أثارت القرارات التي أخذتها لجنة “إزالة آثار التمكين” المشكّلة من المجلس السيادي الانتقالي السوداني، لتفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير ومحاربة الفساد واسترداد الأموال، حالة من الجدل داخل الشارع السوداني، لا سيما بعد مصادرتها وحلها للعديد من المؤسسات والمنظمات ذات الطابع الإنساني “للاشتباه” في تبعيتها للنظام السابق.
ورغم القرارات التي اتخذتها اللجنة منذ بداية عملها نهاية العام الماضي، فإن حلها لمنظمة الدعوة الإسلامية ومصادرة الشركات التابعة لها وأيلولة أصولها لصالح وزارة المالية السودانية، كانت المحطة الأكثر جدلًا، حيث لقي القرار ردود فعل واسعة في المشهد السوداني.
وفي الوقت الذي هددت فيه المنظمة وآلاف المتضررين من قرار الحل باللجوء إلى القضاء في مواجهة تحركات اللجنة، أعلن وزير العدل السوداني سلامة الإجراءات التي اتخذتها اللجنة قانونيًا، فيما أكد المقربون من قوى الحرية والتغيير ضرورة مواصلة عمل اللجنة من أجل تصحيح المسار الثوري والتخلص من ذيول النظام السابق.
وتعمل لجنة “إزالة آثار التمكين” وفق قانون تفكيك نظام الإنقاذ الذي أجازه المجلس السيادي ومجلس الوزراء في السودان في 28 من نوفمبر 2019، ويقضي بتفكيك نظام الرئيس السابق عمر البشير وإزالة تمكين حزب المؤتمر الوطني الذي حكم السودان لمدة 30 عامًا.
وقد تضمن القانون المشكل عددًا من البنود منها: تكوين لجنة باسم “تفكيك نظام الإنقاذ” مقرها مجلس الوزراء يرأسها أحد أعضاء مجلس السيادة وحل حزب المؤتمر الوطني وحذفه من سجل التنظيمات والأحزاب السياسية وحل كل الواجهات الحزبية والمنظمات التابعة له أو لأي شخص أو كيان يعتبر من نتائج التمكين ومصادرة ممتلكات وأصول الحزب لصالح الحكومة، إضافة إلى حل النقابات والاتحادات المهنية وأصحاب العمل التي تمثل واجهات للحزب.
تصحيح المسار
اللجنة في تنفيذ قرارات المصادرة أشارت إلى أن ما تفعله هو تصحيح للمسار الثوري وتطهير للأرضية الثورية التي انطلق السودانيون منها في 19 من ديسمبر 2018 للإطاحة بنظام البشير، لافتة إلى أن كل تحركاتها تهدف إلى استرداد أموال الشعب السوداني وعودة الحق لأصحابه.
ومع أول حزمة قرارات طبقتها اللجنة في يناير الماضي، حين صادرت بعض المؤسسات الإعلامية، بررت موقفها بأن تلك الخطوة هدفها استرداد أموال الشعب إلى وزارة المالية، ومؤكدة “قرارات التحفظ على الحسابات والمنقولات للمؤسسات الإعلامية، لا علاقة لها بالخط التحريري، وإنما بمراجعة الحسابات”.
وكانت السلطات السودانية قد فرضت سيطرتها على مقرات قناتي “الشروق” و”طيبة” وصحيفتي “الرأي العام” و”السوداني” وجمعية “القرآن الكريم”، فيما أكد عضو لجنة إزالة التمكين، الرشيد سعيد، “نتحدى أن يكون هناك صحفي تدخلنا في عمله أو ضغطنا عليه أو أي صحيفة أو مؤسسة إعلامية مملوكة للدولة”.
“التحالف يعمل على إحلال التمكين الذي كان سائدًا في نظام الإنقاذ، بتمكين عناصره في القطاع الحكومي وشركاته المختلفة” رئيس حركة تحرير السودان
من جهته، أوضح عضو اللجنة، وجدي صالح، قائلًا: “قرارات التحفظ على الحسابات والمنقولات للمؤسسات الإعلامية، لا علاقة لها بالخط التحريري، وإنما بمراجعة الحسابات، وما زلنا نواصل تحرياتنا عن المصارف والشركات أو أي واجهات فساد للحزب الحاكم السابق”، منوهًا إلى أن قناة “الشروق” تأسست بموجب أموال صادرة من رئاسة الجمهورية تُقدر بعشرات الملايين من اليوروهات، وسجلت باسم رجل الأعمال جمال الوالي وآخرين.
