ترجمة وتحرير: نون بوست
بكل المقاييس، كان عهد الرئيس جيمي كارتر باهتًا. كان الأمريكيون يشعرون بالاستياء على المستوى الداخلي، وبالسخط من سلسلة الإخفاقات الكبيرة في الخارج، وأبرزها أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران، وغزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان. مع ذلك، فإن هاتين الأزمتين هما من أفرزتا “عقيدة كارتر” التي خدمت مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها بالشكل الأمثل منذ ذلك الوقت. ارتكزت عقيدة كارتر على التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حقول النفط في الخليج العربي ضدّ التهديدات الخارجية.
بعد ذلك، واصل خلفه رونالد ريغان، اعتماد هذه الاستراتيجية التي أضحت تُعرف فيما بعد باسم”مبدأ ريغان”، والذي تلتزم فيه واشنطن بالدفاع عن سلامة نقل نفط الخليج ضد التهديدات من داخل الشرق الأوسط. منذ ذلك الوقت، أدركت كل من الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة أن دور الولايات المتحدة في حماية صادرات النفط الخليجية يشكل عنصرًا حاسمًا في النظام الدولي الذي بنته الولايات المتحدة بعد سنة 1945، وهو نظام جعل أمريكا أقوى وأكثر أمانًا وازدهارًا، مما كان يمكن أن تكون دونه.
في صيف 2019، ألقى الرئيس دونالد ترامب تحالفات الولايات المتحدة مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي عرض الحائط. بخروجه من الاتفاق النووي الإيراني وفرض “ضغوط قصوى” على طهران على المستوى الاقتصادي، دفع ترامب الإيرانيين إلى مهاجمة دول الخليج وصادراتها النفطية.
خلال أشهر أيار/مايو وحزيران/يونيو وتموز/يوليو 2019، حدثت هجمات على ست ناقلات نفط، ووقع احتجاز اثنتين أخريين، ونُفذت هجمات صاروخية من العراق واليمن، وهجمات بطائرات مسيرة على المطارات السعودية. بينما لم يصدر أي موقف من الولايات المتحدة حيال كل ذلك. الأسوأ من ذلك، أن ترامب وكبار موظفيه أكدوا بشكل علني أنهم لا يعتبرون الهجمات الإيرانية على حلفائنا الخليجيين تهديدات للمصالح الحيوية للولايات المتحدة.
خلال شهر أيلول/سبتمبر، اعتبر كثيرون أن إيران تجاوزت حدودها عندما شنت هجوما بطائرات مسيرة وصواريخ كروز على منشأتي بقيق وخريص البتروليتين في المملكة العربية السعودية. ( نفت إيران مسؤوليتها عن الهجوم، في حين تبناه المتمردون الحوثيون المدعومون من إيران ). مرة أخرى، لم يتخذ ترامب أي إجراء، ليقوّض بذلك العقيدة الأساسية التي قامت عليها استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الخليج العربي.
يبدو أن مقاربة بما تثيره من أسئلة حيال التزام الولايات المتحدة بأمن الخليج، ستترتب عليها عواقب وخيمة. فهذه المقاربة، تهدد بزعزعة استقرار المنطقة التي تعيش أصلا وضعا مضطربا، وستُضعف الموقف الدبلوماسي الأمريكي تجاه طهران، وتزيد من حجم التهديدات التي تحاول إدارة ترامب تجاهلها. في الواقع، يزيد تخلي ترامب عن عقيدة كارتر من فرص طهران في تحقيق أكبر نصر استراتيجي لها منذ الثورة الإسلامية، وهو أمر ما يزال من مصلحة الولايات المتحدة تقويضه.
أربعة عقود من النجاح.. عرض الحائط
في الواقع، كانت سنة 1979 سنة صاخبة في الشرق الأوسط. فقد أدى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، واقتحام السفارة الأمريكية في طهران، والغزو السوفيتي لأفغانستان، والغضب العربي من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وتولي صدام حسين رئاسة العراق، والهجوم على المسجد الحرام في مكة، إلى وضع المنطقة على حافة الفوضى وخلق تهديدات جذرية جديدة.
علاوة على ذلك، كانت الاحتجاجات العارمة في الشارع الإيراني عقب هروب الشاه وتجاهل الخميني للفساد المستشري في قطاع النفط، قد تسببا في إلى انخفاض إنتاج النفط الإيراني إلى أقل من ربع المستوى الذي كان عليه قبل الثورة. أدى ذلك إلى زيادة نسب التضخم والبطالة في الغرب. وأجبر نقص إمدادات الوقود في تلك الفترة الأمريكيين على الوقوف في طوابير لساعات من أجل التزود بالبنزين. ساءت الأمور إلى درجة أن كارتر الذي كان يفضّل الصمود في وجه الأزمة بدلا من اتخاذ تدابير عسكرية، اضطر إلى التحرك.
في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه في شهر كانون الثاني/ يناير 1980، أعلن كارتر أن الولايات المتحدة ستستخدم القوة لحماية حقول النفط في الخليج العربي ضد الغزو الخارجي. في ذلك الوقت، كانت هذه الاستراتيجية التي أصبحت تُعرف لاحقا باسم “عقيدة كارتر” موجهة بالأساس للتصدي الاتحاد السوفيتي. كان السوفييت حينها على حدود إيران، ولديهم عشرات آلاف الجنود في أفغانستان المجاورة.
