بعد ما يزيد على شهر من حرب أسعار النفط بين السعودية وروسيا التي ألقت بظلالها القاتمة على سوق النفط العالمية، توصلت الدول المنتجة للنفط، لاتفاق تاريخي بخفض الإنتاج بشكل قياسي، بموافقة المكسيك التي سبق أن عطلت اتفاقًا سابقًا بين موسكو والرياض.
وأعلن تحالف “أوبك بلس” أنه اتفق على تقليص الإنتاج بمقدار 9.7 مليون برميل يوميًا (أي بنحو 10% من المعروض العالمي) في شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران المقبلين، وذلك بعد محادثات مطولة على مدى أربعة أيام، تخللتها ضغوط من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد الخسائر التي تكبدها قطاع النفط الصخري في بلاده.
ويعد هذا الاتفاق الأكبر في التاريخ من حيث معدلات خفض الإنتاج، إذ يفوق أربعة أمثال التخفيضات التي اتفق عليها المنتجون في خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008، في محاولة لوقف انهيار الأسعار الذي شهدته السوق النفطية منذ تفشي فيروس كورونا الجديد.
ترامب عبّر عن سعادته بهذه الخطوة، قائلًا في تغريدة له على حسابه على تويتر: “اتفاق النفط الكبير من أوبك بلس قد أنجز.. سينقذ مئات الآلاف من الوظائف في قطاع الطاقة داخل الولايات المتحدة”، متوجهًا بالشكر إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وملك السعودية سلمان بن عبد العزيز لسعيهما نحو إنجاز الاتفاق، مضيفًا “تحدثت للتو معهما.. إنه اتفاق عظيم للجميع”.
وفي أول حصاد لهذا الاتفاق قفزت أسعار النفط أكثر من دولار للبرميل، اليوم الإثنين، وارتفعت العقود الآجلة لخام برنت 1.29 دولار، ما يعادل 4.1% لتسجل 32.77 دولار للبرميل بحلول الساعة الـ05:19 بتوقيت غرينتش، بعد أن فتحت على مستوى مرتفع للجلسة عند 33.99 دولار.
ولكن هل يكفي هذا الاتفاق بالفعل لتقليل تخمة المعروض في الأسواق مع الوضع في الاعتبار المؤشرات التي تذهب إلى إطالة أمد أزمة كورونا وتداعياتها الاحترازية التي أثرت بشكل كبير على حركة التجارة العالمية ومن بينها النفط؟
اتفاق تاريخي
جاء الاتفاق بعد عدة اجتماعات لقادة دول “أوبك بلس” عبر دائرة تليفزيونية، تبادلوا فيها العديد من السيناريوهات المتعلقة بمعدلات خفض الإنتاج اليومي من النفط، حيث أعلن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك قبيل إعلان الاتفاق أن الولايات المتحدة مستعدة لخفض إنتاجها النفطي بما بين مليونين وثلاثة ملايين برميل يوميًا، مستنكرًا في الوقت ذاته الموقف السعودي الرامي لزيادة الإنتاج في الآونة الأخيرة، واصفًا إياه بـ”غير العقلاني”.
وفي السياق ذاته قال التحالف إنه يتطلع إلى تخفيض المنتجين غير الأعضاء مثل الولايات المتحدة وكندا والبرازيل والنرويج، كمية أخرى بنسبة 5% من إنتاج النفط، أي نحو 5 ملايين برميل يوميًا، فيما أشارت مصادر أخرى إلى أن تخفيضات إنتاج النفط الفعلية قد تصل إجمالًا إلى نحو 20 مليون برميل يوميًا، عند حساب مساهمات الدول غير الأعضاء في “أوبك بلس” وتخفيضات طوعية بنسب أكبر من جانب بعض الأعضاء.
وعقب انتهاء الاجتماعات مساء أمس، أكد وزير النفط الكويتي خالد الفاضل عبر حسابه الرسمي في “تويتر” التوصل للاتفاق، موضحًا أنه يتضمن خفض الإنتاج بما يقارب 10 ملايين برميل من النفط يوميًا من أعضاء “أوبك+” ابتداءً من الأول من مايو/أيار 2020.
