دفعت جدية وباء كورونا وانتشاره السريع السلطات والحكومات في مختلف دول العالم إلى المسارعة بإصدار تشريعات وقوانين من شأنها أن تسهم في الحد من تفشي الجائحة من جهة والحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد من جهة أخرى.
يمكن القول إن الشتريعات كان منها ما هو مشترك بين مختلف الدول، ومنها ما كان مخصوصًا بدول دون غيرها.
التشريعات العامة
1- إغلاق الحدود
استخدم هذا التشريع كوقاية من وصول مواطني الدول التي ينتشر بها الوباء إلى الدولة المشرعة للقانون، ولعل أولى الدول التي أصدرت هذا التشريع كانت تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، ابتداءً بإغلاق المطارات وانتهاءً بالإغلاق التام لجميع مداخل البلد (الجوية، البرية، البحرية).
وفقًا لتحليل حديث أجراه مركز بيو للأبحاث، فإن ما لا يقل عن 93% من سكان العالم يعيشون الآن في بلدان تفرض قيودًا على السفر، مع وجود ما يقرب من 3 مليارات شخص يقيمون في بلدان تفرض إغلاقًا كاملًا للحدود على الأجانب.
في أمريكا، رفعت خارجيتها نصائحها بشأن السفر إلى المستوى 4 (أعلى تحذير للوكالة) ويسمح هذا الإجراء بالاستمرار في التجارة ولكنه يقيد السفر غير الضروري مثل السياحة، ويسمح للمواطنين الكنديين الذين يتنقلون يوميًا إلى الولايات المتحدة للعمل بالدخول.
أما دول الاتحاد الأوروبي فقد أعلنت إغلاق حدودها أمام القادمين إليها، وطُبق هذا القانون في 26 دولة من دول الاتحاد الأوروبي.
2- تشريع الحد من الاتصال
هو تشريع استخدمته الدول ذات أعداد الإصابة الكبيرة لمنع الاختلاط بين الناس وإبطاء سير الإصابة، وبذلك يخف الضغط على المؤسسات الصحية، فتم إغلاق أماكن التجمعات (المقاهي، النوادي، المتاحف، وبقية أماكن الفعاليات الثقافية والرياضية)، وكذلك إغلاق المساجد ومراكز التسوق.
وضع بوريس جونسون البلاد تحت قانون الـlockdown في الـ23 من شهر مارس وتم تمديده في الـ9 من شهر أبريل الحاليّ لثلاثة أسابيع أخرى، يلزم المواطنين بعدم الخروج من منازلهم إلا في سياقات معينة (تسوق الضروريات، ممارسة الرياضة، الدواعي الطبية، الذهاب من وإلى العمل إذا كنت لا تستطيع العمل من المنزل) وفض التجمعات وإغلاق المحلات غير الضرورية، كما يعطي الصلاحية لرجال الشرطة لتفريق التجمعات وفرض الغرامات.
فرنسا أيضًا مددت قانون الـlockdown حتى الـ11 من مايو/أيار القادم، حيث قال الرئيس الفرنسي ماكرون في خطابه المتلفز: “الوباء لم يسيطر عليه بعد”، ولكنه أضاف “الأمل يولد من جديد”.
أما ألمانيا، فقد أشارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى أنه من السابق لأوانه إنهاء الإجراءات التقييدية، لكنها أطلعت وسائل الإعلام على الإجراءات التي تتخذها الحكومة الألمانية لتجنب انتشار الفيروس بعد رفع الـlockdown في الـ19 من شهر أبريل/نيسان الحاليّ، حيث صاغت ألمانيا خطة لتقليص إغلاقها والسماح بالعودة التدريجية إلى الحياة العامة.
في محاولة للسيطرة على منع تفشي COVID 19، فرضت الحكومات غرامات مالية في أغلب الدول على مخالفي تدابير منع انتشار العدوى
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، اتخذت كل ولاية إجراءات إغلاق خاصة بها، منها التي استجابت بشكل سريع للأزمة، ومنها التي استجابت ببطء، الأمر الذي عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لانتقادات بشأن إدارته للجائحة.
لكن القوانين في تركيا مختلفة بعض الشيء، حيث كان الإغلاق بشكل خطوات متدرجة، ففي البداية منعت التجمعات ثم منعت الأعمار دون سن العشرين وفوق الخامسة والستين من الخروج من منازلهم، تلاه قانون حظر شامل للتجوال لمدة 48 ساعة (السبت والأحد من كل أسبوع).
تشريعات الحجر الصحي
أقرت الحكومات تشريعات تقضي بإمكانية حجر شخص أو مجموعة أشخاص في منازلهم أو نقلهم إلى مراكز الحجر الصحي المعتمدة.
