ترجمة وتحرير نون بوست
استجابة لكوفيد-19 أصدر حاكم نيويورك أندرو كومو قرارًا تنفيذيًا بإغلاق جميع الأعمال التجارية غير الضرورية، لكن وظيفة والدي لم تخضع لهذا الخفض، يعد والدي من كبار السن وينتقل لعمله في وسائل النقل العامة ولديه مشكلات طبية، كل هذه الأمور تجعله عرضة للإصابة بالفيروس.
ومع ذلك أصرّ على الذهاب إلى العمل، ورغم كل احتياطات الحماية مثل الأقنعة والقفازات والمطهرات، فإنني كنت أشعر بالرعب في كل صباح يغادر فيه إلى العمل.
رغم التمثيل النقابي اختار والدي عدم التفاوض للوصول إلى حل، لكن بعد أن تدخلت وكتبت إلى صاحب العمل وممثل النقابة تراجع أخيرًا، والآن يجلس في المنزل بعد السماح له بالاحتفاظ بوظيفته عندما تنتهي هذه الأزمة، ومع ذلك ظهرت تحديات جديدة في الفترة الحاليّة: كيف نتعامل مع الرعاية في غياب العمل الرسمي.
إن جميع أطفال المهاجرين ذوي الآباء المحملين بأعباء العمل ويعانون من صدمة، يعيشون قصة مشابهة، هاجر والدي من باكستان مع والدتي في الثمانينيات وعمل في عدة وظائف لتلبية احتياجاتهم، لقد عمل والدي آخر نصف قرن من حياته حتى وصل إلى المرحلة التي أصبح العمل فيها هو كل ما يعرفه، وعلى الأرجح سيعمل حتى آخر نفس في حياته.
يتغلغل العمل في قانونه الداخلي بشدة، حتى إن فكرة الراحة تعد لعنة بالنسبة له وأرض غريبة تتشكل من الخوف والشك.
إن الدافع المحرك للنظام الاقتصادي اليوم – الرأسمالية النيوليبرالية – جعلنا نشعر بأن قيمتنا مشروطة بعملنا
في أول أسبوع من جلوسه في المنزل كان يبحث عن أي سبب للتسلل إلى الخارج مثل شراء مستلزمات أو بعض البقالة، وعندما كان يصرّ على ضرورة العمل لرعايتنا كنت أذكره بأن حياته أغلى من مجرد راتب وأنه كأب لا يُعوض.
إن الدافع المحرك للنظام الاقتصادي اليوم – الرأسمالية النيوليبرالية – جعلنا نشعر بأن قيمتنا مشروطة بعملنا، مما يدفعنا لتأطير الرعاية من مفهوم اقتصادي، كان الأمر خارج السيطرة، ففي غضون أسبوع تحدث الخبراء والسياسيون (عادة ما ينتمون لشريحة اقتصادية أعلى) عن الحاجة لمواصلة ذهاب الناس إلى العمل من أجل الحفاظ على الاقتصاد.
لهؤلاء المؤمنين كان السوق إلهًا لهم والنمو الاقتصادي ندائهم للصلاة، أما الفقراء والضعفاء مثل والدي فكانوا حملان القرابين.
بالطبع لم يكن الحديث عن الاقتصاد ككائن واع يتطلب تضحيات مستمرة أمرًا جديدًا، في الحقيقة كانت تأملات كارل ماركس عن “تقديس السلع” تقول إن العمل ينخدع بالعلاقات الاقتصادية غير المتساوية التي تسببها الرأسمالية، حيث تفصل العمال عن نتاج عملهم.
ينتج عن ذلك ما أسماه ماركس “الاغتراب” وهي ظاهرة يفقد فيها العمال سيطرتهم على ثمار عملهم فيشعرون كما لو أن الاقتصاد يوجه أفعالهم بطريق ميتافيزيقية، يرى ماركس أن العمل يمكن تبسيطه فقط عندما يتمكن العمال أنفسهم من تنظيم مواد الإنتاج بشكل جمعي، وعندما تقدم العلاقات العملية في الحياة اليومية للمرء لا شيء إلا علاقات معقولة وواضحة فيما يتعلق بزملائه والطبيعة.
