لم تورثنا فرنسا خلال سنوات احتلالها لسوريا، إلا الدمار على المستوى الاجتماعي والطبقي والطائفي، مع حفنةٍ من البنية التحتية التي يتغنى بها البعض لتبرير تلك السنوات الخداعات، حيث أتى حافظ الأسد ومن بعده وريثه بشار ليغذوا تركة الاستعمار الثقيلة المليئة بالطائفية.
سعت فرنسا خلال سنوات احتلالها للبلد متعدد القوميات والإثنيات والطوائف إلى تمزيق نسيجه وتفتيته إلى دويلات عرقية صغيرة. وفي هذا التقرير سنرجع إلى عهد الجمهورية الأولى، من خلال القراءة والبحث لمحاولة تشريح الوضع الطائفي في ذلك البلد، وما إن كانت الطائفية لاعبًا سياسيًا ومجتمعيًا فيها بعد مرحلة ما بعد الاستقلال إلى لحظة انقلاب البعث على السلطة وحكم عائلة الأسد الأقلوية الطائفية.
الأساس الطائفي
حاولت فرنسا في السنوات التي مكثت بها في سوريا إنشاء سلطة مركزية وكان مستشار المفوضية العليا، روبير دو كاي، أحد أبرز الداعين لفكرة التقسيم الطائفي لبلاد الشام، وذلك انطلاقًا من رؤيته بضرورة استيعاب الاختلافات الدينية والطائفية في نظام فيدرالي تشرف على تأسيسه فرنسا، وبناء على ذلك فقد اقترح فصل لبنان في دولة مستقلة وإنشاء ثمانية أو تسعة كانتونات في سوريا على النمط السويسري.
كتب الباحث والمؤلف السوري الدكتور بشير زين العابدين بحثًا جاء فيه سرد للتقسيمة التي عملت فرنسا جاهدةً لتطبيقها، وهي دولة العلويين التي أعلنت عام 1920 وتضم مدن اللاذقية وجبلة وبانياس وصافيتا وطرطوس ومصياف، بالإضافة لدولة الدروز التي تركزت في محافظة السويداء وأُسست فيها حكومة كان يرأسها سليم الأطرش، إلى جانب دولة دمشق وإقليم الجزيرة الذي أعطته حكمًا ذاتيًا، كما كانت مناطق لواء إسكندرون تحظى بالاستقلالية قبل أن تضمها تركيا عام 1939.
فترة الانقلابات في سوريا التي استمرت منذ عام 1949 حتى 1954، كرست الحالة الطائفية، فجميع زعماء الانقلابات العسكرية كانوا من ضباط الأقليات الذين جندتهم فرنسا قبل خروجها من البلاد
وفقًا لزين العابدين: “فشل مشروع الدولة الأرمنية التي كان من المفترض أن تشمل إسكندرونة وأنطاكية وعينتاب ومرعش وأورفا وأضنة، وذلك بسبب التقدم العسكري التركي في تلك المناطق”، لكن هذه التقسيمات باءت بالفشل تدريجيًا لكثرة التكاليف والحاجة إلى تأسيس نظام دولة كاملة في كل كنتون منهم، وكان ذلك أمرًا صعبًا على فرنسا.
اتخذت فرنسا قرارًا بضم مناطق الدروز والعلويين للدولة السورية في 1936، كما أن باريس حرصت على تأسيس سلطة عسكرية، “تتمثل في القيادة العسكرية التي كان يغلب عليها العنصر الطائفي” بحسب الدكتور بشير زين العابدين، فجندت فرنسا أعدادًا كبيرة من جبل العرب وجبل لبنان، وأصبح غالبية المنتمين إلى القوات الخاصة من الفلاحين العلويين والدروز والموارنة، بالإضافة إلى تشكيل فرق جديدة من الأقليات الإسماعيلية والأكراد والشراكسة.
انتهت حقبة الانتداب، لكن الحالة الطائفية العسكرية لم تذهب معه، فبقيت التركيبة الفرنسية للجيش كما هي عقب الاستقلال، حيث وصل أبناء العوائل للحكم ومارس الجيش سلطة واسعة وتدخل بقوة في صلاحيات الحكم المدني.
