في الوقت الذي يتفشى فيه فيروس كوفيد-19 في جسد أوروبا وأمريكا، يسري فيروس آخر يتغذى من الأول، يهدد بمستقبل مظلم للعالم الحر: الشعبوية.
ما هي الشعبوية أولًا؟ هناك تعريفات كثيرة لها تختلف أحيانًا بحسب استخدامها، لكن التعريف الأوضح بحسب الكاتب كاس مود مؤلف كتاب “مقدمة بسيطة في الشعبوية” هو “تقسيم الشعب إلى قسمين: الطبقة الشعبية النقية والطبقة الفاسدة، ثم تقديم مصلحة الشعب بتدمير الفاسدين”.
ارتبط المصطلح كثيرًا بتيار اليمين في الغرب: دونالد ترامب في أمريكا وبوريس جونسون في بريطانيا وماتيو سالفيني في إيطاليا، فكلهم أيقونات شعبوية، ومع ذلك لا تتقيد الشعبوية باليمين فقط، فالرئيس الفنزويلي السابق هوغو شافيز مثلًا كان شعبويًا حد النخاع، بإمكانك استخدام الإيديولوجيا لمهاجمة الإمبريالية، ضد الإرهاب، ضد الصين أو مؤخرًا: الهجرة وكراهية الأجانب والعنصرية!
بدأ التيار الشعبوي بالتنامي في أوروبا مع موجات الهجرة الكبيرة التي أعقبت الربيع العربي عام 2011، ففي العام 2017 وحده على سبيل المثال دخل الاتحاد الأوروبي 2.4 مليون لاجئ من مناطق مختلفة ووصل تعداد غير الأوروبيين عام 2018 إلى 22.3 مليون من أصل 512.4 مليون مواطن “أي ما نسبته 4.4%” من السكان، تضاف هذه الموجة إلى موجات أخرى كالتي حصلت في ألمانيا عقب الحرب العامية الثانية، أو خلال الثمانينيات والتسعينيات من الدول العربية وطبعًا الهجرة المستمرة من إفريقيا.
هنا بدأ تيار اليمين يستخدم الإيديولوجية الشعبوية في معارضة الهجرة، وبسبب التغيير الديموغرافي الذي شهدته الدول الغربية – أو المتوقع حصوله بما هو موجود من أعداد -، ظهر الحديث عن تقسيمات تخص الشعب الأصلي والمهاجرين، وعن تهديدات تواجه الهوية الأوروبية بفعل احتفاظ القادمين – خاصة من العرب والمسلمين – بنفس هويتهم الثقافية وامتلاكهم لكل حقوق المواطنين الأوروبيين بنفس الوقت، أمر يصفه الكاتب كريستوفر كالدويل بأنه “ثورة في أوروبا” يقودها المسلمون.
أدى هذا الصعود بطبيعة الحال إلى تنامي العنصرية والكراهية، ولأن بعض المبادئ لا تقبل القسمة، انطلقت العنصرية لتصيب الجميع: المسلمين والسود والأقليات
هكذا، وبحلول العام 2018 أو عام الشعبوية كما يُطلق عليه، وصل المتطرفون إلى سدة الحكم في أغلب الدول الأوروبية:
– في إيطاليا التي تعد من أكبر الدول الأوروبية المستقبلة للاجئين، فاز حزب الرابطة ثم تحالف مع “حركة 5 نجوم” اليمينية (انتزعت وحدها 33% من أصوات الناخبين)، وكلاهما من المعادين للمهاجرين والأجانب، وشكلا حكومة برئاسة ماتيو سالفيني.
– في السويد، فاز حزب ديمقراطيو السويد، الحزب القومي اليميني المعادي للأجانب، بأكثر من 17.6% من أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية، وهو أكبر اختراق لهم في ذلك البلد الذي عرف عنه توجهه نحو يسار الوسط واليسار على مدى عقود طويلة.