بالنسبة لماركس، يتطلب الهروب من القبضة الغامضة للرأسمالية – والمنطق الميتافيزيقي الذي يقول إنها صنعته – لا شيء إلا السيطرة على إنتاج المواد، لقد حاولت مواءمة ذلك مع عملية التفكير عند والدي المسلم المؤمن الذي يرى أن الميتافيزيقية ليست نتيجة مأساوية للعلاقات الاقتصادية غير المتساوية لكنها ترتبط بشكل معقد بالعمل نفسه.
يمكننا أن نقول إن النبي محمد والنبي موسى أول من أسسا نقابة
في هذا العالم الذي تحمل الكثير من الألم الذي سببه سعي البشر نحو السيطرة، أرغب في إعادة التفكير في العمل وفق المصطلحات الأخلاقية التي تتجاوز مركزية الإنسان لماركس.
يصور القرآن قصة رائعة حدثت قبل التاريخ عندما أخرج الله أرواح البشرية جمعاء ليقفوا أمامه ويسألهم: “ألست بربكم”، فيقولون “بلى شهدنا”، يتذكر المسلمون هذه الأصول البدائية في حالات الموت والقول المأثور: “من الله جئنا وإليه نعود”.
لأننا في هذا العالم نعيش في منفى، ولأننا في المنفى فنحن نعمل ونكد حتى تأتي نهايتنا، ومثلما تستشهد أرواحنا بالذين جاءوا من قبلنا والذين سيأتون من بعدنا، فإن التقليد الإسلامي هو تعاون عابر للأجيال بين الماضي والمستقبل ويحدث في الحاضر القريب.
بهذ المعنى يترابط المستويان المادي والروحي، وعليه فتوضيح العمل وإزالة الغموض عنه لا يعني إزالة الميتافيزيقية، ولكن وضعها في نصابها الصحيح، لكن كيف يُترجم ذلك إلى نظرية رعاية الآخرين؟
في التراث الإسلامي ذهب النبي محمد عليه السلام في رحلة ليلية على ظهر براق مجنح من مكة إلى القدس وصلى إمامًا بجميع الأنبياء – بينهم أنبياء مشهورون في التوراة مثل آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسي – وبعدها صعد من القدس إلى السماء.
في كل سطح من السماوات السبعة يُعطى لمحة خاطفة عن أبعاد مختلفة للمستقبل، وفي النهاية كان في حضرة الله، حيث لا يمكن حتى للملائكة الدخول، وهناك أمُر بدعوة أتباعه للصلاة، كان الأمر في البداية 50 صلاة لكن النبي موسى أقنعه بأن يسأل الله تقليل العدد، وفي النهاية وصل إلى 5 صلوات التي ما زالت ركنًا أساسيًا في الإسلام حتى اليوم، يمكننا أن نقول إن النبي محمد والنبي موسى أول من أسسا نقابة، بعد ذلك عاد النبي محمد إلى مكة لإتمام ما تبقى من رسالته النبوية.
تتضمن رعاية الذات لدى فوكو اكتساب معرفة عميقة لكيفية التصرف بشكل أخلاقي تجاه الآخرين ثم العيش بهذا النمط الأخلاقي في العالم
بالنسبة لي فإنني أفهم هذه القصة من 3 محاور: الأول محور أفقي من مكة إلى القدس حيث يرمز إلى الشعائر الخارجية التي يؤديها المرء، كيف يمكن لتلك الشعائر أن تزرع الإحساس بالانضباط؟ الثاني محور رأسي من القدس إلى السماوات الذي يرمز إلى الأبعاد الداخلية لتلك الشعائر، كيف نستوعب حكمتهم لتصبح كينونة أخلاقية محبوبة؟ الثالث والأهم محور قطري من السماوات إلى مكة مرة أخرى ويرمز إلى حاجتنا للعمل كأداة إلهية على الأرض، كيف يمكن للأداء الجمعي والاعتيادي لتلك الشعائر أن يخلق إحساسًا بالواجب تجاه الآخرين؟
لم تكن رحلة النبي محمد للسماوات في نهاية حياته، بل كانت الوقت الذي تعين فيه على مجتمعه القيام بكثير من العمل، بعد تحمل الاضطهاد الشديد في مكة 13 عامًا، هاجر النبي وأتباعه إلى المدينة لتأسيس دولتهم وبناء مجتمع أخلاقي مشترك، وهكذا فالأمر بالصلاة لم يدل على الانفصال عن العالم بل الاندماج فيه بشكل هادف.