فترة الانقلابات في سوريا التي استمرت منذ عام 1949 حتى 1954، كرست الحالة الطائفية، فجميع زعماء الانقلابات العسكرية كانوا من ضباط الأقليات الذين جندتهم فرنسا قبل خروجها من البلاد، يروي الدكتور زين العابدين في بحثه أن حسني الزعيم الذي قاد أول انقلاب عسكري على الحياة المدنية عام 1949 أظهر العنصر الكردي بصورة واضحة في قيادة الجيش، كما أن سامي الحناوي المنقلب على الزعيم في العام نفسه كرس ما بدأه سلفه، فالحناوي كان كرديًا، وكان معه عدد من الضباط في مجلسه أحدهم مسيحي و2 من العلويين ومثل ذلك من الطائفة الإسماعيلية ومقدم درزي.
استحوذ أبناء الأقليات على أهم المناصب القيادية في الجيش السوري في الفترة التي امتدت منذ عام 1953 وحتى انقلاب حزب البعث على الحياة المدنية في البلاد عام 1963، ويذكر زين العابدين أنه وعلى صعيد الجنود فقد كانت نسبة العلويين في الجيش السوري وخاصة في سلاح المشاة تصل إلى 80%، حتى إن عبد الحميد السراج رئيس الاستخبارات العسكرية آنذاك، “اندهش حينما علم بأن ما لا يقل عن 65% من ضباط الصف كانوا علويين”.
عبد الحميد السراج
الأغلبية.. العرب السنة
كان السنة في سوريا إبان الاستقلال من سيطروا على الحكومة، ولم يدخر الحكام السنة في دمشق أي جهد لدمج اللاذقية في سوريا وهي دولة العلويين، يرى باتريك سيل في كتابه الصراع على سوريا أن “العائلات السنية احتقرت الجيش كمهنة، فالانضمام إليه بين الحروب كان لخدمة الفرنسيين”، كما أن السنة كانوا يعتبرون الأكاديمية العسكرية في حمص مكانًا للكسالى المتمردين أو المتخلفين أكاديميًا أو غير المتميزين اجتماعيًا.
تجاهل الحكام السنة الجيش كأداة للدولة خوفًا من سلطتها في السياسة المحلية، وجعلوا الوظائف العسكرية غير مريحة وبالتالي لا تجذب المواطن للانضمام لها، ويقول بحث لمؤسسة دراسات الشرق الأوسط: “يبدو أن الزعماء السنة اعتقدوا أن الاحتفاظ بالمناصب العليا لأنفسهم يكفي للسيطرة على القوات العسكرية، وبناءً عليه، شغلت الأقليات الرتب الدنيا ووجدت على مدى سنوات صعوبة في الارتفاع فوق مستوى المؤسسة”.
كانت الانقلابات التي حصلت في سوريا منهكة للرتب السنية في المؤسسة العسكرية، مما أدى إلى الاستقالات ونضوب الرتب السنية، ذلك في الجيش، أما بالنسبة للسياسة، فصحيح أن جزءًا كبيرًا من السياسيين السوريين كانوا سنة ولكنهم لم يشكلوا حزبًا يغلب عليه الطابع الإسلامي أو السني، إلا أن جماعة الإخوان المسلمين في سوريا التي هي من نسيج الجماعة التي تستقي أفكارها من مؤسسها المصري حسن البنا انخرطت في الحياة السياسية والمشاورات الدستورية التي جرت في إقرار دستور عام 1950.
طالب مصطفى السباعي زعيم الإخوان في سوريا حينها وكان ممثلًا لجماعته في اللجنة الدستورية، بأن “يكون هناك نصٌّ واضحٌ في الدستور على المادتين المشار إليهما أعلاه، وكان الرد الأبرز من الرافضين لهاتين المادتين، يتعلق بأن اعتبار دين الدولة الإسلام، واعتبار الإسلام مصدرًا أساسيًّا للتشريع، يهضمان الأقليات الدينية حقوقها”.
انتهى النقاش آنذاك إلى حل وسط، ليصدر الدستور متضمنًا مادةً تنص على أن يكون “دين رئيس الجمهورية هو الإسلام”، دون ذكر دين الدولة، ومتضمنًا مادةً أخرى تقول “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”، في صيغة مخفّفةٍ لعبارة: الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع.
