أسس عدد من الأطباء في ألمانيا جمعية طبية أطلق عليها اسم “شبكة الأطباء المسلمين” (MUAMED) بهدف تمثيلهم الرسمي وتلبية احتياجاتهم في المستشفيات وإيصال مشكلاتهم للمعنيين بصفة إعتبارية تمثلهم، في سابقة تاريخية هي الأولى من نوعها وخطوة هامة في مسار الحضور الإسلامي داخل ألمانيا.
البروفيسور هدائي قورقوسوز، أحد مؤسسي الشبكة، أوضح في تصريحات له أنه لأول مرة يتم تأسيس شبكة للأطباء المسلمين في ألمانيا، وتضم نحو 250 شخصًا من أطباء وصيادلة وعاملين في القطاع الصحي، يعيشون في ألمانيا والنمسا وسويسرا، لافتًا إلى أن الهدف من تأسيسها هو تشكيل شخصية اعتبارية رسمية للأطباء المسلمين للتعبير عن مشاكلهم واحتياجاتهم في المستشفيات والأماكن الأخرى ذات الصلة.
يهدف هذا الكيان الجديد – من ضمن ما يهدف بحسب قورقوسوز – إلى تبادل وتطوير المعلومات فيما بين الأطباء المسلمين هناك ودعم بعضهم البعض، لافتًا إلى وجود جمعيات ومنظمات خاصة بالأطباء اليهود والكاثوليك والبروستانت في ألمانيا، ومؤكدًا في الوقت ذاته على أنهم سيعملون على تلبية الاحتياجات الطبية لنحو 5 ملايين مسلم في ألمانيا.
تطور لافت للنظر في الخطاب الرسمي والشعبي الألماني مع تفشي أزمة كورونا الجديد نهاية العام الماضي، لاسيما بعد الدور الذي قامت به الأقلية المسلمة هناك في مواجهة الوباء، عبر حشد كودارها الطبية لمساعدة الحكومة في مساعيها لاحتواء الفيروس والقضاء عليه.
وقبل أيام تداول نشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مقطعًا مصورًا لأحد المساجد في ألمانيا، أثناء رفع الأذان فيه، بعد أن كان الأمر محظورًا بقرار من السلطات الألمانية، وأشاروا إلى أن رفع الحظر عن الأذان، جاء بهدف التضامن، بين المساجد والكنائس في مواجهة انتشار كورونا، من أجل بث الطمأنينة بين الناس على مختلف دياناتهم.
تدشين كيان طبي إسلامي داخل دولة ينظر نصف شعبها تقريبًا إلى المسلمين كـ “مهدد” لهم يعتبر خطوة إيجابية نحو إعادة النظر في موقف الألمان من الأقلية المسلمة التي عانت ولا تزال على مدار سنوات طويلة مضت من العنصرية في ظل تصاعد حضور اليمين المتطرف الذي كال الحقد والتنكيل للمسلمين، ليس في ألمانيا وحدها، إنما في أوروبا كلها.
وتعتبر ألمانيا من الدول المتقدمة في معدل الإصابة بالفيروس، حيث سجل معهد روبرت كوخ للأمراض المعدية ارتفاع عدد حالات الإصابة المؤكدة بكورونا في البلاد إلى 120479 حالة فيما ارتفع عدد حالات الوفاة إلى 2673 حالة، مع الوضع في الاعتبار تراجع معدلات الإصابة مقارنة بالأيام الماضية.
دعم الحكومة في مواجهة الوباء
كان للمسلمين في ألمانيا دور كبير في دعم جهود الحكومة لاحتواء الوباء الفتًاك، حيث حشدوا طاقاتهم الكاملة عبر كوادرهم الطبية المؤهلة من أجل تقليل رقعة الإصابة بالفيروس والعمل جنبا إلى جنب مع أطقم وزارة الصحة الألمانية في المراكز الطبية المختلفة.
