رفع أحفاد جنكيز خان وهولاكو راية الإسلام في الهند وروسيا وأنشأوا دولة مسلمة أُطلق عليها الإمبراطورية المغولية التي كانت تعد أكبر إمبراطورية متواصلة الأراضي في التاريخ وثاني أكبر إمبراطورية من حيث المساحة على الإطلاق، حيث كانت تضم الهند وباكستان وسيريلانكا وبنغلاديش وبوتان بالإضافة إلى جزر المالديف، لكن كما قال ابن خلدون في مقدمته الشهيرة “هناك عمر للدول والإمبراطوريات تمامًا مثل الأشخاص” ولهذا بدأت إمبراطورية المغول في الضعف والتداعي.
يخبرنا التاريخ أنه وفي لحظات فارقة من عمر الدول قد يحدد شخص واحد مصير أمة بأكملها وهذا ما حدث تحديدًا حين تسبب الأمير الهندي مير جعفر في احتلال بريطانيا وطنه لمدة وصلت إلى 200 عام، ليطلق بذلك الرصاصة الأخيرة في قلب الإمبراطورية المغولية، دعونا نخبركم القصة من بدايتها.
من هو مير جعفر؟
ولد كامل مير محمد جعفر خان الشهير بمير جعفر في أواخر القرن السابع عشر وتحديدًا خلال عام 1691 لأسرة لها أصول عربية، لا توجد الكثير من المعلومات عن حياته المبكرة ولكنه كان طموحًا للغاية وتواقًا بشدة إلى السلطة السياسية، ولهذا خدم في الجيش وظل يترقى في المناصب حتى وصل لرتبة جنرال كبير في الجيش البنغالي، وبسبب أطماعه السياسية تزوج ابنة الأمير سراج الدولة حاكم البنغال وأصبح أحد أهم قادته.
وقتذاك كانت الإمبراطورية المغولية في طور الضعف بعد سنوات طويلة من الازدهار بسبب سوء حكام الهند وتعرضهم للغزو الخارجي من بلدان مجاورة، ويخبرنا التاريخ دائمًا أنه خلال هذه الفترة من عمر الدول والإمبراطوريات عادة ما تكثر الخيانة والصراع على السلطة، إذ يتخلى الحكام شيئًا فشيئًا عن مسؤولياتهم تجاه شعوبهم ويفقدوا موقع الريادة والقوة لتقع الإمبراطورية بعد ذلك فريسة سهلة لأي محاولة تدخل أو استغلال.
شركة الهند الشرقية الإنجليزية تستغل ضعف الإمبراطورية المغولية
في أواخر القرن الـ16 حصل التجار البريطانيون من الملكة إليزابيث الأولى على الإذن بالإبحار في المحيط الهندي من وكان هذا الإذن يحمل وقتها تصريحًا ضمنيًا بسلب التجارة في المنطقة من يد الشركات الفرنسية والهولندية والإسبانية، وفي اليوم الأخير من عام 1600 حصل مجموعة من التجار على ميثاق مختوم من الملكة يخولهم التداول بصفة حاكم وشركة للتجارة مع جزر الهند الشرقية، وقد منحهم هذا الميثاق احتكارًا للتجارة من رأس الرجاء الصالح شرقًا وحتى مضيق ماجلان، وبذلك ولدت شركة الهند الشرقية الإنجليزية التي ستسيطر على أكثر من نصف التجارة العالمية لمدة قرنين ونصف من الزمان.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فشركة الهند الشرقية الإنجليزية كان لها جيشها الخاص الذي بلغت قوته بحلول عام 1800 ضعف قوة الجيش البريطاني، كما كان لها أيضًا قواتها البحرية التي ضمت أساطيل كبيرة من السفن، وطوال تاريخها ساعدت شركة الهند على انتشار التجارة العالمية كما أنها غذت مدينة لندن بالكثير من السلع ودفعت عجلة الثورة الصناعية في أوروبا وساهمت في ازدهار الاقتصاد البريطاني، إلا أن كل ذلك لا يمنع أنها كانت رمزًا لنهب واستغلال شبه القارة الهندية.
كانت بريطانيا تملك سلاحها السري متجسدًا في مير جعفر الذي كان يطمح للوصول لسدة الحكم
استغلت شركة الهند الشرقية الضعف الذي دب في أوصال الدولة المغولية وبدأت تتلاعب على خلافاتهم السياسية، إذ شرعت في إقناع الأمراء بتحقيق ثورات طائلة من وراء التجارة، كما بدأ البريطانيون في التعامل التجاري مع الهندوس لتقوية جانبهم على حساب المسلمين، وهذا ما جعل أحد الأمراء المسلمين يتحرك سريعًا لوقف التدخل البريطاني في شؤون شبه القارة الهندية.