وأضاف أن “مديونية القناة تبلغ مليونًا و200 ألف دولار، كما تم بيع الأرض المخصصة للقناة والسيارات، والديون لا بد أن يدفعها من تسببوا فيها”، أما فيما يتعلق بجمعية القرآن الكريم فأوضح أنها “تصرف شهريًا 570 ألف جنيه (12 ألف دولار)، بشكل عادي، وهي عبارة مبنى متعدد الطوابق وفندقين، و100 سيارة، وتتلقى دعمًا دوريًا من الرئاسة وديوان الزكاة، واكتشفنا منجمًا لتعدين الذهب بالولاية الشمالية يعمل لصالحها”.
تمكين ضد الدين
مصادرة المنظمات الدينية الخيرية كان له تأثير سلبي لدى قطاع كبير من السودانيين، ممن أشاروا إلى أن هذا الإجراء سينعكس سلبًا على ذوي الحاجة ومحدودي الدخل، وهو ما أوضحه الأكاديمي والخبير الإستراتيجي البروفيسور كمال أحمد يوسف الذي أكد أن حلّ منظمة الدعوة الإسلامية على سبيل المثال، سيحرم السودان من خدمات المنظمة بأذرعها الإقليمية والدولية في المجالات الدعوية والإنسانية.
يوسف في تصريحات صحفية له اتهم اللجنة بالعمل على التمكين ضد الدين، متسائلًا عن موقف اللجنة من المنظمات الكنسية، وقال “كان ينبغي على لجنة إزالة التمكين أن تُبعد العاملين فاقدي الكفاءة الوظيفية لا أن تحل المنظمة والشركات التابعة لها”.
ورغم تأكيد اللجنة عدم الإضرار بحقوق العاملين في المؤسسات التي تمت مصادرتها أو الحجز عليها، فإنه ومع مضي أكثر من أربعة أشهر، ما زال العاملون في هذه المؤسسات يعانون من عدم صرف رواتبهم أو استحقاقاتهم المالية، بحسب شهادات بعضهم.
الفقراء ومحدودو الدخل هم الأكثر تضررًا من هذه القرارات، الأمر يتشابه إلى حد كبير بما قام به النظام المصري بحق جمعيات المجتمع المدني
وفي سياق آخر، اتهم البعض تحالف قوى الحرية والتغيير بتوظيف لجنة التمكين لصالح أهدافه الخاصة، حيث قال رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي إن التحالف يعمل على إحلال التمكين الذي كان سائدًا في نظام الإنقاذ، بتمكين عناصره في القطاع الحكومي وشركاته المختلفة، معتبرًا أن هذه الخطوة جريمة وطنية أخرى “يتحملها أولئك الذين صممهم تحالف قوى الحرية والتغيير لعبور المرحلة الانتقالية وتحميلهم المسؤولية”.
وتحت عنوان “تفكيك النظام.. الوجه الآخر للتمكين” استعرضت صحيفة “الانتباهة” السودانية عمليات الإحلال والإبدال الواسعة التي يقوم بها تحالف قوى التغيير على مستوى الخدمة المدنية والمؤسسات والإدارات بالدولة، وحل أعداد مقدرة من المنظمات، متسائلة عن أبعاد موقف التحالف: أهو إعادة سيناريو جديد للتمكين الذي مارسته جبهة الإنقاذ أم حالة تغيير طبيعي تواكب الوضع الثوري الذي تمر به البلاد في الوقت الراهن؟
الفقراء.. أكبر الضحايا
وفي الجهة الأخرى فإن الفقراء ومحدودي الدخل هم الأكثر تضررًا من هذه القرارات، الأمر يتشابه إلى حد كبير ما فعله النظام المصري بحق جميعات المجتمع المدني، فمن خلال القانون الصادر قبل 3 أعوام والخاص بإعادة تنظيم العمل الأهلي تم غلق ومصادرة مئات الجمعيات الخيرية.
المبرر التي ساقته الحكومة والبرلمان آنذاك هو “تجفيف منابع الإرهاب” غير أن الواقع المعاش هو قطع المساعدات عن ملايين الأسر الفقيرة التي كانت تعتمد على ما يصلها من تلك الجمعيات الخيرية، الأمر الذي فاقم الأوضاع المعيشية في مصر بصورة غير متوقعة، وفقدان المجتمع السند الخيري الذي كان يؤدي دور الدولة في وقت الأزمات، ولعل هذا أبرز أسباب تفاقم الأزمة المجتمعية الراهنة في مصر.