بعد فترة وجيزة من انتهاء الصراع بين إيران والعراق، واجه صدام تحديا أمام مبدأ ريغان عندما غزت قواته المسلحة الكويت
كشفت أزمة النفط الإيراني مدى أهمية نفط الخليج بالنسبة للدول الغربية، وكانت الولايات المتحدة تخشى من أن يستغل السوفييت فوضى الثورة الإيرانية لفرض هيمنتهم على حقول النفط في المنطقة. ولتعزيز الالتزام الجديد، أنشأ كارتر قوة عسكرية تحوّلت لاحقا إلى ما يُعرف بالقيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط، وأوكلت لها مهام الدفاع عن صادرات النفط في المنطقة.
مع ذلك، سرعان ما اتضح أن التهديدات يمكن أن تأتي من داخل المنطقة نفسها. خلال شهر أيلول/ سبتمبر 1980، غزا العراق إيران. ومنذ بداية الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثماني سنوات، شنّ الطرفان هجمات متبادلة على المنشآت النفطية ومرافق التصدير. وفي سنة 1987، وسّعت إيران دائرة الصراع، مستهدفة صادرات دول مجلس التعاون الخليجي بسبب دعمها للعراق. وبعد الكثير من الجدل، أطلقت الولايات المتحدة عملية “إيرنست ويل” ردا على الهجمات الإيرانية، وكانت تقضي بمرافقة ناقلات النفط الكويتية التي تعبر الخليج.
لم تتراجع إيران، وقامت بمهاجمة ناقلات النفط والسفن الأمريكية التي كانت ترافقها، وهو ما أدّى إلى اندلاع حرب بحرية جوية في مياه الخليج دمرت خلالها القوات الأمريكية معظم سلاح البحرية الإيرانية. وهكذا أُلحق مبدأ ريغان بعقيدة كارتر، وكان مبدأ ريغان ينص على أن الولايات المتحدة ستدافع عن صادرات النفط الخليجية ضد جميع التهديدات العسكرية، سواء من داخل المنطقة أو خارجها.
بعد فترة وجيزة من انتهاء الصراع بين إيران والعراق، واجه صدام تحديا أمام مبدأ ريغان عندما غزت قواته المسلحة الكويت. ردّت الولايات المتحدة بعمليات درع الصحراء وعاصفة الصحراء، ونشرت أكثر من 600 ألف جندي ونحو نصف قواتها القتالية في جميع أنحاء العالم للدفاع عن المملكة العربية السعودية وتحرير الكويت. علاوة على ذلك، قامت إدارة الرئيس جورج بوش الأب بتدمير القوة العسكرية العراقية بشكل شبه كامل لوضع حد لقدرة صدام حسين على تهديد دول الخليج.
من الاحتواء إلى تغيير النظام ثم العودة من جديد
لم تخفف عملية “عاصفة الصحراء” عبء الدفاع عن الخليج على الولايات المتحدة. كما كانت أية موازنة من طرف العراق للقوة الإيرانية قوية بما يكفي لتجاوز مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتهديدا للمنطقة على حد سواء. وبالتالي، فإن المسؤولين الأمريكيين في إدارات كل من جورج هربرت واكر بوش وبيل كلينتون خلصوا إلى أن الوجود الأمريكي القوي من شأنه احتواء كل من العراق وإيران ومنعهم من تجديد العدوان. وعلى امتداد فترة التسعينات، تدخلت الولايات المتحدة بشكل منتظم ومحدود للحد من قدرات صدام العسكرية ومنعه من إخضاع دول الخليج أو تهديد صادراتها النفطية.
مع مرور الوقت، فشلت الولايات المتحدة في محاولاتها لاحتواء نظام صدام. وتحوّل سعيها تدريجيا إلى تغيير النظام في العراق، في ظل الأوضاع الحاسمة المتعلقة بأحداث 11 أيلول/ سبتمبر. في الواقع، كان لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش العديد من المبررات لغزو العراق في سنة 2003، وفي حين كان بعضها منطقيا من الناحية الاستراتيجية، إلا أن بعضها الآخر لم يكن كذلك. وقد كان ضمان عدم تعرض دول مجلس التعاون الخليجي للتهديد مرة أخرى من قبل صدام مدرجا في تلك القائمة، ولكن يبدو أنها لم تكن فعالة، وبالتأكيد أدنى بكثير من خوف الإدارة الكبير من أن يكون العراق بمثابة الوسيط بين الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.
غير أنه في أعقاب غزوه للعراق وعرقلة عملية إعادة الإعمار إلى الحد الذي دفع البلاد نحو حرب أهلية شاملة، اختار بوش عدم التراجع وسعى لتحقيق الاستقرار في البلاد من خلال مضاعفة القوات الأمريكية المُرسلة إلى العراق لتنفيذ استراتيجية جديدة. وكان من شأن اعتراف بوش بالسماح للعراق بالدخول في حالة من الفوضى أن يهدد المنطقة بأكملها، إلى جانب أن إنتاج العراق النفطي قد حفز جزئيا قراره بالمجازفة بدلا من تقبّل الهزيمة والانسحاب. وأوضح بوش في إعلانه عن مضاعفة عدد القوات أن “عواقب الفشل ستسبب ‘فوضى في المنطقة’ كما سُتعرّض إمدادات الطاقة الحيوية في المنطقة للخطر وربما تسمح للإرهابيين باستخدام عائدات النفط لتمويل مطامعهم”.