صفقة خفض إنتاج النفط جاءت بعد تدخل الرئيس دونالد ترامب الذي ضغط على السعودية من أجل تقديم تنازلات مع المكسيك التي كانت ترفض المقترحات السعودية لخفض الإنتاج
أما فيما يتعلق بموقف المكسيك وهي التي علقت إبرام الاتفاق طيلة الأيام الماضية لتمسكها بموقفها الرافض لخفض الإنتاج بالنسبة التي طلبها أعضاء التحالف وهي 400 ألف برميل يوميًا حتى يصل المعدل إلى 10 ملايين برميل، كما تضمن الاتفاق الأولي، فقد أعلنت نيتها خفض الإنتاج بما قيمته 100 ألف برميل فقط، ولعل هذا هو التفسير المتعلق بمعدل الخفض الإجمالي إلى 9.7 مليون برميل.
الصحف الأمريكية أشارت إلى أن صفقة خفض إنتاج النفط جاءت بعد تدخل الرئيس دونالد ترامب الذي ضغط على السعودية من أجل تقديم تنازلات مع المكسيك التي كانت ترفض المقترحات السعودية لخفض الإنتاج، حيث أوضحت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن الرياض ومكسيكو تنازعتا بشأن خفض إنتاج النفط، مما عرض الاتفاق للخطر لولا تدخل واشنطن.
ومن المقرر أن يتم خفض الإنتاج على مراحل مختلفة، تبدأ المرحلة الأولى في مطلع مايو القادم ولمدة شهرين متواصلين بمقدار 9.7 مليون برميل يوميًا، يتبعه اتفاق آخر بتقليص خفض الإنتاج إلى 8 ملايين برميل يوميًا حتى نهاية 2020، فيما تبدأ المرحلة الثالثة يناير 2012 وحتى أبريل 2022 بمقدار 6 ملايين برميل يوميًا، أي أقل بمليوني برميل مقارنة مع الاتفاق السابق له.
وقد برر وزير النفط العراقي ثامر الغضبان سبب التدرج في خفض الإنتاج، قائلًا إنه يعود إلى مجموعة عوامل، منها تقديرات تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي من 2.4% إلى انكماش بنسبة 1.1%، ذاكرًا في بيان صحفي له أن التدرج في الخفض يعود أيضًا إلى تناقص الطلب على النفط الخام، بسبب تفشي فيروس كورونا، حيث فقدت عقود النفط الآجلة نحو 50% من قيمتها منذ مطلع 2020، إلى متوسط 32.5 دولار للبرميل حاليًّا، مقارنة مع 65 دولارًا بنهاية 2019.
هل تنتهي الحرب؟
تخفيض معدل الإنتاج اليومي بما قيمته 10% من إجمالي المنتج من المادة الخام ربما يكون رقمًا كبيرًا له تأثيره القوي في الظروف العادية، غير أن الوضعية الراهنة ربما تقلل حجم وتأثير هذا الرقم، خاصة مع حالة الشلل التام التي أصابت الاقتصاد العالمي، وعليه تراجع الطلب على النفط بصورة لم يشهدها العالم منذ عقود طويلة.
بعض الآراء ذهبت ابتداءً إلى أن هذا الاتفاق ما كان له أن يوقع دون الضغوط التي مارسها ترامب على السعودية وروسيا، بوصفهما السبب في الأزمة الأخيرة وتراجع الأسعار، وهو ما أشار إليه الخبير بشؤون النفط والطاقة، مصطفى بازركان، الذي لفت إلى أن هذا الاتفاق التاريخي تم بين أضلاع مثلث منتجي النفط: الأول منتجو أوبك والثاني منتجو النفط خارج أوبك والثالث النفط الأمريكي التقليدي والصخري.
بازركان في تصريحات صحفية له أوضح أن الاتفاق جاء بدعم من وزراء طاقة مجموعة العشرين، لإنقاذ أسعار النفط التي انحدرت بسبب انسحاب روسيا من الاتفاق السابق مع أوبك، ثم انتشار فيروس كورونا الذي أدى إلى تراجع الطلب على النفط بما يزيد على 25 مليون برميل يوميًا.