ما الذي تعنيه المشاركة الهادفة في أثناء أزمة كوفيد-19 عندما يُترك السجناء يعانون من الفيروس وحدهم، ويُبعد اللاجئون عند الحدود ويتحمل الملايين عبء انعدام الأمان الوظيفي ونظام رعاية صحية ممزق، ومستقبل غير واضح بسبب كارثة بيئية؟ إن العمل والرعاية بالنسبة لهم هو حيث تصبح الصلاة تطبيقًا عمليًا.
قد نجد بعض التشابه في كتابات الفيلسوف ما بعد الحداثي ميشيل فوكو الذي وضع نظرية عن مفهوم رعاية الذات التي تتبع فيها الحضارة اليونانية القديمة، بالنسبة لفوكو فرعاية الذات (المحور الأول) تتضمن اكتساب معرفة عميقة لكيفية التصرف بشكل أخلاقي تجاه الآخرين (المحور الثاني) ثم العيش بهذا النمط الأخلاقي في العالم (المحور الثالث).
بينما كان فوكو مشهورًا بنظرياته عن كيفية تشكيل هياكل السلطة لإحساس الناس بالوجود، فإن عمله الأخير يسلط الضوء على حقيقة أننا كبشر بإمكاننا – أو يجب علينا – إعادة بناء طريقة حياتنا في هذا العالم بشكل واع حتى نستطيع تدشين طرق جديدة لتجسيد أخلاقنا، لكن هل هذا كل ما في الأمر؟
ربما سندخل عالم ما بعد كورونا بطرق جديدة للوجود، لا تحركها الرغبة في السيطرة على العالم بل الرغبة في التحاور معه لخدمة أنفسنا والآخرين
بينما كنت أفكر في مأزق والدي وجدت شيئًا ذا قيمة في نظريات ماركس وفوكو تساعدني على إعادة التفكير في العمل والرعاية، الاقتصاد ليس إلهًا ولا ينبغي أن يكون مفهومنا للرعاية رهينة للهياكل الاقتصادية المفروضة علينا.
مع ذلك؛ بينما يركز ماركس وفوكو على الموضوع البشري، أجد أن التراث الإسلامي يقدم تدخلًا جديدًا يرتكز فيه العمل والرعاية إلى أمر إلهي سماوي يربطنا بالماضي والحاضر وهو أمر نعتمد عليه جميعًا.
قد يكون ترسيخ أنفسنا في شيء أكبر منها ويربطنا بالآخرين يساعدنا على إعادة التفكير في مكاننا في هذا العالم، في التراث الإسلامي عندما تعم الفوضى يظل الله ثابتًا ومسيطر على الدوام.
في هذا الحجر الصحي صليت لأول مرة منذ سنوات مع والدي، لقد قمنا بإعادة تمثيل نفس الطقوس على الأرض تلك التي أمُر بها النبي محمد في السماوات، لتذكرنا أن محورنا الأفقي مرتبط بمحورنا الرأسي، سيعود والدي للعمل عندما ينتهي هذا الأمر، وفي الوقت نفسه سيجد طرقًا لتكون أيامه في المنزل ذات معنى، بينما نحاول جميعًا أن نكتشف ما الذي يعنيه أن نجسد محورنا القطري.
كيف يمكننا إعادة التفكير في نظريات العمل والرعاية بطرق تحررنا من التركيز على “السوق كإله” و”البشر كموضوع”؟ ماذا لو لم ننظر – في أثناء إعادة التفكير – إلى التسامي كآلية للتعامل من هياكل فوق بشرية، لكن كعوامل متحركة داخل علم الكون السماوي الذي يقدم أدوات جديدة جليلة للتغلب عليها؟
في العصر القرآني ما قبل التاريخ عندما جمع الله أرواح البشر ليُشهدنا، شهدنا حينها أنه لا إله آخر فوقنا وحررنا أنفسنا من الزمانية والشرطية، لكن هذه الشهادة تضمنت الالتزام تجاه بعضنا البعض، ولمن جاءوا قبلنا ولمن يأتون بعدنا.
بينما نتصارع مع تلك الأسئلة الآن، ربما سندخل عالم ما بعد كورونا بطرق جديدة للوجود، لا تحركها الرغبة في السيطرة على العالم بل الرغبة في التحاور معه لخدمة أنفسنا والآخرين.
في هذا المساء، ختمت مع والدي الصلاة بدعاء قرآني معروف: “اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار”، لأننا حقًا من الله جئنا وإليه نعود.
المصدر: مارجيناليا