في المقابل، عارض الرئيس باراك أوباما بشدة حرب العراق، وكان يعتقد أن تواجد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد أدى إلى إضعاف مكانتها، لذلك أمر بسحب القوات الأمريكية من العراق في سنة 2011. ومع ذلك، اضطر أوباما إلى عكس هذه السياسات المكرسة في سنة 2014 لحماية صادرات النفط في المنطقة.
بعبارة أخرى، جهّز أوباما القوات الأمريكية وشكل تحالفا دوليا لمحاربة تنظيم الدولة، جزئيا لأنه هدد بالانتشار خارج الحدود السورية والعراقية وزعزعة استقرار المنطقة الغنية بالنفط. علاوة على ذلك، كانت السياسة الإقليمية المميزة لأوباما، أي خطة العمل الشاملة المشتركة والمعروفة باسم الاتفاق النووي الإيراني، تهدف إلى ضمان تحرّك الولايات المتحدة من الشرق الأوسط إلى آسيا دون إثارة قضية نزع الأسلحة النووية في إيران والتي قد تهدد الخليج.
على مدى عقود، كان الدفاع عن صادرات النفط من قبل حلفاء الولايات المتحدة في الخليج دعامة الاستراتيجية الأمريكية العالمية. وقد قامت الولايات المتحدة بسنّ ودعم قواعد السلوك الأساسية في سائر أنحاء المنطقة، حيث حققت وعودها الرامية للتدخل في التدفق الحر للنفط بالقوة، ودعم حرية الملاحة، ومطالبة القوى الاقليمية بالتخلي عن مطامعها التوسعية بشأن دول أخرى وإلا فإنها ستواجه عواقب وخيمة، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. ومن جهة أخرى، اقتنع بقية الرؤساء الذين كانوا مترددين في البداية للتدخل في المنطقة بهذا النهج الأساسي. ويبدو أن دونالد ترامب قد اتّبع خُطاهم.
بروز ثورة الصخر الزيتي
برز تقاطع ترامب مع عقود من الإستراتيجية الأمريكية في الخليج العربي من خلال أسلوبه المتعجرف المعهود، إلا أن هذا الأسلوب لم يأتي من عدم. في الواقع، ناقش الأمريكيون التزامهم الاستراتيجي القديم بالخليج منذ عدة سنوات حتى الوقت الراهن. وقد قدّم منتقدو هذا الالتزام حججا متعددة حول سبب ضرورة انسحاب واشنطن من المنطقة، وتقوم كل حجة على حقائق ينبغي أن تساهم في صقل استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الخليج، لا أن تتخلى عنها، وهو ما يفعله ترامب على ما يبدو.
تبرز الحجة الأكثر رواجا، والتي تدعم التخلي عن الخليج في حقيقة أن التزام الولايات المتحدة غير ضروري ببساطة بسبب ثورة الصخر الزيتي. ففي العقد الذي تلى سنة 2008، تضاعف إنتاج النفط الخام الأمريكي بنسبة 140 بالمئة. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، صدّرت الولايات المتحدة نفطا أكثر مما استوردته للمرة الأولى منذ أن بدأت وزارة الطاقة بالاحتفاظ بالسّجل في سنة 1973.
الجدير بالذكر أن هذه الطفرة تسببت في انخفاض واردات النفط الأمريكية من أعضاء أوبك إلى ما يقرب من ربع المستوى المعتاد في سنة 2008. وباختصار، انخفضت واردات الولايات المتحدة من الخليج أقل من أي وقت مضى، بينما جعل توسع إنتاج الصخر الزيتي في أمريكا الشمالية، تزامنا مع نمو مخزونات النفط الاستراتيجية، السوق العالمية أكثر قدرة على تحمل الاضطرابات الصغيرة والمتوسطة.
من جهة أخرى، أكّد الضرر الاقتصادي النسبي الذي تسبب فيه هجوم إيران على منشآت بقيق وخريص على هذا الواقع الجديد. عموما، من شأن كل هذا الأحداث أن تؤكّد على أنه لا يتعّين على الولايات المتحدة الاستجابة لكل هجوم تشنّه إيران، ولكن يجب ألا يؤدي ذلك إلى الاعتقاد الخاطئ بأن نفط الخليج لم يعد مهما لأمن الولايات المتحدة وازدهارها.
في البداية، لم يقتصر دور الولايات المتحدة في الخليج فقط على حماية واردات النفط الأمريكية، حيث لم تكن الولايات المتحدة تتلقى سوى نسبة متواضعة منها من المنطقة. وبدلا من ذلك، قامت القوات الأمريكية بحراسة الخليج نظرا لأن سلامة الاقتصاد العالمي والأمن العالمي مرتبطان ارتباطا وثيقا بموارد الطاقة في المنطقة. وهذا ما يفسّر اهتمام الولايات المتحدة باستقرار الخليج العربي حتى عندما كانت تعتبر دولة مصدرة للنفط في أوائل القرن العشرين.
