انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعى مقاطع فيديو من مختلف المدن الإيطالية، يغني فيها الإيطاليون من شرفات منازلهم في أثناء الحجر الصحي المفروض على البلاد، مما ألهم بقية مدن العالم للخروج أيضًا إلى شرفاتهم بعد أن باتت بوابتهم الوحيدة إلى العالم الخارجي في ظل سياسة العزل الذاتي المفروضة في معظم دول العالم.
وذكّرت الأزمة الحاليّة التي يخوضها العالم في أثناء محاربة فيروس كورونا بأهمية الشرفة ودورها كجسر عبور من خصوصية المنزل إلى المجتمع الخارجي، فما الأدوار المختلفة التي يمكن أن تلعبها هذه المساحة الصغيرة في بيت كل منا؟ وكيف يمكن لطريقة بنائها أن تعبر عن ثقافة البلد وطبيعته؟
نبذة تاريخية
يرجح علماء الآثار تاريخ اختراع الشرفات إلى عام 3000 قبل الميلاد فيما يعرف حاليًّا بدولة إيران، حيث عمد الناس إلى بنائها للاستفادة من ظلالها والاحتماء بها من حر الشمس في الطرقات، وفي 1400 قبل الميلاد، بدأ انتشارها في اليونان لهدف معاكس، وهو الحصول على ضوء الشمس داخل المنزل وزيادة التهوية.
أما القوانين المدنية الحديثة اليوم في معظم الدول العربية والغربية، تتضمن مجموعة من القواعد التي ينص القانون على اتباعها عند بناء الشرفات للمباني.
الدور الاجتماعي
أدّى الغزو التكنولوجي وانتشار الهواتف الذكية وغيرها من وسائل التسلية والتواصل الحديثة إلى تراجع مكانة الشرفات في حياتنا، ولكنها لعبت في السابق دورًا مهمًا في الحياة الاجتماعية عمومًا وفي عالمنا العربي خصوصًا، بسبب طبيعة الحياة الاقتصادية التي لم تفرض على شريحة واسعة من النساء العمل خارج المنزل، واللاتي اعتدن بدورهن استخدام هذه الفسحة لعقد الجلسات النسائية في الهواء الطلق، في محاولة لكسر روتين الحياة اليومية داخل المنزل ومراقبة العالم الخارجي من نقطة مريحة داخل منازلهن.
ومن جهة أخرى، نظرًا لقرب المسافة الشديد بين الشرفات في بعض الأحياء، كانت بعض الزيارات الصباحية تعقد أحيانًا بين النساء على الشرفات، كل منهن في منزلها، مما يوضح أهمية الشرفة وقدرتها على توطيد العلاقات الاجتماعية والتعارف وخلق الصداقات الجديدة بحال تم استخدامها عوضًا عن البقاء في عزلة المنزل.
ولذلك تلقى هذه المساحة اهتمامًا كبيرًا لدى البعض، كونها نافذة مطلة على العالم الخارجي ومتنفسًا يمكن استخدامه هروبًا من الغرف المغلقة.
وفي هذا السياق يمكن ذكر طرق أخرى يتم استخدام الشرفات فيها حتى يومنا هذا، مثل غرض الدراسة تحت ضوء الشمس مباشرة أو التدخين أو شرب القهوة أو تناول الطعام أو حتى النوم والاسترخاء في بعض الأحيان، بالإضافة إلى تجفيف الملابس وبعض أنواع الأطعمة وغيرها من المهام التي يمكن للشرفة أن تلبيها إذا تم النظر إليها بطريقة إبداعية.
كما كانت “البلكونة” أو كما تسمى أيضًا في بعض البلاد العربية “البرندة” مكانًا مرتبطًا بالتسلية والترفيه عند الأطفال، حيث يمكنهم الجلوس واللعب والمرح ليلًا أو نهارًا، ولكن مع بدء اكتظاظ المباني تزايدت شكاوى الجيران من الضجيج من جهة، وزاد تخوف الناس من التعرض لـ”التلصص” من جهة أخرى، فانسحب الناس إلى داخل بيوتهم تدريجيًا واختفى دور الشرفة كمصدر تسلية ومرح لتجنب إزعاج الجيران، وحولوها إلى ما يشبه المستودع لتخزين الأغراض الزائدة التي لا يمكن الاحتفاظ بها داخل الشقة، كل هذا بالإضافة إلى انصراف الناس إلى أجهزتهم المحمولة، فتحولت الشرفات من مكان ينبض بالحياة إلى زاوية مهملة من المنزل.
مع العلم أن تنسيق الشرفات وترتيبها والاعتناء بمظهرها الخارجي يساهم بتجميل مظهر البناء والحي ككل، ويعكس مدى اهتمام السكان بجمالية مظهر شققهم الخارجي، ويضفي لمسة حضارية وحيوية على المكان، والجدير بالذكر أن أصحاب الشقق ببعض الدول الغربية يحظرون استخدام الشرفة كمكان تخزين، ويتم إرسال تنبيه للمستأجر في حال تجاوزه هذا القانون، كما يُمنع أيضًا الشواء أو غيره من النشاطات التي قد تزعج السكان أو تشوه المظهر الخارجي للبناء.