ففي بيان صادر عن المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، مارس الماضي، دعا الأطباء والممرضين والطلبة المسلمين ذوي الاختصاص في المجال الصحي إلى المساهمة في تقديم الرعاية الصحية لتخفيف الضغط على الكوادر الطبية بسبب انتشار الفيروس.
نحو 50 بالمائة من الألمان يعتبرون الإسلام “تهديداً”، في حين لا يرى إلا حوالي الثلث من المستطلع آراؤهم فيه “مصدر غنى وتنوع” ثقافي.
وأضاف المجلس في البيان أن: “الانتشار السريع لفيروس كورونا سيؤدي إلى اكتظاظ المستشفيات بالمرضى ونقص حاد في الكادر الطبي”، وتابع: “ستكون المؤسسات الصحية في أمس الحاجة لأي مساعدة في هذا المجال ومساهمة من المسلمين في تقديم المساعدة لما فيه المصلحة العامة للمجتمع”، داعيًا المسلمين من ذوي الاختصاصات الطبية إلى تسجيل أسمائهم لدى المجلس “للاستعانة بهم عند الحاجة”.
وكان المجلس قد دعا المسلمين إلى تعليق إقامة الصلوات في المساجد إذا لزم الأمر، مشيرًا إلى أن “تعليق إقامة صلاة الجمعة وصلوات أخرى في المساجد لأجل اعتبارات تتعلق بالرعاية الصحية الوقائية أو بسبب حالة مخاوف (من الإصابة بالأمراض) أمر يبيحه الإسلام”.
22 ألف جريمة لليمين المتطرف
سقط المسلمون في ألمانيا خلال الأونة الأخيرة ضحايا عنصرية اليمين المتطرف، وهو ما تكشفه الأرقام والإحصائيات الرسمية الصادرة عن الحكومة الألمانية، حيث أظهرت بيانات وزارة الداخلية الألمانية، ازدياد الجرائم التي ارتكبها اليمين المتطرف في البلاد، بمعدل أكثر من 22 ألف جريمة خلال العام 2019.
وأوضحت الوزارة أن أغلب هذه الجرائم تندرج تحت “البروباغندا أو تحريض الشعب”، مبينة أن أتباع اليمين المتطرف ارتكبوا 986 جريمة ممن تندرج تحت “أعمال عنف”، لافتة إلى زيادة كبيرة في أعداد الجرائم مقارنة بعام 2018 والذي شهد وقوع 20 ألفا و431 جريمة من كلها من طرف اليمين المتطرف.
وفي مارس الماضي، نشرت الحكومة الألمانية، إحصائية رسمية لاعتداءات عنصرية ضد المسلمين في البلاد، ما يعد مؤشرا على تنامي الإسلاموفوبيا، حيث كشفت بأن المسلمين تعرضوا لـ 871 اعتداء في البلاد العام الماضي، أسفر عن مقتل شخصين، وإصابة 33 آخرين بجروح.
النائبة عن حزب “اليسار” في البرلمان الألماني، أولا يلبكه، علقت على هذه الإحصائية بأن الاعتداءات والإساءات التي استهدفت المسلمين في البلاد، انعكاس لكراهيتهم، وكانت وزارة الداخلية، أعلنت العام الماضي وقوع 910 جرائم اعتداء طالت المسلمين في 2018.
50% من الألمان يعتبرون الإسلام تهديدًا
استهداف المسلمين في ألمانيا ليس حكرًا على أنصار اليمين المتطرف فحسب، بل إن الشارع الألماني نفسه يعاني من نفس المعضلة، ففي دراسة صادرة عن مؤسسة بيرتلسمان الألمانية يوليو 2019 كشفت أن نحو 50 بالمائة من الألمان يعتبرون الإسلام “تهديداً”، في حين لا يرى إلا حوالي الثلث من المستطلع آراؤهم فيه “مصدر غنى وتنوع” ثقافي.