إن الولايات المتحدة معزولة بشكل أفضل إلى حد ما من انقطاع إمدادات النفط الخليجية مقارنة بالماضي، لكنها ليست معزولة بشكل كاف لإدارة ظهرها للمنطقة.
من جهته، أشار وزير الدفاع الأمريكي، جيمس فورستال، في أواخر الأربعينات إلى أن “خطة مارشال لأوروبا لا يمكن أن تنجح دون الوصول إلى نفط الشرق الأوسط”. وطالما أن حلفاء الولايات المتحدة والشركاء التجاريين لا يزالون يعتمدون على نفط الخليج، إلى جانب أن الحفاظ على اقتصاد عالمي مستقر يعدّ مصلحة وطنية أساسية، وطالما أن صدمات العرض أو الأسعار في منطقة واحدة يمكن أن يتردد صداها في جميع أنحاء العالم، فإن الولايات المتحدة لديها مصلحة في الدفاع عن تدفقات النفط الخليجية.
فضلا عن ذلك، طالما أن حلفاء الولايات المتحدة يفتقرون إلى القدرة على إبراز قوتهم، بينما يفتقر الشركاء الإقليميون للولايات المتحدة إلى الكفاءة العسكرية اللازمة لحماية تدفقات النفط الخليجية بأنفسهم، على الرغم من عقود من مبيعات الأسلحة الأمريكية والتدريب، سوف يتعين على الولايات المتحدة تحمل المسؤولية الأساسية لهذه المهمة.
من المهم أيضا فهم حدود الاستقرار الهيدروكربوني النسبي اليوم. على الرغم من أن سوق النفط العالمي أكثر مرونة مما كان عليه في الماضي، إلا أنه لا يزال لا يستطيع تحمل صدمة نفطية كبيرة، مثل فقدان معظم أو كامل الإنتاج السعودي لفترة طويلة. في سنة 2018، كان لا يزال أعضاء أوبك في الشرق الأوسط مسؤولين عن حوالي 25 بالمئة من إنتاج النفط العالمي.
من جهتها، تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أنه بحلول 2050، سينمو إنتاج النفط في الشرق الأوسط بنسبة 31 بالمئة من مجموع الإمدادات العالمية، في حين من المتوقع أن يبلغ الإنتاج الأمريكي ذروته في العقد المقبل وينخفض بعد ذلك. والجدير بالذكر أن الأزمة النفطية لسنة 1979، التي تسببت فيها الثورة الإيرانية، أزالت بين 4 و 7 بالمئة من النفط في السوق. واليوم، يمثل الإنتاج السعودي بين 10 و12 بالمئة.
نتيجة لذلك، فحقيقة أن السوق النفطية لم تستجب بشكل سلبي للهجمات صغيرة الحجم يمكن أن توفر إحساسا زائفا بالأمان، وأن عدم الاستقرار في الخليج العربي لم يعد بإمكانه الإضرار بالولايات المتحدة أو الاقتصادات العالمية، أو أن هناك شخصا آخر يمكنه حماية مصالحنا هناك. إن الولايات المتحدة معزولة بشكل أفضل إلى حد ما من انقطاع إمدادات النفط الخليجية مقارنة بالماضي، لكنها ليست معزولة بشكل كاف لإدارة ظهرها للمنطقة.
مصالح مركّبة
هناك نقد ثان لالتزام الولايات المتحدة تجاه الخليج، وهو أن تجديد منافسة القوى العظمى يتطلب من الولايات المتحدة الانسحاب من المسارح الثانوية. صحيح أن المنافسة مع الصين وروسيا ينبغي أن تكون الأولوية الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، وأن واشنطن ستكافح من أجل التنافس بشكل فعّال إذا شاركت في عمليات عسكرية واسعة النطاق في الشرق الأوسط.
إن هيكل القوة المطلوبة لمنع إيران أو غيرها من بلدان العالم من تعطيل إمدادات النفط العالمية متواضعة للغاية، ولا ينبغي لهذه المهمة أن تتطلب مهام بناء أمة مكلفة ومتعدّدة السنوات. إن ردع إيران لم يتطلب أكثر من مجرد وجود عسكري أميركي صغير في الخليج، وعادة لا يتطلب أكثر من حفنة من المقاتلين البحريّين السطحيين، وسربا من مقاتلي القوات الجوية أو حاملة طائرات، ومعدات سابقة التجهيز للعديد من ألوية الجيش والبحرية.
في هذه المرحلة، حتى القيام بالمزيد للمساعدة في استقرار العراق لن يتطلب سوى بصمة عسكرية أمريكية صغيرة، بالإضافة إلى معونة اقتصادية وسياسية أكبر. لا ينبغي لأي من هذا أن ينتقص بشكل كبير من الالتزامات الأمنية الأميركية في أوروبا أو آسيا، ناهيك عن ضرب الموقف العسكري العالمي للولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، سيكون لانهيار موقع الولايات المتحدة في الخليج تداعيات عالمية. لا يزال معظم حلفاء الولايات المتحدة وشركاء الأمن الرئيسيين في أوروبا ومنطقة المحيط الهادي الهندي يعتمدون على نفط الخليج. لديهم حصة ملموسة في الخليج، والتي يتطلعون إلى واشنطن للدفاع عنها لأنهم لا يستطيعون القيام بذلك بأنفسهم. في عصر التحديات المتزايدة للقوة الأمريكية، يولي الحلفاء، والأعداء كذلك، اهتماما وثيقا بالالتزامات التي ترغب الولايات المتحدة إما في الحفاظ عليها أو لا.
