في الأول من مارس 1896 لقن الجيش الإثيوبي الإمبراطورية الإيطالية آنذاك درسًا قاسيًا في فنون القتال، حيث سقط في يوم واحد كبار قادة القوات الإيطالية وما يقرب من 5 آلاف مجند فيما عرف بمعركة “عدوة” وهي المعركة التي سميت على اسم المدينة التي وقعت بها، شمال إثيوبيا.
في تلك الأثناء حاولت إيطاليا غزو الدولة الإثيوبية التي كانت تعاني وقتها من اضطرابات سياسية وعسكرية، في محاولة للتحكم بمدخل البحر الأحمر، بعدما استولت منافستها بريطانيا على قناة السويس المصرية قبلها بعام واحد فقط، وبينما كان الطليان يعتقدون أنهم في نزهة عسكرية، إذ بهم يسقطون في فخ عسكري محكم كان له صداه في القارة الأوروبية فيما بعد.
هزيمة الإيطاليين في تلك المعركة كانت بمثابة انقلاب كبير في خريطة الاستعمار الإفريقي، حيث تبدلت ملامحها بصورة كبيرة، لتتصدر بريطانيا المشهد، لا سيما في منطقتي شرق إفريقيا والبحر الأحمر، فيما تراجعت قوى أخرى كانت تفرض هيمنتها على العديد من دول القارة.
تكتسب “عدوة” أهميتها الإستراتيجية كونها أول هزيمة عسكرية مؤثرة لقوة استعمارية أوروبية على يد قوة أخرى غير أوروبية منذ بدء الاستعمار، الأمر الذي كان له أثر كبير في معنويات سكان المستعمرات من سكانها الأصليين، فتصاعدت معها دعوات التحرر والاستقلال بعدما سقطت أسطورة الأوروبي الذي لا يقهر.
خلفية تاريخية
على مدار ثلاثة قرون ونصف تقريبًا، منذ القرن السادس عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، عانت إثيوبيا من حالة من الفوضى السياسية خلال عصر الأمراء الذي عرف بـ”زمن ميسافينت”، حيث ارتقى العرش أمراء ضعاف القدرة، متوسطو الإمكانات، ساعدهم في منصة الحكم جنرالات عسكريون أوروميون.
وسادت العداوة بين الأمراء حتى دخلوا في معارك جانبية أضعفت قدراتهم عامًا بعد الآخر، واستمر هذا الوضع حتى منتصف القرن التاسع عشر حين استولى الإمبراطور “كاسا” الذي سمي فيما بعد تواضروس إثيوبيا الثاني، على مقاليد الأمور، لتعود مركزية الحكم إلى الإمبراطورية مرة أخرى.
في تلك الفترة كان الاستعمار الأوروبي للقارة السمراء على أشده، فخاض الإثيوبيون معارك ضارية ضد كل من بريطانيا ومصر وإيطاليا، وحتى السودان الذي كانت تحكمه الثورة المهدية، وفي سبعينيات القرن التاسع عشر كان يتصارع على عرش إثيوبيا زعيمان كانا الأقوى في البلاد، هما يُحنى الرابع ومينليك.
وثقت كتب التاريخ تلك المعركة فيما بعد على أنها واحدة من أعظم المعارك بين إفريقيا وأوروبا
وخاص الزعيمان مواجهات عسكرية حامية الوطيس أسفرت في النهاية عن هزيمة مينليك، ليعترف بعدها بحق يحنى بالعرش واتفق الطرفان على زواج سياسي بين ابن يحنى وابنة مينليك، على أن يتولى مينليك السلطة بعد وفاة يحنى، وأن يعترف يحنى لمينليك بسلطته على الجنوب الإثيوبي الغني بالثروات المعدنية.