الأمير سراج الدولة يقرر وقف التدخل البريطاني
بحلول عام 1756 بدأت حرب السبع سنوات بين فرنسا وبريطانيا، ومع خوض هاتين الدولتين نزاعًا استعماريًا محتدمًا بدأ عملاء الدولتين بالهند في مهاجمة بعضهم البعض، وهي الفرصة التي استغلها الأمير سراج الدولة، إذ انحاز للفرنسيين وطلب مساعدتهم للتخلص من التدخل البريطاني في بلاده.
حينذاك كان مقر شركة الهند الشرقية البريطانية في مدينة كالكتا الهندية، ولهذا بدأ الأمير سراج الدولة في مهاجمة مراكزهم التجارية الموجودة على الساحل، كما عمد إلى تحجيم امتيازاتهم التجارية وهو الأمر الذي رفضه البريطانيون ولذلك احتل سراج الدولة المدينة وكانت تلك بمثابة رسالة تهديد مباشرة لشركة الهند الشرقية البريطانية التي رأت أن هذا الأمير يهدد مصالحها وممتلكاتها والثروات الطائلة التي حققتها من فتح الأسواق الهندية.
معركة بلاسي
اعتبر البريطانيون أن ما فعله الأمير سراج الدولة يستحق الرد القوي ولهذا كلفوا الملازم البريطاني روبرت كلايف بمهاجمته في قرية بلاسي القريبة من مدينة كالكتا الهندية وكان ذلك يوم 23 من يونيو عام 1757، وكان قوام الجيش البريطاني وقتها نحو 3 آلاف جندي في حين كان جيش سراج الدولة يتكون من 50 ألف جندي ومع ذلك شخص واحد فقط تسبب في خسارة جيش سراج الدين ومهد لوقوع شبه القارة الهندية في يد الاحتلال البريطاني وهو الجنرال مير جعفر.
كانت بريطانيا تملك سلاحها السري متجسدًا في مير جعفر الذي كان يطمح للوصول لسدة الحكم، وعليه انضم مير جعفر في بداية المعركة لجيش الأمير سراج وفي منتصف القتال سحب جندوه وانضم للجيش البريطاني لتُحسم المعركة لصالح البريطانيين وهو الأمر الذي اضطر الأمير سراج للهرب حفاظًا على حياته ولكنه أُسر بعد وقت قصير ثم أُعدم بعد ذلك.
نهاية مملكة البنغال المستقلة
بعد المعركة تم تعيين مير جعفر أميرًا على البنغال محل سراج الدولة وهو اللقب الذي تاق إليه جعفر طوال حياته، والحقيقة أن جعفر لم يكن حاكمًا فعليًا أبدًا، إذ كان لعبة في يد مسؤولي شركة الهند الشرقية، ولم يمر عليه وقت طويل في السلطة حتى بدأ يدفع مبالغ هائلة لها وكان المستفيد الأكبر حينها هو الملازم البريطاني كلايف، إذ قُدرت الثروة التي حصل عليها من مير جعفر وقتها بنحو 401102 جنيه إسترليني الذي كان يعد مبلغًا ضخمًا للغاية في ذلك الزمان.
بمرور الوقت لم يتمكن جعفر من تلبية مطالب البريطانيين التي ازدادت وبعد عدة أعوام اكتشف الملازم كلايف أن جعفر عقد صفقة مع الهولنديين 1758 ولذلك عاقبه البريطانيون من خلال استبداله بزوج ابنته مير قاسم عام 1760، ولكن تبين بعدها أن مير قاسم أكثر استقلالًا من جعفر، إذ حاول أن يتحرر من قبضة البريطانيين من خلال تقوية مركزه كحاكم كما بدأ في تنظيم الجيش وفرض ضرائب جديدة لبناء اقتصاد البنغال وهو الأمر الذي أدى بالبريطانيين لعزله وإعادة مير جعفر للحكم مرة أخرى.
كانت لخيانة مير جعفر في معركة بلاسي دور كبير ومحوري في سقوط بلاده
استوعب جعفر الدرس جيدًا وبدأ في تقديم التنازلات للبريطانين تنازلًا تلو الآخر حتى أصبحت شركة الهند الشرقية هي الحاكم الفعلي للبنغال بشكل كامل، وإليكم كيف سار الأمر بعدها، بدأت الشركة في جمع الضرائب من التجار ثم استخدمت بذكاء جزءًا من عائدات تلك الضرائب في تمويل شراء البضائع الهندية من أجل الاستهلاك البريطاني، بعبارة أخرى وعوضًا عن دفع ثمن البضائع الهندية حصل التجار البريطانيون على تلك البضائع بالمجان.
ما الذي فعله مير جعفر؟
كانت لخيانة مير جعفر في معركة بلاسي دور كبير ومحوري في سقوط بلاده، فأولًا حصل الملازم كلايف على كل ما ينشده من بضائع وسلع وقوات وموالين من خلال جعفر، وثانيًا كانت البنغال الواقعة في يد جعفر الضعيف هي المعقل الذي هزمت منه بريطانيا إمبراطورية المغول المتداعية ومن هناك تحديدًا بدأ الاحتلال البريطاني للهند الذي دام أكثر من 200 عام بسبب تعطش شخص واحد للسلطة السياسية.