تضرر 2117 مستفيدًا خلال شهر واحد، بسبب مصادرة جمعية ذي النورين، إضافة إلى آلاف المستفيدين من الأيتام والأرامل والمرضى والفقراء والمساكين ممن كانت تعولهم المنظمة ماديًا وعينيًا
الأمر ذاته يتطابق في السودان بصورة أو بأخرى، وهو ما كشفته تصريحات المسؤولين عن الجمعيات الخيرية التي صُودرت، فعلى لسان مدير المشروعات بمنظمة “ذي النورين” الخيرية مرتضى عمر، تضرر 2117 مستفيدًا خلال شهر واحد، بسبب مصادرة الجمعية، إضافة إلى آلاف المستفيدين من الأيتام والأرامل والمرضى والفقراء والمساكين ممن كانت تعولهم المنظمة ماديًا وعينيًا.
وأضاف عمر في تصريحات له أن المنظمة كانت تدعم 710 أيتام شهريًا بواقع 2750 جنيهًا لكل يتيم (نحو 60 دولارًا)، وتجري أكثر من 30 ألف عملية غسيل لمرضى الكلى في الشهر مجانًا، وأنه لا علاقة لها بنظام البشير لا من قريب أوبعيد، وهو ما لا تأخذ به السلطات السودانية.
فيما تروي ناهد عوض الله – أم لثمانية أيتام – قصة الضرر الذي لحق بأسرتها جراء قرار إلغاء المنظمات الخيرية والإنسانية، مشيرة أن منظمة “ذي النورين” الخيرية، كانت تكفل أبناءها الثمانية، وتوفر لهم كل المستلزمات الخاصة بالمأكل والملبس، إضافة إلى دفع إيجار المنزل ومصروفات أربعة من الطلاب الذين يدرسون في كليات الطب والهندسة والشريعة والقانون، بجانب أربعة آخرين ما زالوا في المرحلة الأساسية.
وأضافت “حمدت الله على إغلاق المدارس والجامعات بسبب الإجراءات الاحترازية لاحتواء جائحة كورونا”، مشيرة إلى أنها فشلت خلال الشهور الماضية في سداد أقساط المدارس والجامعات، فيما توقعت الأسوأ حال استمرار قرار الإغلاق، إلا إذا أوفت مفوضية العمل الطوعي ووزارة الرعاية الاجتماعية بالتعهدات ورفعت الحظر عن المنظمات.
تلويح بالمقاضاة
ردًا على قرار حلها وإلغاء تسجيلها لوحت “منظمة الدعوة الإسلامية” بمقاضاة لجنة “إزالة التمكين”، جاء ذلك في بيان صادر عن الأمانة العامة للمنظمة التي تعد من أبرز المنظمات الإغاثية غير الحكومية العاملة على الساحة الدولية، وخاصة في القارة الإفريقية.
المنظمة في بيانها قالت: “تلقت الأمانة العامة بكل أسف نبأ قرار لجنة إزالة التمكين القاضي بحل المنظمة والتوصية بإلغاء قانون المنظمة ومصادرة أصولها وممتلكاتها والمؤسسات التابعة لها، دون أن تخطر المنظمة رسميًا بذلك”، معتبرة أن “القرار لم يراع الجانب الإنساني والاجتماعي من عمل المنظمة، الذي يؤثر مباشرة على حياة آلاف السودانيين الذين يستفيدون من خدمات المنظمة”.
وأشارت إلى أنها “ستعمل على مناهضته عبر رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية باعتبارهما السلطات المباشرة التي تتعامل معها المنظمة”، لافتة أنه في ذات الوقت ستحمل اللجنة المسؤولية الكاملة عن أي أضرار لحق بأصول المنظمة وممتلكاتها، وتحتفظ بحقها القانوني في المقاضاة لإلغاء القرار والتعويض عن الأضرار المعنوية والمادية التي لحقت بها.
المنظمة استعرضت بعض أنشطتها الأعوام الماضية، موضحة “خلال السنوات الـ40 الماضية من عمرها قدمت المنظمة أعمالًا إنسانية جليلة في 56 دولة حول العالم منها 42 دولة إفريقية، واستفاد من خدمات المنظمة التعليمية والصحية والتنموية والخدمية أكثر من 100 مليون إفريقي”.
واختتمت بيانها مؤكدة أنها تدرك أن دولة المقر يحق لها التحلل من اتفاق المقر والطلب من المنظمة مغادرة السودان والبحث عن مقر بديل، لكن يجب أن يتم ذلك وفق أعراف دبلوماسية معروفة تسمح للمنظمة التصرف في أصولها وممتلكاتها، على حد قول البيان المنشور.
وبين تأكيد مشروعية عمل لجنة إزالة التمكين واستنادها إلى الدفاع عن ثروات وأموال الشعب السوداني واستردادها من النظام السابق من جانب، والتداعيات السلبية المترتبة على مثل هذه التحركات لا سيما على البعدين الإنساني والمجتمعي، إضافة إلى التشكيك في دوافع التمكين من جانب آخر، يبقى الفقراء وحدهم – كالعادة – ضحايا مثل هذه الصراعات.