يؤكد بعض الأمريكيين أنه يجب على الولايات المتحدة أن تنأى بنفسها عن الخليج العربي كوسيلة لإبعاد نفسها عن النظام السعودي
نظرا لأهمية التزام الولايات المتحدة تجاه الخليج على مر العقود، فإن التخلي عن هذا الإلتزام بشكل متعجل من المرجح أن يؤدي إلى إغضاب الحلفاء، مما يجعلهم يشككون في موثوقية القوة الأمريكية، وبالتالي تقويض التحالفات الأمريكية خارج منطقة الخليج. لا تستطيع الولايات المتحدة التخلي عن المنطقة دون إضعاف الشبكة العالمية للتحالفات والشركات التي ستحتاجها للتنافس مع منافسيها الجيوسياسيين.
في الواقع، يرى نقد ذو صلة أن التزام الولايات المتحدة مع الخليج يؤدي حتما إلى نزاعات طويلة وجافة مثل حرب العراق. غير أن ذلك يخلط بين شيئين مختلفين للغاية. يمكن للمرء أن يدعم ما هو في الأساس مهمة إنكار تعتمد بشكل كبير على القوة الجوية والبحرية المتواضعة لمنع إيران من تعطيل إمدادات النفط الخليجية دون دعم التمرد على القوى العاملة أو تغيير النظام أو مهام بناء الدولة. بعبارة أخرى، يمكن للمرء الإعتقاد أن حرب العراق كانت خطأ، وأنه سيكون من الخطأ الانسحاب من موقع الولايات المتحدة الأكبر في الخليج.
أخيرا، يؤكد بعض الأمريكيين أنه يجب على الولايات المتحدة أن تنأى بنفسها عن الخليج العربي كوسيلة لإبعاد نفسها عن النظام السعودي. ومع ذلك، لم تكن العلاقة الأمنية بين المملكة والولايات المتحدة مبنية على التعاطف الأمريكي مع القيم السعودية، ولكن على الاحتياطات الهائلة من النفط تحت الرمال السعودية.
في الحقيقة، لم تكن الرياض حليفا مثاليا، وكان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان شريكا مثيرا للمشاكل بشكل خاص. غير أن علاقة الولايات المتحدة الطويلة الأمد مع المملكة العربية السعودية تقوم على المصلحة الوطنية الأمريكية الملحة في ضمان قدرة المملكة على تصدير النفط إلى السوق العالمية. إن إسقاط المهمة الأمنية الخليجية لمعاقبة المملكة العربية السعودية على أخطائها سيكون المعادل الجيوسياسي لإلحاق الولايات المتحدة بنفسها الضرر.
الأساليب الصحيحة مقارنة بأساليب ترامب
يظهر ترامب، بطريقته الجاهلة والمميزة، العديد من القضايا التي تدفع الأمريكيين إلى إعادة التفكير في دور الولايات المتحدة في تلك المنطقة. لقد وعد بتحقيق “هيمنة طاقية” غير محددة ستعزل الولايات المتحدة من عالم متقلب. وجادل ترامب مرارا وتكرارا بأنه لا يوجد شيء جيد يمكن أن يتأتى من التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط.
علاوة على ذلك، دعت إدارته علنا إلى التحول نحو التنافس بين القوى العظمى والحاجة إلى التراجع في الخليج، حتى مع إصرارها على أن الوجود العسكري، على الأقل في سوريا، مطلوب “من أجل النفط فقط”. وبينما دافع ترامب على النظام السعودي ضد مجموعة منتقديه المتزايدة، فقد قال منذ فترة طويلة إنه يتعين على دول الخليج الغنية أن تتحمل عبء الدفاع عن نفسها.
كل هذه الاتجاهات المتضاربة تجعل ترامب غير قادر على فهم المنطق الكامن وراء الالتزامات الأمريكية التي ورثها في الخليج. علاوة على ذلك، فقد أدى ترامب إلى تفاقم التوترات الطويلة الأمد في سياسة الولايات المتحدة من خلال اتباع سياسة إيران التي تسبب تزعزع الاستقرار والتدمير الذاتي وشلل الموقف الإقليمي للولايات المتحدة. وفي القائمة الطويلة للسياسات التي تمثل إشكالا حول العالم، قد تكون سياسة ترامب تجاه إيران هي الأسوأ.
منذ أوائل سنة 2018، كانت سياسة ترامب تجاه إيران بمثابة توليفة مربكة تجمع بين العداء والضعف في الآن ذاته. ونظرا لعزمه على التراجع عن أهم معالم إرث أوباما الدبلوماسي، انسحب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة بسبب معارضة بعض المستشارين، الذين أوضحوا أن الاتفاق نجح في الحيلولة دون احتمال امتلاك إيران أسلحة نووية تخول لها الهيمنة على الخليج العربي. ثم واصلت الإدارة حملة الضغط الأقصى التي تسببت في إحداث ضرر كبير للاقتصاد الإيراني من خلال خفض صادرات النفط الإيرانية. أصرّ المسؤولون الأمريكيون على أن الهدف من هذه الحملة هو التوصل إلى صفقة نووية “أفضل”، لكن الإدارة لم تفصح أبدا عن أي فهم واضح لما يمكن أن تنطوي عليه مثل هذه الصفقة أو كيف يمكن إبرامها.