التشريعات الرادعة
في محاولة للسيطرة على منع تفشي COVID 19، فرضت الحكومات غرامات مالية في أغلب الدول على مخالفي تدابير منع انتشار العدوى، وفي حالات قليلة أقرت عقوبات السجن في بعض الدول.
في بريطانيا، فُرضت غرامة مالية مقدارها 60 جنيهًا إسترلينيًا على كل شخص يخرق قانون الإغلاق، وغرامة بقيمة 120 جنيهًا إسترلينيًا للشخص الذي يخرق القانون للمرة الثانية، ومضاعفتها في كل مرة أخرى، وإذا استمر الشخص في المخالفة، يمكن للشرطة اعتقالهم.
في روسيا تم وضع قانون تجريم الأشخاص المتسببين بانتشار العدوى منها غرامات مالية قد تصل الى 25.000 ألف دولار وعقوبات بالسجن بين ثلاث إلى سبع سنوات، كما فرضت الحكومة التركية غرامات مالية بحدود 800 دولار للذين يخالفون حظر التجوال.
إيقاف عجلة الحياة في الدول التي لا يعتمد اقتصادها على النفط، يعني الموت البطيء لاقتصادها
أما الغرامات الألمانية، كانت أشد حزمًا، فقد فرضت غرامة مالية بمقدار 500 دولار لكل من يحاول الاقتراب من شخص في الأماكن العامة لضمان تطبيق التباعد الاجتماعي الذي يهدف إلى الحد من تفشي العدوى.
تشريعات في مجال الصحة النفسية (محاربة الإشاعة)
الهلع من الإصابة بالمرض والرعب الذي يسببه، سيكون أرضًا خصبة لنشر الإشاعات والأخبار الكاذبة عن انتشار المرض وأعداد المصابين وأعداد الوفيات، ففي سنغافورة قد يصل الأمر إلى السجن لمدة عشر سنوات إذا ثبت نشر أحدهم لمعلومات كاذبة عن كورونا، وروسيا وبلغاريا وهنغاريا تفرض قوانين مماثلة، حيث توجد عقوبات بالسجن تتراوح بين خمس إلى ثماني سنوات لناشري الإشاعات والأخبار المفبركة.
تشريعات لسد النقص في القطاع الصحي
قانون إعادة المتقاعدين للخدمة من العاملين في المؤسسات الصحية (مثل الأطباء والممرضين وغيرهم) لسد النقص لدى الـNHS، وإصدار قوانين تسهل استقدام الأطباء المهاجرين، كما تفعل أمريكا حاليًّا لعلاج النقص الحاد في أعداد الأطباء والممرضين.
تشريعات لاستمرار دوران عجلة الاقتصاد
إيقاف عجلة الحياة في الدول التي لا يعتمد اقتصادها على النفط، يعني الموت البطيء لاقتصادها، لذلك حاولت دول العالم طلب ميزانيات طارئة الهدف منها إيصال الإغاثة الطارئة لمواطنيها، والحفاظ على دورة الاقتصاد من خلال دعم الشركات بمختلف أحجامها.
ففي أمريكا، مرر مجلس الشيوخ مشروع قانون بقيمة تريليوني دولار تقريبًا (هذه حزمة المساعات الثالثة من الكونغرس) لإغاثة الأفراد والمؤسسات، تستهدف سبع مجموعات رئيسية:
الأفراد: يحصل الأفراد والعوائل على دفعات نقدية يقدر مجموعها بنحو 300 مليار دولار، بالإضافة إلى مدفوعات البطالة الإضافية بتكلفة 260 مليار دولار قابلة للتغيير، كما ينص القانون على قروض للطلبة.
الشركات الصغيرة: يوفر هذا القانون منح طوارئ وقروض قابلة للنسيان والإعفاء من القروض الحاليّة للشركات التي توظف 500 موظف أو أقل.
الشركات الكبرى: يخصص مشروع القانون نحو 500 مليار دولار من القروض وأموال أخرى للشركات الكبرى لدفع رواتب موظفيها، ويتعين على هذه الشركات أن تسدد للحكومة.
المستشفيات والصحة العامة: ضخ مبلغ 100 مليار دولار للمستشفيات، كما يوفر مشروع القانون 1.32 مليار دولار كتمويل إضافي فوري للمراكز الصحية التي تقدم خدمات الرعاية الصحية لنحو 28 مليون شخص، كما تم تخصيص 11 مليار للأدوية ومعدات الفحص و80 مليون للـFDA لتسهيل مهام ترخيص الأدوية الجديدة.
شبكة الأمان الفيدرالية: تشمل تمويل مشاريع تغذية الطفل وبنوك الغذاء.
الحكومات المحلية: تخصيص 339.8 مليار دولار للحكومات المحلية.
التعليم: مبالغ مخصصة لإعفاء الطلاب من القروض ومنح للمدارس.
