ترجمة وتحرير: نون بوست
من كان يظن أن رماد كاتدرائية نوتردام التي عصف بها حريق السنة الماضية سيكشف عن الكثير من الأسرار؟ جُمع فريق من العلماء لإجراء أبحاث خلفية عميقة في بنية الكاتدرائية، على أمل فهم الطريقة التي شيّد من خلالها عمال البناء والحرفيون في العصور الوسطى هذا المبنى. لم تُدوّن أي تفاصيل عن كيفية قيامهم بذلك، ولم تُتّبع أي خطط. وهذا يعني أن الدراسة سوف تستغرق حوالي ست سنوات، مما يساعد على توجيه أعمال الترميم.
لقد أثار الحريق رغبتي في دراسة الموضوع بشكل أعمق. في هذا الوقت من السنة الماضية، كتبت عن الخلفية المعمارية للكاتدرائية، إذ أنه على غرار جميع الكاتدرائيات القوطية من العصور الوسطى، ربما تعود أصول البرجين التوأم المُطوّقان بمدخل غربي ضخم، وأقواس مدببة، إلى جانب النوافذ الوردية بأسقفها المدعمة، إلى الشرق الأوسط. في الوقت الحاضر، وفي أعقاب بحث مكثف، اكتُشفت العديد من الروابط غير المتوقعة التي أدرجتها في كتابي بعنوان “سرقة من الساراكينوس (العرب)”.
النوافذ الزجاجية الملونة
لنبدأ بالزجاج الملون، الذي بقي سليما لحسن الحظ بعد الحريق. تظهر التحليلات الحديثة للزجاج الملون في الكاتدرائيات الرئيسية في إنجلترا وفرنسا التي تعود إلى ما بين سنة 1200 و1400، وجود نفس التشكيلة من رماد النبات عالي الجودة، المشابهة للمواد الخام السورية.
كان رماد الصودا النباتي السوري عالي الجودة، المعروف باسم “رماد سوريا”، يعتبر متفوقًا على رماد النطرون المصري الجاهلي الذي استخدمه الرومان والبيزنطيون في صناعة الزجاج، ويظهر تحليل جميع أنواع الزجاج الخاص بمدينة البندقية بداية من القرن الحادي عشر وصولا إلى القرن السادس عشر أنه استخدم بشكل متّسق. وخلال العصور الوسطى، استوردت أوروبا القارية المواد الخام لتركيبة جميع أنواع الزجاج الذي تصنعه، حيث لم يكن هناك مصدر محلي معروف.
ظهرت الوريدة أثناء العمل في كاتدرائية نوتردام في تموز/ يوليو 2019.
كانت النوافذ الزجاجية الملونة عنصرًا متكاملًا ومبتكرًا في الهندسة المعمارية الإسلامية منذ القرن السابع، بدءًا من قبة الصخرة في القدس التي كانت العديد من نوافذها العالية مزينة بالزجاج الملون. كانت هذه النوافذ الملونة تُعرف باسم الشمسيات (من العربية نسبة إلى الشمس) والقمريات (من العربية نسبة إلى القمر)، ما يوضح كيف استمر تصوير الشمس والقمر في النوافذ في الهندسة المعمارية الدينية الأوروبية.
تبنّى فرسان الهيكل قبة الصخرة ليجعلوه معلما مسيحيا رئيسيا بعد الحملة الصليبية الأولى، في خلط واضح بينها وبين هيكل سليمان، وهو خطأ أدى إلى بناء العديد من الكنائس في معلم إسلامي.
يرجع تاريخ النوافذ الوردية الشهيرة في كاتدرائية نوتردام على واجهاتها الغربية والشمالية إلى الفترة ما بين 1225-1250، وهي مصممة لإضاءة مركز الكنيسة، ومن ثم سُمّيت بأسلوب رايونانت. كان الضوء محور تصميم الكاتدرائية القوطية. ويُذكر أن كاتدرائية القديس دينيس في شمال باريس كانت المكان الذي استخدم فيه شخص ثري وذو نفوذ يدعى الأب سوجير التفكير الإشراقي لأول مرة كمبدأ توجيهي في بناء ما يعرف بـ “البازيليكا الجديدة” (الكاتدرائية). لكن من كان دينيس؟
زهرة الزنبق
كان معاصرو سوجير يعتقدون أنه تلميذ القديس بولس، حيث أصبحوا فيما بعد يخلطون بينه وبين أسقف باريس الأول وقديس شفيع فرنسا، الذي استشهد في حي مونمارتر. بعد قرون، أدرك العلماء أن عمل دينيس المؤثر، أي التسلسل الهرمي السماوي، كان في الواقع خدعة كتبها راهب صوفي سوري في القرن الخامس يدعو نفسه دينيس من أجل جذب الانتباه لفلسفته.