في المقابل، كان لاستراتيجية الضغط الأمريكية تأثير استراتيجي كبير، لم يكن ترامب قد توقعه، على الرغم من أنه كان ينبغي عليه ذلك. من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي، قام ترامب بتعزيز موقف المتشددين الإيرانيين الذين لطالما عارضوا عقد صفقة مع واشنطن، وإضعاف البراغماتيين الذين يفضلون التوافق مع الولايات المتحدة. وهذا ما بدوره أضعف الفصيل الإيراني الوحيد الذي ربما كان على استعداد للتفاوض حول صفقة نووية جديدة.
من خلال تضييق الخناق على الاقتصاد الإيراني، شجع ترامب طهران على الردّ بأحد أشكال الضغط المضاد القليلة المتاحة لها وهي العمليات العسكرية ضد دول الخليج وصادراتها النفطية. من خلال قيامها بذلك، أثارت الإدارة إحدى أشكال الإجراءات التي لطالما أكد المسؤولون الأمريكيون أن الولايات المتحدة لا يمكنها الالتزام بتنفيذها. كشف ردّ ترامب بعد ذلك عن التناقض الصارخ الذي يتسم به جوهر سياساته، حيث يظهر في حلّة رئيس يتحدث عن فرض عقوبات صارمة واستخدمها بقوة، ولكن لم يكن لديه أي رغبة في مواجهة خطيرة مع خصمه.
حتى اللحظة الراهنة، رفض ترامب معاقبة إيران عسكريا على أي من استفزازاتها في الخليج. بدلا من ذلك، أصرّ كبار المسؤولين الأمريكيين، بما فيهم الرئيس، على أن واشنطن لن تستخدم القوة ما لم تهاجم إيران المواطنين الأمريكيين أو الممتلكات الأمريكية بشكل مباشر. عند مواجهة النتائج غير المرغوب فيها لسياسته اللامبالية، ردّ ترامب من خلال التخلي عن عقود من استراتيجية الولايات المتحدة في الخليج العربي. إذا كان التزام الولايات المتحدة بعقيدة كارتر ومبدأ ريغان تراجع بالفعل، فإن ترامب، دون أن يعترف أو ربما يدرك أهمية ما كان يفعله، اتخذ خطوة كبيرة نحو التخلص من تلك المفاهيم التي ثبت مدى نجاعتها على الصعيد الميداني على أراضي المعارك.
تداعيات الجمود
تتمثل إحدى المشاكل العديدة التي خلقتها سياسة ترامب المليئة بالتناقضات، في كيف أربكت مخاوف الأمريكيين الآخرين ذوي الحنكة والمعرفة السياسية. في الأيام التي أعقبت الهجمات المختلفة خلال الصيف، ركز العديد من القادة والخبراء على مخاطر الرد العسكري أكثر من التركيز على مخاطر عدم الردّ على الإطلاق. كما أن ترامب نفسه تذرّع بشبح حرب العراق لرفض الانتقادات التي تفيد بأن إدارته كانت سلبية للغاية في مواجهة الاستفزازات والعدوان الإيراني. على الرغم من أن قلّة من الأمريكيين يريدون حربًا مع إيران، شعر الكثيرون بالارتياح عندما لم يتخذ ترامب أي إجراء، إلا أن الجمع بين عدوانيته وكوارثه خلق خطرًا حقيقيًا متصاعدا.
يبدو أن الإيرانيين يعتقدون بشكل متزايد أنهم قادرون على إجراء ضربات والإفلات من العقاب بشكل نسبي لأن ترامب يخشى المواجهة معهم. نتيجة لذلك، سيكون لديهم كل الأسباب لمواصلة شن هجمات طالما استمرّت الولايات المتحدة في الضغط على الاقتصاد الإيراني. ويعكس تصعيدهم في مهاجمة بقيق وخريص إحساسًا خطيرًا بالثقة العسكرية ويوحي بأن المزيد من الهجمات قادمة في الأفق.
لا يمكن إنكار أن إيران قادرة على الردّ. كما يعتبر الخطر الذي يمكن أن تشكله كبيرا، نظرًا لمدى قدرتها على إثارة أعمال العنف في جميع أنحاء المنطقة – في الخليج وباب المندب، وكذلك في العراق وعلى طول الحدود الجنوبية والشمالية لإسرائيل. مع ذلك، في حال كانت إيران خطرة لهذه الدرجة، فمن الصعب أن تكون بكامل قوتها.