ومن الملفت أن تلاشي الاهتمام بتنسيق الشرفات وتراجع دورها الاجتماعي انعكس بدوره على طريقة البناء، حيث لم تعد تلقى هذه المساحة من المنزل اهتمام المهندسين في كثير من الأحيان، وتقلصت مساحتها لتستخدم بتوسيع المنزل من الداخل، فتحول هذا الفناء بجماليته الداخلية والخارجية إلى مجرد علب أسمنتية صغيرة.
وتميزت طريقة بناء الشرفات قديمًا في البلاد العربية، بسبب وجود الثقافة الإسلامية المحافظة بطبيعتها، حيث توجد الشرفة في عمق المنزل عادةً، بعيدًا عن المكان الرئيسي لوجود أفراد الأسرة، تجنبًا لاحتمالية ظهورهم إلى الخارج، كما انتشرت ظاهرة إغلاق الشرفة بالزجاج أو القش اللذين يسمحان بمرور الضوء أو الهواء إلى الداخل ويحجبان القدرة على الرؤية من الخارج وبالتالي اختراق الخصوصية.
كما نشأ قديمًا فن عمارة إسلامي خاص بالشرفات وهو ما يسمى “المشربية“، ويصعب تحديد الزمن الذي ظهرت فيه المشربية على وجه الدقة، لكن ما يمكن تأكيده أن عمليات تطويرها وتحسين أدائها لم تتوقف لمئات السنين، حيث انتشرت المشربية في الفترة العباسية (750-1258) واستخدمت في القصور والمباني على نطاق واسع، إلا أن أوج استخدامها كان في العصر العثماني، حين وصلت إلى أبهى صورها وانتشرت انتشارًا شبه كامل في العراق والشام ومصر والجزيرة العربية، وذلك لأن استخدامها في مختلف المباني أثبت فعالية كبيرة في الوصول إلى بيئة داخلية مريحة وفعالة رغم الظروف الخارجية شديدة الحرارة.
إحدى المشربيات من الداخل
مشربية من الخارج
الدور السياسي
لطالما كانت الشرفات جزءًا لا يتجزأ من الحياة السياسية، سواء كانت في منازل المواطنين أم قصور الحكام، كونها جسر العبور إلى المجتمع الخارجي.
استخدم زعماء المصريين القدماء الشرفات للظهور أمام شعوبهم، وكرر هذه الممارسة مئات الأباطرة والملوك من بعدهم، كما استخدمت لاحقًا للإعلان المنعطفات التاريخية المهمة، حيث استخدمها كل من هتلر ووينستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية، وما زالت العائلة الملكية البريطانية تستخدم شرفة القصر للظهور أمام الشعب حتى اليوم.
أما في سوريا فقد كان للشرفات دور مهم في بداية الانتفاضة الشعبية، ففي عام 2011 وفي أثناء أولى المظاهرات التي شهدتها مدينة بانياس السورية، صعد شرفة فرع الأمن الشيخ أنس عيروط ليلقي بيان مطالب المحتجين.
وفي مدن أخرى استخدمت الشرفات للمشاركة بتشييع الشهداء ورمي الورود والأرز على الشهيد والمشيعين، بالإضافة إلى ترديد الشعارات معهم، في مشهد فريد يجسد تكاتف مجتمع كامل.
الدور الصحي والإنساني
مع تطور الحياة وانتقال الشريحة الأكبر من الناس للعيش ضمن شقق ضيقة نسبيًا، والاختفاء التدريجي للمنزل العربي التقليدي بساحته الواسعة، استعاض الناس بالشرفة لتهوية المنزل وتشميس بعض المفروشات، بالإضافة إلى استغلال مساحتها للقيام بأعمال البستنة البسيطة بما يشمل زراعة الورود والنباتات الورقية وغيرها مما يمكن زراعته ضمن الأحواض الصغيرة، لتحتل الشرفة بذلك مكانة الحديقة المنزلية في عالمنا الحديث.
وخلال الأزمة الصحية الأخيرة التي يعيشها العالم، عاد الناس إلى الشرفات من جديد، إما للغناء والموسيقى بهدف تخفيف آثار الوحدة التي يعيشها الجميع، أو لتحية الطواقم الطبية التي تعمل على الخطوط الأمامية لمحاربة الوباء أو لغيرها من الأسباب التي أشرنا لها في هذا التقرير من قراءة أو تبادل أطراف الحديث أو البستنة وسواها.
أعادت الأحداث التي يشهدها العالم حاليًّا اهتمام الناس بالشرفات وتقديرهم لأهميتها كمساحة اجتماعية مهمة وحلقة وصل مع المحيط الخارجي، بالإضافة إلى كونها فناءً يتيح الكثير من الفرص التي يمكن استخدامها لتحويل هذه الساحة الصغيرة إما إلى حديقة مصغرة أو ركن للدراسة أو العمل أو مكتبة صغيرة، فهل تنجح هذه الأزمة بإنعاش دور الشرفة الاجتماعي من جديد؟