نتيجة لذلك، أصبح معروفا في الدوائر الكنسية باسم دينيس، وقد كانت خدعته ناجحة. اليوم، باتت كاتدرائية القديس دينيس معترفا بها عالميًا كأول مثال حقيقي على “القوطية”، مع أقواس طويلة مدببة تزيد من شموخ الكنيسة الأنيقة السامية. وقد أصبحت فيما بعد مكانا لدفن الملوك الفرنسيين.
تمثل زهرة الزنبق رمز الأمة الفرنسية وملوكها. ولكن لسائل أن يسأل، أين كان يُنظر إليها أولاً كرمز؟ في سهول سوريا، قام الصليبيون بتقليد رياضة الجريد المحلية، التي هي بمثابة بطولة يتبارى فيها الفرسان على ظهور الخيل لإسقاط بعضهم البعض من خلال رمي رماح غير حادة. كانت شعارات النبالة والرموز العائلية أو الأسرية تستخدم بالفعل في عهد الأيوبيين في ذلك الوقت. وظهرت زهرة الزنبق لأول مرة على شكل شعار حقيقي، حيث وقع ربط الأوراق الثلاثة المنفصلة معًا في الوسط بواسطة شريط، مثل نصل نور الدين بن زنكي في القرن الثاني عشر وبعض الآثار التي تعود له في دمشق.
في وقت لاحق، أضحت خوذات المماليك تنتهي بزهرة زنبق. كما توّج هنري السادس، ملك إنجلترا، ملكًا لفرنسا في سن العاشرة داخل نوتردام عام 1431، في ظل خلفية زهرة زنبق.
اكتشاف غير متوقع
تحمل بوابة نوتردام المركزية رمزا محفورا على حجر للخيمياء، وهو تمثال لامرأة تحمل كتبا مع سلم وموظفين. تأتي كلمة الخيمياء نفسها من كلمة الكيمياء العربية. خلال فترة العصور الوسطى، وقع الاعتراف بالشرق الأوسط على نطاق واسع على أنه موطن العلوم التجريبية المتقدمة.
كان استخدام رماد النبات في صناعة الزجاج في حد ذاته نوعًا من الخيمياء، وهي تجربة وقع فيها إضافة النبات القلوي التي يطلق عليه اسم “أوشنان” إلى حصى السيليكا المسحوقة القادمة من الفرات. وهذا ما يساعد على إنتاج أفضل أنواع الزجاج وأكثرها رقة في العالم التي توجد في الرقة، مركز صناعة الزجاج السوري من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر. كما يمكن إضافة مواد كيميائية أخرى ملونة للزجاج مثل الكوبالت الأزرق وأكسيد النحاس الفيروزي وما إلى ذلك.
صورة لزجاج ملون يعود تاريخه للقرن الثاني عشر يحتوي على فقاعات.
لكن كان لرماد أوشنان خصائص أخرى. فقد استُخدم منذ العصور التوراتية كإحدى أدوات التنظيف في المناطق التي لا يتوفر فيها الماء، سواء في النظافة الشخصية أو في الغسيل. حتى يومنا هذا، لا يزال مكونًا طبيعيًا أساسيًا في صناعة الصابون السورية، حيث ينمو ذلك النبات بشكل كبير لاسيما في جنوب حلب حول بحيرة جبول المالحة. هذا ما يمنح صابون حلب خصائص مُنعمة ومُرطبة للبشرة، حتى أنه يحتوي على فقاعات في الداخل، مثل الزجاج السوري.
توصل العلماء في كاتدرائية نوتردام إلى اكتشاف يتعلق بطريقة تنظيف غير متوقعة: تتمثل أفضل طريقة لإزالة غبار الرصاص الأصفر السام من النوافذ الزجاجية الملوثة دون تدمير الألوان في استخدام مناديل الأطفال من مونوبري. من المحتمل أن تكون المناديل الكيماوية التجارية قاسية للغاية؛ بيد أن استخدام صابون حلب اللطيف سيكون أفضل. لذلك، كم سيكون من المناسب تنظيف الكاتدرائية باستخدام رماد النبات نفسه الذي يدخل بالفعل ضمن تركيبة الزجاج الملون للنوافذ.
المصدر: ميدل آيست آي