إذا أثبتت الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستتجنب المواجهة المباشرة مع إيران، فستكون بذلك طهران قادرة على ابتزاز جيرانها العرب
في الحقيقة، تعد القدرات العسكرية والإلكترونية لطهران تقليدية مقارنة بتلك الخاصة بالولايات المتحدة. في الوقت نفسه، إن الحديث عن شبح مستنقع حرب مشابه للعراق أمر مبالغ مبالغ فيه، على الرغم من أنه لا يوجد محلل أو صانع سياسات جدي يدافع عن شنّ حرب حقيقية ضد طهران. وتعد مخاطر التصعيد أمر لا مفر منها، لكن يجب موازنتها مقابل تكاليف الجمود وعدم اتخاذ أي إجراءات ردعية.
بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي، تعد إيران بمثابة كابوس. بالنسبة للمتشددين الذين يسيطرون الآن على السلطة في طهران، إنه حلم أضحى حقيقة. منذ اندلاع الثورة، سعى القادة الإيرانيون لكسر التحالف الأمريكي الخليجي. كانوا يعتقدون دائمًا أن واشنطن تخطط إلى تدمير النظام الإيراني، وأن تحالف الولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون الخليجي هو الذي جلب القوات العسكرية الأمريكية إلى المنطقة للقيام بذلك.
سواء لأسباب أيديولوجية أو قومية، سعت إيران إلى فرض هيمنتها عبر الشرق الأوسط، ولكن الحماية التي تُوفرّها الولايات المتحدة كانت أكبر عائق أمام مخططاتهم التوسعية. بالطبع، إذا لم تكن الولايات المتحدة تدافع عن صادرات النفط الخليجية، فلا يوجد أي مبرر لأي من الجانبين لإبقاء القوات العسكرية الأمريكية في المنطقة. دون وجود الالتزام الأمني الأمريكي، فإن دول الخليج بالكاد تملك قدرة على مقاومة نفوذ إيران.
إذا أثبتت الولايات المتحدة الأمريكية أنها ستتجنب المواجهة المباشرة مع إيران وحتى بعد استفزاز كبير، فستكون بذلك طهران قادرة على ابتزاز جيرانها العرب. في الواقع، وفي ظل غياب رد أمريكي، فإن الهجمات على بقيق وعلى خريص تبعث برسالة إلى إيران وحلفاء واشنطن في الخليج مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد مهتمة بفرض احترام قواعد السلوك التي وضعتها سابقَا وفرضتها في المنطقة. وفي صباح يوم واحد، وباستعمال حوالي 24 صاروخ “كروز” وطائرات دون طيار، اتخذت القيادة الإيرانية خطوة جبارة نحو تحقيق ما سعت إليه منذ فترة طويلة وهو إعادة ضبط توازن القوى لصالحها في الخليج العربي.
التحول الجذري
بالفعل، غيّر هذا التحول سلوك دول مجلس التعاون الخليجي كما سيواصل القيام بذلك بشكل متزايد. في الواقع، ينسحب الإماراتيون من الحرب في اليمن التي شاركوا فيها للمساعدة في منع حلفاء إيران الحوثيين من الاستيلاء على البلاد. وفي هذا الصدد، أطلقت الإمارات العربية المتحدة محادثات مع الإيرانيين حول تخفيف التوترات في المنطقة.
حتى الآن، لم يتبع السعوديون المنهج ذاته الذي اتخذته الإمارات في اليمن، ولكن للأسف، يبدو أنهم مضطرين للتفكير في السير على خطى هذه الدولة الشقيقة. كما اضطروا كذلك إلى فتح محادثات أمنية إقليمية مع إيران. يُمكن اعتبار كل هذه الإجراءات خطوات بناءة من شأنها تقليل التوترات في المنطقة على المدى القصير. أما في منطقة الخليج، يُنظر إليها على أنها تراجعا مؤلما وتنازلات كبيرة بالنسبة لطهران.
في إطار أوسع، يُجبر موقف ترامب الحلفاء العرب للولايات المتحدة الأمريكية على إعادة التفكير في جميع سياساتهم الخارجية والاستراتيجيات الأمنية. لسوء الحظ، ومن الآن فصاعدا، لم تعد المعدات العسكرية الأمريكية ولا تصريحات واشنطن تنفع دول مجلس التعاون الخليجي. ولا نعلم إلى الآن ما هو النهج البديل الذي قد تتبناه الدول العربية، ولكن، يبدو من المستبعد أنه سيكون مناسبا للمصالح الأمريكية.
منذ حكومة أوباما، قامت العديد من الدول العربية بإنشاء علاقات متينة مع الصين وروسيا. لكن، لا تستطيع كل من موسكو وبكين تعويض التسليح أو الطمأنينة الإستراتيجية التي وفرتها الولايات المتحدة بطريقة تقليدية. ومع ذلك، ظهر الروس في سوريا في صورة الطرف المؤهل الذي يحظى بمصداقية والجاهز للقيادة. ومن جانبها، تمتلك بكين رأس المال للاستثمار ولن تطالب أبدَا بفرض الإصلاحات السياسية. ومن المُلفت للنظر أنه في عصر يقر فيه مجتمع السياسة الخارجية، على نطاق واسع، بعودة الصراع بين القوى العظمى، كانت الولايات المتحدة حذرة للغاية بشأن التنافس في الشرق الأوسط.