بدورها، وضعت ألمانيا ميزانية طارئة تزيد قيمتها على 150 مليار يورو لدعم الوظائف والشركات المعرضة للخطر من التأثير الاقتصادي لانتشار فيروس كورونا.
أما بريطانيا فقد وضعت وزارة الخزانة حزمة تمويل بالغة 14.5 مليار جنيه استرليني، يذهب 6.6 مليار جنيه إسترليني منها لدعم الخدمات الصحية، وبقية المبلغ يهدف لدعم الشركات وتأهيل البنى التحتية ودفع المعونات النقدية للأفراد وتقديم القروض.
وفي تركيا، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الحكومة ستقدّم دعمًا ماليًّا لنحو مليونَي أسرة من ذوي الدخل المحدود، في إطار تخفيف الآثار الاقتصادية لتفشِّي الوباء، ويتضمن ذلك دعمًا نقديًّا بقيمة 1000 ليرة لمليونَي أسرة ذات دخل محدود، و7 مليارات ليرة تركية دعمًا في ما يتعلق بالحد الأدنى للأجور، وتزويد الشركات بتمويل إضافي عند الحاجة دون تأثير في التدفق النقدي، فضلًا عن إجراءات خاصة بالعاملين بقطاع الصحة.
يمكننا القول إن التخمين المبالغ فيه (سواء بتحجيم أم تضخيم خطر كورونا) لصناع القرار قد يكلف الدول والشعوب الكثير
ذريعة للاستبداد
يبقى أن جائحة كورونا قد جرى استغلالها لوضع قوانين بنكهة ديكتاتورية، هنغاريا طالها الانتقاد الأكبر بعد أن قدمت حكومة فيكتور أوربان مشروع قانون يُعرف باسم “قانون الحماية ضد الفيروس التاجي”، يدخل البلاد في حالة الطوارئ لأجل غير محدود، معطيًا سلطة كاملة لأوربان.
بالإضافة إلى قانون الطوارئ، أعلنت بعض الدول (أرمينيا ولاتفيا ومولدوفا ورومانيا) عدم التقيد بأحكام الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وتسمح هذه الخطوة لهذه الدول بتعليق بعض الحقوق المدنية خلال حالة الطوارئ.
أما سلوفاكيا، فقد أعطت الضوء الأخضر لتعقب تحرك المرضى المثبت إصابتهم بالـCOVID 19 من خلال تمرير قانون يسمح بالوصول إلى بيانات المستخدم في شركات الاتصال، الأمر الذي أثار الجدل بشأن خرق خصوصية المستخدم، وفي محاولة لتهدئة ردة الفعل العكسية ضد هذه الإجراءات، أكد بيتر بيليجريني رئيس الوزراء السابق، أن القواعد تطبق فقط على أشخاص معينين تم تأكيد مرضهم أو في الحجر الصحي الإلزامي.
جمهورية الجبل الأسود ليست بعيدة عن هذه الخروقات، فالدولة التي يبلغ تعداد سكانها ما يقارب الستمئة ألف نسمة، نشرت أسماء وعناوين الأشخاص المصابين بـCOVID 19 أو الأشخاص الخاضعين للعزل، ووفقًا لسلطات الجبل الأسود، تواجه البلاد في هذه المرحلة خيارًا صعبًا بين صحة المواطنين وحماية بياناتهم الشخصية.
البوسنة والهرسك قررت أن تحذو حذو الجبل الأسود، حيث نشرت أسماء وأرقام الأشخاص المصابين أو الداخلين في العزل، ثم اضطرت إلى حذفها لاحقًا بعد أن أصدرت وكالة حماية البيانات الشخصية للبوسنة والهرسك قرارًا في 24 من مارس 2020 يحظر نشر البيانات الشخصية للمصابين بـCOVID-19، وكذلك أولئك الذين تعرضوا للعزل الذاتي ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذا النشر يمثل خرقًا لقانون حماية البيانات الشخصية في البوسنة والهرسك، وبالتالي فهو يمثل إجراءً غير قانوني.
“صربيا على بعد خطوة واحدة من الديكتاتورية” بهذه الكلمات وصف المعارضون قرار الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بوضع البلاد تحت قانون الطوارئ دون أساس دستوري.
بالمحصلة، ليست القوانين أعلاه إلا إجراءات آنية مرتبطة بتطورات الوباء وسيرورته، إلا أنه من المتوقع أن تسفر الجائحة عن حزمة تشريعات وقوانين جديدة كليًا لمعظم دول العالم، تتعلق بالصحة والأمان المجتمعي والاقتصاد والخصوصية، وهو ما يرجح أن نبدأ بملاحظته مع أولى الدورات البرلمانية التي تفتتح بعد انتهاء موجة التباعد الاجتماعي التي تعزل مليارات البشر حول العالم في منازلهم.