بحسب موقع “ويكيبديا الإخوان المسلمين“، فإن الجماعة انسحبت “من مجال العمل السياسي إثر انتهاء فترة حكم الديكتاتور أديب الشيشكلي عام 1954، فلم يشاركوا في الانتخابات العامة، وحولوا جهدهم إلى التربية، وبقي الإخوان بعيدين عن المشاركة في صنع أهم التطورات السياسية في سوريا، وذلك رغبة من القيادة في التفرغ للإصلاح الداخلي”.
مصطفى السباعي
الأكراد بعد الاستقلال
لعب أكراد سوريا دورًا مهمًا في فترة ما بعد الاستقلال، وساهموا في نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية، خاصة في دمشق، وكما ذكرنا فإن العديد من قيادات الجيش كانوا من القومية الكردية، الأمر الذي أثر على سير الأمور العسكرية، فلم يكن دور الأكراد حينها إلا استكمالًا لدورهم في طرد المستعمر الفرنسي، خاصةً إذا علمنا أن وزير الدفاع السوري الذي جابه أول حملة فرنسية في معركة ميسلون عام 1920 كان كرديًا وهو يوسف العظمة، إضافةً لقيادات الثورات والانتفاضات ضد الانتداب مثل إبراهيم هنانو وهو كردي أيضًا ومحو بشاشو في حلب، وكذا الحركات والمعارك التي قامت في مناطق الأكراد في القامشلي وغيرها.
تأسس أول حزب كردي باسم الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا عام 1957، واستطاع اكتساب شعبية كبيرة لدى الكرد، إلا أنه لاحقًا وفي سنوات حكم البعث انقسم إلى يسار ويمين. قدرت الموسوعة السوفيتية عدد الكرد بسوريا في1937 بـ200 ألف نسمة، وفي 1946 قُدر عددهم بـ250.000 نسمة، ليستمروا بهذا العدد حتى 1959 بحسب إحصاءات الباحثين، وفي عام 1962 ارتفع عددهم إلى 400 ألف.
أتى زمن الوحدة بين سوريا ومصر، فقاوم الكرد سياسة حل الأحزاب في سوريا، رافضين أن يفرطوا بحزبهم الوحيد رغم إلغاء الأحزاب كافة لنفسها، ومع ذلك منحت حكومة جمال عبد الناصر حينها للأكراد الاستقرار ووهبتهم أراضٍ زراعية كانت قد صادرتها من الإقطاعيين العرب، وكان ذلك العهد هو الذي جعلهم ينزلون إلى المدن والسكن بها.
يوسف العظمة
العلويون بعد الاستقلال
لوران فابيوس وزير خارجية فرنسا السابق وفي أحد اجتماعات مجلس الأمن لبحث القضية السورية واللاجئين السوريين، قال لمندوب النظام السوري بشار الجعفري: “كفاك إشباعنا آراء ونظريات وبما أنك تحدثت عن فترة الاحتلال الفرنسي، فمن واجبي أن أذكرك بأن جد رئيسكم الأسد طالب فرنسا بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال، وذلك بموجب وثيقة رسمية وقع عليها ومحفوظة في وزارة الخارجية الفرنسية، وإن أحببت أعطيك نسخة عنها”.
استمر العلويون في سوريا بعد الاستقلال عن فرنسا، بحلمهم بوجود دولة خاصة بهم، حيث قاد سليمان المرشد ثورة من أجل ذلك عام 1946، انتهت بإعدامه، كما تحرك ابنه عام 1952 وقاد تحركًا فشل بعد ذلك، وبعد فشل تحركاتهم قبل العلويون بالدولة السورية ووجودها، ليبدأوا صعودًا سريعًا إلى السلطة، خاصةً في الجيش وفي حزب البعث.