كما نوه إلى أن المشاركة الأمريكية جاءت إجبارية، بعد أن واجهت شركات النفط الصخري سعرًا تاريخيًا، لافتًا إلى أن سعر برميل النفط الأمريكي قبل هذا الاتفاق، وصل في البيع الفوري إلى 4 دولارات للبرميل بسبب وفرة المعروض وشح إمكانية الخزن، ما دفعها لخفض الإنتاج بواقع 10%، ودفع ترامب للضغط على بوتين للانضمام لاتفاق لخفض الإنتاج.
الخبير النفطي يرى أن حرب الأسعار لم تكن بين السعودية وروسيا فقط كما يروج البعض، بل إنها ثلاثية الجبهات، بين أوبك وروسيا والنفط الأمريكي، معتبرًا أن الاتفاق الذي تم إبرامه مؤخرًا يمثل هدنة إجبارية بين منتجي النفط في العالم، قد تطول نظرًا لعدم وجود مؤشر على ذروة انتشار فيروس كورونا، ولا معلومات عن الفترة الزمنية اللازمة لانحسار الفيروس واختفائه.
الرأي ذاته ذهب إليه الخبير في شؤون النفط والطاقة، نهاد إسماعيل، الذي أوضح أن الخسائر التي تعرضت لها شركات النفط الصخري الأمريكي التي كان على رأسها توقف نشاط أكثر من 100 شركة، كانت السبب الرئيسي للوساطة الترامبية التي تحولت فيما بعد إلى ضغوط على موسكو والرياض.
أما فيما يتعلق بجدوى هذا الاتفاق وقدرته على إنهاء تخمة المعروض في الأسواق، أشار الخبير في شؤون النفط أنه رغم إيجابية الاتفاق وما يحمله من مؤشرات جيدة للأسواق، إلا أنه لن ينهي تخمة المعروض النفطي في الأسواق، نظرًا لانخفاض الطلب في الصين لنحو 25% وانهيار الطلب في الهند بنحو 70%، إلا أن السوق متخم بـ20 مليون برميل وهناك تقديرات أمريكية بـ30 مليون برميل.
الأجواء الإيجابية التي تخيم على أرجاء سوق النفط العالمي بعد ساعات قليلة من توقيع الاتفاق لا يمكن التعويل عليها في اختبار مدى جدوى هذه الخطوة
وأضاف أنه خلال الشهرين القادمين ربما تحدث توترات في صفوف أوبك التي تقودها السعودية وروسيا، وقد تشتعل حرب جديدة بين الطرفين، مؤكدًا أن الاتفاق لا يعني انتهاء الحرب الروسية السعودية، بل مجرد هدنة مؤقتة قد تطول أو تقصر حسب نتائج هذا الاتفاق على الأسواق، محذرًا في الوقت ذاته أنه إذا بقيت أسعار النفط منخفضة سيفشل الاتفاق، وإذا ارتفعت الأسعار وتم تمديد الاتفاق، فهنا يمكن أن نقول تم نزع فتيل الحرب.
يذكر أن تقريرًا سابقًا لـ”نون بوست” كشف حجم الانتقادات التي وجهها عدد من أعضاء الكونغرس للسفيرة السعودية في واشنطن، بشأن موقف بلادها من خفض الإنتاج، مهددين باتخاذ إجراءات قاسية حال التمسك بهذا الموقف، من بينها وقف التحالف العسكري مع السعودية وسحب الحماية العسكرية للمنشآت السعودية التي تعتمد على الحماية الأمريكية.
وفي المجمل، فإن الأجواء الإيجابية التي تخيم على أرجاء سوق النفط العالمي بعد ساعات قليلة من توقيع الاتفاق لا يمكن التعويل عليها في اختبار مدى جدوى هذه الخطوة التي من المؤكد أنه من السابق لأوانه وضعها تحت مجهر التقييم، لتبقى الأشهر القليلة القادمة المحك الرئيسي لقدرتها على معالجة الآثار السلبية الناجمة عن تداعيات أزمة كورونا وتقليل تخمة المعروض بما ينعكس على أسعار النفط في السوق العالمية.