لم تجد دول الخليج بديلاً أفضل لتحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة الأمريكية
إن الأكثر خطورة من ذلك هو أن المملكة العربية السعودية، التي لم تكن في السابق مؤهلة بشكل جدي للحصول على أسلحة نووية، أصبحت في الوقت الراهن تلعب دور المراهن الأول على امتلاك السلاح النووي. على مر السنين، لمح المسؤولون السعوديون إلى أنهم إما يمتلكون بالفعل جهازا نوويا أم يمكنهم الحصول عليه بسرعة على الرغم من عدم وجود دليل مباشر على الاحتمالين. و لم يكن السعوديون بحاجة إلى التوسع بسبب علاقتهم الأمنية التي تجمعهم مع الولايات المتحدة.
في الوقت الراهن، بعد شعورهم بالتخلي منذ فترة طويلة من قبل حُماتهم القدامى ولأنهم بعيدون كل البعد عن تطوير قوى تقليدية مختصة، لدى السعوديين الأسباب الكافية التي تدفعهم للحصول على جهاز نووي باعتباره الطريقة الوحيدة لتجنب الوقوع تحت سيطرة إيران. وفي هذا الصدد، هناك مدرسة فكرية أكاديمية تفترض أن التوسع يُمكن أن يحقق الاستقرار. وبالنظر إلى أوجه عدم اليقين في الخليج والتغيرات غير المتوقعة الجارية في المملكة العربية السعودية، فإن هذه المسألة ليست تجربة علوم اجتماعية تستحق المحاولة.
من خلال عدم الرد على الأعمال الاستفزازية على إيران، جعلت حكومة ترامب الولايات المتحدة الطرف الأضعف في أي مفاوضات مستقبلية وهي حقيقة تشير إلى إلى جهود ترامب اليائسة للتحدث مع الرئيس الإيراني حسن روحاني. وتحدت طهران بشكل مباشر الأساس المنطقي للوجود الأمريكي في المنطقة ولم تدفع أي ثمن للقيام بذلك. كما استخدمت العنف بشكل متكرر في انتهاكات العقيدة الأمريكية والسوابق الإستراتيجية، على مدى عقود. وبدلاً من الرد، شدّدت واشنطن عزمها على تجنب التصعيد بأي ثمن تقريبًا.
في ظل هذه الظروف، يبدو من غير المحتمل أن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، ناهيك عن الحصول على صفقة أفضل. وفي الوقت نفسه، بالنسبة للمتشددين الإيرانيين، وحتى بعد الاحتجاجات الكبيرة التي هزت إيران الشهر الماضي، فإن المشكلة الاقتصادية الذي قد تخفف الصفقة النووية الجديدة من حدتها ربما تكون أقل أهمية من الهدف الجيواستراتيجي المتمثل في فصل التحالف بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي وطرد الولايات المتحدة من الخليج. وإذا كان الإيرانيون يعتقدون أن الرياض مصرة الآن أكثر من أي وقت مضى على امتلاك سلاح نووي، كما هو باد، فإنهم سيكونون أقل اهتمامًا بتقديم تنازلات نووية عميقة للرئيس الذي سلمهم الخليج العربي على طبق من فضّة.
إذا كان ترامب على استعداد لإعادة النظر في مساره الحالي، فربما لم يفقد كل شيء بعد. وإلى الآن، لم تجد دول الخليج بديلاً أفضل لتحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن قد تقنعهم الولايات المتحدة الأمريكية الحازمة بالالتزام بذلك. ومع ذلك، لأن الولايات المتحدة قد فقدت مصداقيتها في الخليج، فإن القيام بذلك سيتطلب أكثر من وجود عسكري رمزي، وعلى الأرجح، أكثر مما يتطلبه الرد على استفزازات إيران في وقت سابق من هذه السنة.
في الواقع، ستحتاج الولايات المتحدة للرد على أي أعمال عدوانية إيرانية أخرى من خلال اتخاذ إجراءات مباشرة ضد مصالح طهران، وذلك بشن ضربات ضد منشآت الحرس الثوري، والسفن الحربية، ومواقع الصواريخ الباليستية ومراكز القيادة والسيطرة. علاوة على ذلك، سيتعين على الولايات المتحدة أن تضرب بقوة كافية لتثبت لإيران وللعالم باسره أنها لن تتراجع عن القتال. وإذا اختارت إيران المواجهة، فسوف تقوم أمريكا بالرد كذلك. ومن المفارقات أنه من المرجح أن يكون هذا الأمر أفضل وسيلة لتخفيف حدة التوتر، ولإقناع إيران بالتخلي عن حملتها العسكرية ضد دول مجلس التعاون الخليجي.
لا يمكن لأحد التخمين بما إذا كان الرئيس على استعداد للقيام بذلك، إذ يعتبر ترامب نفسه الزعيم الذي يخرق عقودا من الحكمة التقليدية في السياسة الخارجية الأمريكية. ومن المؤسف أنه على صواب في هذه الحالة. وما لم يغير الرئيس مساره، فإنه سيدخل حقبة جديدة في العلاقات الأمريكية مع الخليج العربي تتميز بالشجاعة، حقبة قد تساعد إيران على المطالبة بصعودها الذي طال انتظاره في تلك المنطقة وتترك الأمريكيين يتوقون عاجلاً أم آجلاً إلى الأيام الخوالي لعقيدة كارتر.
المصدر: فورين بوليسي