– أما في ألمانيا التي سارعت إلى تطبيق سياسة الباب المفتوح للاجئين، فقد حقق اليمين المتطرف والمتمثل بحزب البديل اختراقًا كبيرًا بدخوله البرلمان الألماني في تحد واضح لسياسة ميركل المتعلقة بالمهاجرين واللاجئين، حيث فاز في حوض الرور الصناعي الذي يعتبر تاريخيًا معقل اليسار الاشتراكي.
– في دول أوروبا الشرقية، يتولى الحكم في هنغاريا رئيس الوزراء الشعبوي واليميني المتطرف فيكتور أوربان، وكذا الحال في بولندا التي يقودها الشعبوي ياروزلاف كاتشينسكي، والحال ذاته في سلوفاكيا حيث الشعبوي روبرت فيكو.
– قبل ذلك كله لا يمكن نسيان دونالد ترامب في الولايات المتحدة عام 2016 وبوريس جونسون في بريطانيا عام 2019.
لأن بعض المبادئ – مرة أخرى – لا تقبل القسمة، كان من الطبيعي أن تتوسع الحملة لتشمل كل المعارضين لها حتى إن كانوا من نجوم المجتمع المعروفين بمعارضة الشيوعية نفسها
أدى هذا الصعود بطبيعة الحال إلى تنامي العنصرية والكراهية، ولأن بعض المبادئ لا تقبل القسمة، انطلقت العنصرية لتصيب الجميع: المسلمين والسود والأقليات، فمنذ البريكست، سجل 71% من الأقليات في بريطانيا حوادث عنصرية ضدهم، وفي العام 2019، ارتفعت حوادت الكراهية بنسبة 130% مع 1142 حادثًا في فرنسا وحدها، أما في أمريكا، يرى 80% من الأمريكيين أن المسلمين والسود والهسبان يعانون من تمييز ضدهم، كما أن 24% منهم يرون أن اليهود يتعرضون للتمييز أيضًا وهو أمر لم يكن موجودًا قبل وصول دونالد ترامب.
رغم ذلك، شكلت القوانين والدساتير الغربية حاجزًا منيعًا أمام الانزلاق لتحويل التمييز العنصري إلى قوانين، كما حدت الديمقراطية بشكل كبير من تسلط اليمين وتحوله تدريجيًا إلى ديكتاتورية فاشية على طريقة موسوليني وهتلر، لكن الحاجز يعاني اليوم ضربات عنيفة بفعل معاول فيروس كورونا!
جوزيف مكارثي.. الديمقراطية في إجازة
قبل 70 عامًا استفاقت أمريكا ليجد كل مواطن نفسه أمام سؤال: “هل أنت شيوعي؟ هل كنت شيوعيًا يومًا ما؟ هل أنت على صلة بالشيوعيين؟”، حصل ذلك في خضم الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي نتيجة حملة قام بها السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي عام 1950 بعدما أعلن أن لديه قائمة من أكثر من 200 موظف شيوعي في الخارجية الأمريكية، ثم توسعت الحملة لتشمل الأكاديميين والكتاب والصحفيين والمشاهير وكل من يُشك بأنه يحمل ميولًا شيوعيًا، ليتم تقديمهم للقضاء بتهمة محاولة الإطاحة بالحكم بالقوة والعنف.
كان المسؤول عن تنفيذ المداهمات والتحقيق مكتب التحقيق الفيدرالي “FBI” الذي لم يكن يتوانى عن استخدام أساليب قذرة كما تقول المؤرخة والبروفيسورة إيلين شريكر، أبرز مؤرخي مرحلة الماكرثية التي كانت تعمل في جامعة يشيفيا بنيويورك: “يأتي عنصر من مكتب التحقيقات إلى مكتب رئيس الجامعة أو الكلية أو حاكم ولاية ويسلمه ورقة لا تحمل اسم الوكالة أو رقمًا في سجلاتها”، وكانت الورقة تحمل عنوان: “مذكرة غير قابلة للتعقب ومجهولة المصدر، تتضمن فقط اسم الشخص وأسماء أشخاص مشبوهين له صلة بهم، والتوصية بعدم تعيينه في منصب وعدم تجديد عقده أو الوظيفة التي يتولاها، وكان يتم إنهاء عمله بهدوء دون أن يكون هناك أي دليل أن مكتب التحقيقات الفيدرالي يقف وراء ذلك”.