بالإضافة إلى الجيش، حصل العلويون أيضًا على السلطة من خلال حزب البعث، فمنذ سنواته الأولى كان البعث يتمتع بجاذبية خاصة للسوريين من خلفيات ريفية وأقلية، بمن فيهم العلويون الذين انضموا بأعداد كبيرة بشكل غير متناسب. ويشكل المهاجرون الريفيون الذين ذهبوا إلى دمشق لأغراض تعليمية أغلبية أعضاء حزب البعث وكانوا يميلون إلى أن يكونوا طلابًا من أصول الطبقة الوسطى الدنيا وأبناء الفلاحين السابقين الذين وصلوا حديثًا إلى المدن كحلب للدراسة.
مسيحيو سوريا بعد الاستقلال
كان للمسيحين في سوريا دورٌ كبير في زمن الانتداب الفرنسي وما بعده، فبعض مسيحيي البلاد لعبوا دورًا ثقافيًا ونشطوا في العمل السياسي ولمع منهم أسماء كميشيل عفلق وإلياس مرقص وأنطون سعادة وفارس الخوري الذي مثل الرأسمالية السورية المعتدلة، واستطاع تشكيل الحكومة مرات عديدة خلال رئاستي هاشم الأتاسي وشكري القوتلي.
كان أغلب المسيحيين من ملاك الأراضي والمستثمرين الاقتصاديين، حيث كان 75% من الوكالات التجارية الأجنبية بيدهم إلا أن انقلاب البعث وقراراته التي جردت المالكين من أملاكهم الخاصة وأنهت المبادرات الفردية أدى إلى فقدان المسيحيين لدورهم كما باقي الطوائف، الأمر الذي دفع هذه الطائفة إلى تهريب أموالها والهجرة إلى المغترب، وهو الأمر الذي عمل بشكل رئيسي على خفض عددهم في البلاد، فنسبة المسيحيين اليوم في سوريا كان يوجد ضعفها أو أكثر قبل انتقال البعث للحكم.
فارس الخوري
الدروز
بعد الاستقلال رفض الدروز أن يشملهم قانون الأحوال الشخصية المستمد من المذهب الحنفي، وقد تمّ لهم أن تكون معاملاتهم حسب معتقداتهم أسوة بالمسيحيين.
يعيش غالبية الدروز في محافظة السويداء وفي الجولان المحتل وبعض مناطق ريف دمشق كجرمانا وصحنايا وبعض قرى إدلب، وتناقص عددهم كثيرًا بسبب الهجرة إلى الأمريكيتين وعدة دول غربية، فيُقدر عددهم بنحو 121 ألفًا.
عندما استلم أديب الشيشكلي الحكم بانقلابه العسكري، شن أعوانه حملة اعتقالات واسعة في جبل العرب على إثر تحركات درزية، فانفجر الوضع في الجبل وتطور إلى اشتباكات مسلحة في الوقت الذي كانت قوات الشيشكلي تنفذ الانتهاكات بحق أهالي الجبل، ودفع الشيشكلي حياته فيما بعد ثمنًا لما فعله بدروز سوريا، فالدروز يتهمونه بارتكاب مجازر بحقهم بعد قصفه لهم بالطائرات، فقُتل على يد أحد أبناء جبل العرب في البرازيل.
أديب الشيشكلي
طوائف وقوميات تشكل النسيج السوري
بعد حالة التطور التي دخلت بها سوريا إثر استقلالها عن فرنسا، بدأت الحياة العامة والاجتماعية والطائفية بالبروز، فأصبحت كل قومية أو طائفة تطمح لكسب موقفها في الحياة السياسية أو العسكرية، ومن تلك القوميات كان الكلدان والآشوريين والسريان، بالإضافة إلى المكون الأساسي وهم التركمان والشركس القادمون من القوقاز، إضافة إلى بعض الطوائف كالإسماعليين والشيعة.
لم يظهر التشيع في دمشق كواقع اجتماعي إلا في بعض الأسر الدمشقية مثل عوائل اللحّام والنوري والروماني وسعد وغيرها، وكانوا يقطنون في حي الأمين، حيث افتتح رجل الدين الشيعي محسن الأمين العاملي 1925 المدرسة المحسنية لأبنائهم، وكانت نسبتهم عام 1953، 0.4%. وبذلك تكتمل صورة تاريخ الطائفية في سوريا ومراحل تشكلها بعد إعلان استقلال البلاد.