وفي معركة القلابات ضد الثورة المهدية في السودان، 1889، توفي يُحنى الرابع ليتولى مينليك السلطة، وعلى الفور بدأ في عقد اتفاقيات مع دول أوروبا لتزويده بالسلاح والعتاد من أجل التوسع في الجنوب الإثيوبي الغني، كما عمل على صنع علاقات دبلوماسية إيجابية مع القارة العجوز.
ترجمة خاطئة تشعل فتيل الحرب
بعد مؤتمر برلين سنة 1885 سال لعاب القوى الاستعمارية الأوروبية على تقاسم التورتة الإفريقية، من أجل توسعاتهم الاستعمارية، وعليه وقعت إيطاليا مع ملك إثيوبيا اتفاقية أوتشيالي في الـ2 من مايو 1889 التي كانت تهدف لتعزيز أواصر التعاون بين البلدين لا سيما في المجالات العسكرية.
شهدت الاتفاقية حالة نادرة من الأخطاء اللغوية التي كانت بمثابة شرارة الحرب بين إيطاليا وإثيوبيا، حيث اشتملت على بند يتعلق بإمكانية استعانة الإمبراطورية الإثيوبية بروما في العلاقات الخارجية، إلا أن الإيطاليين ترجموها على أنها إلزام على إمبراطور إثيوبيا الاستعانة بالحكومة الإيطالية في علاقته مع الحكومات الأخرى وهو ما أثار غضبه ليعلن فسخ الاتفاقية نهائيًا عام 1893.
الانسحاب الإثيوبي من الاتفاقية جرح كبرياء الإمبراطورية الإيطالية التي حشدت قواتها على الفور من أجل التقدم إلى الداخل الحبشي بعدما كانت متمركزة في ساحل البحر الأحمر بإريتريا، لتقع بعدها العديد من المعارك الهامشية بين جيشي البلدين، على رأسها معركة أمبالاجي (Amba Alaghe) التي وقعت في الـ7 من ديسمبر من نفس العام.
في تلك المعركة حاصر قرابة 30 ألف جندي إثيوبي وحدة عسكرية إيطالية صغيرة مكونة من نحو 2500 فرد، وقد تمكنوا من القضاء على نصفها تقريبًا فيما سقط النصف الآخر أسرى ورهائن، الأمر الذي أثار حفيظة الإيطاليين الذين استعانوا بحشود قوية إضافية استعدادًا لمعركة الثأر والانتقام.. وهنا كانت معركة عدوة الشهيرة.
عدوة وهزيمة الإيطاليين
أعد الإيطاليون جيشًا قوامه 20 ألف جندي مدججين بأحدث الأسلحة، بقيادة الجنرال صاحب الشهرة الكبيرة في هذا الوقت، باراتيري، الحاصل على وسام جديد من روما قبيل التوجه لإثيوبيا مباشرة، لكن عدم دراسة ميدان المعركة وسيطرة روح الانتقام على التخطيط المسبق كان له عامل السحر في حسم المعركة مبكرًا.
لم يدرس قادة الجيش الإيطالي طبيعة المناخ الصحراوي القاتل لمنطقة عدوة شمال البلاد، فارتدى الجنود اللباس الشتوي الثقيل، وهو المعتاد لساحة القتال في أوروبا، غير أنه كان الكارثة للجنود الذين سيقاتلون في أدغال إفريقيا حيث درجة الحرارة المرتفعة.
علاوة على ذلك انطلق باراتيري وجنوده دون خطة استخباراتية محكمة ولا خرائط دقيقة لإحداثيات المعركة، ليتفاجأ بجيش جرار قوامه مئة ألف إثيوبي من مختلف الأعراق والمناطق في انتظارهم، ومع أول يوم من أيام المعركة سقط من الجيش الإيطالي 4 آلاف جندي، وهي الخسارة الكبرى لقوى أوروبا الاستعمارية، فيما قُتل جنرالان وأسر الثالث.