يكشف الجنون المكارثي كيف يمكن لتيار أو حزب استغلال خوف الشعوب من عدو أو خطر – ممكن صناعته إذا لم يكن موجودًا – أن ينزل ببلد ديمقراطي مثل الولايات المتحدة إلى مصاف الدول البوليسية
ولأن بعض المبادئ – مرة أخرى – لا تقبل القسمة، كان من الطبيعي أن تتوسع الحملة لتشمل كل المعارضين لها حتى إن كانوا من نجوم المجتمع المعروفين بمعارضة الشيوعية نفسها! لعل أبرزهم البروفيسور والخبير الاقتصادي في مجال التنمية غوستاف باباناك الذي فرت أسرته من القارة الأوروبية مع تصاعد المد الفاشي في أوروبا الشرقية أوائل القرن العشرين.
باباناك الذي لا يزال يقدم المشورة لبلدان مثل إندونيسيا، كان يعمل في وكالة للاستشارات الاقتصادية تابعة لوزارة الخارجية، ولأن القانون الأمريكي يحمي مثل هذا النوع من الموظفين وبالتالي لا يمكن المساس به، قرر مكتب التحقيقات إلغاء الوكالة برمتها وتأسيس وكالة جديدة!
وهكذا تحولت حملة تصفية أمريكا من الشيوعية إلى حملة لتصفية المعارضة، وما دق ناقوس الخطر وصول الحملة إلى قادة بارزين في الجيش الأمريكي الذي كان خط المواجهة الأول ضد الشيوعية، وبحلول العام 1954 قرر الرئيس الأمريكي أيزنهاور – وهو قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية – التحرك ضد مكارثي رغم أنه من نفس حزبه بعدما أدرك أن المضي قدمًا سيحول أمريكا إلى اتحاد سوفيتي قمعي ثانٍ! فتم التصويت على عزله في الكونغرس لتنتهي حياته السياسية وحياته نفسها بعد 3 أعوام.
يكشف الجنون المكارثي كيف يمكن لتيار أو حزب استغلال خوف الشعوب من عدو أو خطر – ممكن صناعته إذا لم يكن موجودًا – أن ينزل ببلد ديمقراطي مثل الولايات المتحدة إلى مصاف الدول البوليسية التي تعتقل خيرة أبنائها بحجة حماية البلاد.
اليوم، مع انتشار فيروس كورونا، تبدو الفرصة مواتيه للشعبوية بالانتقال نحو الديكتاتورية، فحمى الفيروس والخوف منه حولته إلى عدو وليس مرضًا، وعليه يتصدر المشهد جنرالات تقاتل العدو لا أطباء يعالجون الفيروس! إذًا لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فالمعارضة تعني الاصطفاف مع العدو، ومع خروج آلاف الجنائز والنعوش لمئات الآلاف من المصابين في المستشفيات تصبح كل الأثمان رخيصة في سبيل تحقيق النصر حتى لو كانت الديمقراطية نفسها، ومع قليل من البروباغندا يتحول المدافعون عن الحرية والديمقراطية إلى أهداف سهلة لوكالات الأمن والشرطة.
فالديمقراطية ستكون آخر هموم رجل يحتضر! ولأن بعض المبادئ – تارة ثالثة – لا تقبل القسمة، تواجه بلدان العالم الحر خطرًا كبيرًا بالانزلاق نحو الديكتاتورية وتسلط الأفراد حين تصبح المعادلة تخيير الشعوب بين العيش في ظلال القمع وحالة الطوارئ أو الموت تحت طائلة الفيروس، فهل ينجح اليمين بما فشل فيه مكارثي؟