها كتائب حزب الله وحركة النجباء وكتائب سيد الشهداء، إلى جانب عصبة الثائرين وقبضة الهدى وأصحاب الكهف، التي اعتبرت أن عملية التكليف هذه، بمثابة خيانة لدماء الشهداء، وفي مقدمتهم قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
الثابت هنا أن التوجه الإيراني الحاليّ لا يمكن أن يسير على نسق واحد، طالما أن هناك موازنًا أمريكيًا، وعليه فإن لعبة الرفض والقبول ستستمر، حتى حصول الفصائل المقربة من إيران على ضمانات سياسية من الكاظمي، بعدم ملاحقتها عسكريًا خلال الفترة المقبلة، خصوصًا أنه أعلن صراحة في بيان التكليف، أن الحكومة العراقية عازمة على حصر السلاح بيد الدولة.
إن محاولة اختزال الموقف السياسي الشيعي من عملية التكليف الأخيرة، هي سياسة بدأت تدرك أهميتها الفصائل المسلحة وتحديدًا الولائية منها، وهو ما جعل التيار الصدري يقف على الحياد، وترك الساحة لزعيم تيار الحكمة السيد عمار الحكيم، لإعادة ترميم البيت السياسي الشيعي الذي صدعه غياب قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، ومحاولة مرجعية النجف النأي بنفسها عن الصراعات السياسية الشيعية.
وهنا وجد صانع القرار السياسي في إيران، أن دعم موقف هذه الفصائل يمثل ضرورةً إستراتيجيةً بالنسبة لها، وهو ما برهنت عليه زيارات قيادات عسكرية إيرانية للعراق (شمخاني – دنائي فر – قآني)، ناهيك عن الدور المؤثر الذي يلعبه السفير الإيراني في العراق إيراج مسجدي، الذي يمسك بيده كل خيوط اللعبة السياسية التي تشترك بها الفصائل القريبة من إيران.