الباحثة الألمانية في الشون الإسلامية والهجرة د. ياسمين المنور، في تصريحات سابقة لها قالت إن: “الكثيرون لا ينظرون للإسلام اليوم على أنه دين، بل كإيدلوجية متطرفة تميل لمعاداة الديمقراطية”، بيد أن الباحثة من أصول مهاجرة تعود وتستدرك أن التشكيك المنتشر على نطاق واسع بين الألمان لا يعني معاداة الإسلام، على حد تعبيرها.
في الوقت الذي يئن في العالم من التداعيات العنصرية المصاحبة لفيروس كورونا والتي بلغت مستويات غير مسبوقة، فإن الوضع حيال مسلمي ألمانيا يختلف إلى حد كبير
وفي سياق أخر أخذ الباحث في الشؤون الإسلامية في جامعة فرايبورغ التربوية، د. عبد الحكيم أورغي، على الدراسة أنها تنظر إلى الإسلام كـ”كتلة واحدة”، دون الأخذ بعين الاعتبار الفروقات الجوهرية داخله بين مختلف الطوائف والفرق والمذاهب والطرق الدينية والتيارات، وذلك في حديث له مع DW عربية.
يذكر أنه في استطلاع للرأي أجري بداية العام الجاري أعرب نحو ربع الشباب في ألمانيا عن انزعاجهم من بناء المساجد في بلدهم، كما أظهر أن نحو نصف المراهقين والشباب البالغين يرون أنه لا يمكن في ألمانيا أن يتبنى أحد على نحو صريح آراء محددة في موضوعات مثل الهجرة أو الإسلام بدون أن يتم تصنيفه على أنه يميني أو يميني متطرف.
إعادة نظر
تدشين جمعية للأطباء المسلمين في هذا التوقيت بجانب أنها تمثّل تقديرًا للجهود المبذولة من قبل المسلمين في مواجهة كورونا إلا أنها في الوقت ذاته تعد خطوة جيدة نحو إعادة نظر الشارع الألماني في الموقف من الإسلام والمسلمين، ويتوقف هذا على ضرورة استغلال الجالية الإسلامية هناك لهذا التطور لتعزيزه مستقبلًا.
خبراء في الشأن الإسلامي يعتقدون أن العبء الأكبر يقع على المسلمين لإثبات عكس ما يقال لتحسين صورة الإسلام في أذهان الألمان، لافتين إلى ضرورة أن يقدم المسلمون الإسلام على أنه مشروع إنساني يحترم الخالق والمخلوق، ويتم ذلك بإحياء القيم الأخلاقية والإنسانية في نفس المسلم في أوروبا والعالم أجمع، وليس كمشروع سياسي.
آخرون قدموا بعض المقترحات لتفعيل هذه الفرضية منها تعزيز نشاط المسلمين وجالياتهم كيوم المسجد المفتوح والتوجه بالخطاب أكثر تجاه الألمان والمشاركة في الحياة السياسية والأنشطة الداعمة للتعددية والديمقراطية، خاصة وأن نسبة كبيرة من الألمان الذين لهم صلات مستمرة بالمسلمين يرون في الإسلام إغناء وليس تهديدًا، ومن ثم لابد من استغلال تلك الحالة.
وهكذا يمكن القول “رب ضارة نافعة”.. ففي الوقت الذي يئن في العالم من التداعيات العنصرية المصاحبة لفيروس كورونا والتي بلغت مستويات غير مسبوقة، فإن الوضع حيال مسلمي ألمانيا يختلف إلى حد كبير، فلربما تلقي تلك الأزمة بظلالها الإيجابية على مستقبل العلاقة بين الأقلية المسلمة والألمان، حكومة وشعبًا، وهو ما تكشفه الأيام القادمة خاصة في حال النجاح في احتواء الوباء وعودة الحياة الطبيعية مجددًا.