يوثق متحف عدوة أحداث المعركة الخالدة وخطة القتال، بجانب احتوائه على أسلحة وصور القادة من الجانبين
الفضيحة التي مني بها الإيطاليون في تلك المعركة، دفعت روما إلى الجلوس على مائدة الحوار مع الجانب الإثيوبي الذي فرض شروطه بقسوه بالغة، لتتراجع إيطاليا عن بعض بنود اتفاقية أوتشيالي الموقعة سابقًا، وألغت البند الذي كان يعتبر إثيوبيا محمية إيطالية واعترفت باستقلال إثيوبيا التام، بعد أن دفعت لها مبلغًا يقدر بخمسة ملايين دولار ذهبًا.
وثقت كتب التاريخ تلك المعركة فيما بعد على أنها واحدة من أعظم المعارك بين إفريقيا وأوروبا، حيث شكلت وقتها صدمة كبيرة للرأي العام الأوروبي وللطبقة السياسية الحاكمة هناك، وأسقطت العديد من المعتقدات الواهية بشأن ضعف قدرات القارة السمراء في التصدي للقوى الاستعمارية البيضاء، فضلًا عن إلحاق الهزيمة بها وتجريدها من عتادها وقواتها.
شهادة للتاريخ
في شهادة للتاريخ استعرض سيف لوكاسا، عضو البرلمان الإثيوبي، ذكرياته مع جده الأكبر هاي لوكاسا الذي كان جنديًا تحت قيادة قائد الحرب منغيشا يوهنس في معركة عدوة التاريخية التي وضعت حدًا للتوغل الإيطالي في الأراضي الإثيوبية قبل أكثر من 120 عامًا.
لوكاسا في شهادته التي أدلى بها لقناة “الجزيرة” أشار إلى أن جده الكبير كان جنديًا شجاعًا، وأصيب برصاصتين في المعركة، لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن القتال، وكان له دور كبير في أسر أحد الجنرالات الايطاليين الكبار، فضلًا عن الخسائر التي كبدها هو ورفاقه للجيش الإيطالي.
وفي حديثه أوضح أن عدوة لم تكن معركة متكافئة بين الإيطاليين المستعمرين بمدافعهم وأسلحتهم مقابل الإثيوبيين الذين لا يملكون إلا سيوف بدائية لكن عزيمتهم وشجاعتهم حرمت الاستعمار من دخول إثيوبيا، فكانوا رمزًا إفريقيًا للتحرر أشعل شرارة الحرب على الاستعمار في عموم القارة، على حد قوله.
ويوثق متحف عدوة أحداث المعركة الخالدة وخطة القتال، بجانب احتوائه على أسلحة وصور القادة من الجانبين، كما يشتمل كذلك على الأسلحة الإيطالية التي استولى عليها الجيش الإثيوبي، وفي الإطار ذاته يستعرض المتحف في وثائقه الدور الذي أداه الشيوخ والنساء في تمريغ أنف الإيطاليين الغزاة في التراب.
وكان لتلك المعركة على وجه الخصوص أهمية كبرى في الصراع بين القوى الاستعمارية على إفريقيا، حيث كفلت سيادة بريطانية شبه كاملة على أجزاء كبيرة من القارة دون منافسة، إضافة إلى أنها كفلت استقلالًا فريدًا من نوعه لإثيوبيا، إذ كانت الدولة الوحيدة المستقلة (إلى جانب ليبريا المحافظة على استقلالها في إفريقيا وقتئذ) إلى أن غزتها بريطانيا بعد ذلك بعقود.
وفي النهاية لعبت “عدوة” دورًا محوريًا في إظهار الحجم الحقيقي لإيطاليا كقوة استعمارية، ما دفعها للتخلى عن كثير من أحلامها الإفريقية والاكتفاء بفتات المائدة، لتترك الساحة خالية بعد ذلك للقوى الاستعمارية الأخرى التي كانت في مقدمتها بريطانيا، تلتها فرنسا وقوى أخرى فيما بعد.