تعيش العلاقات الأمريكية الإيرانية حالة من السيريالية، من النقيض إلى النقيض، ففي الوقت الذي تحكم واشنطن الخناق على طهران، ولا تترك لها إلا ما يسد رمق شعبها في ظل أزمة جائحة كورونا، وترفض كل الدعوات الدولية للتنازل عن العقوبات أو تعطيلها على الأقل لأسباب إنسانية، تعمل البنوك الإيرانية في ألمانيا وتنفذ أعمالًا تجارية مع بعض البنوك والشركات صغيرة ومتوسطة الحجم، وعلى أساسها تحصل على خطابات اعتماد وضمانات مصرفية وتأمين وتتمتع بالحق في جميع منتجات التمويل التجاري الأخرى، فلماذا تقيد أمريكا هذا وتترك ذاك!
تقييد المركزي وشل حركته
في سبتمبر من العام الماضي، فرضت الولايات المتحدة، حزمة مشددة من العقوبات على طهران، أخطرها تقييد البنك المركزي الإيراني وصندوق التنمية، بحجة الهجمات التي شنت آنذاك على منشآت نفطية في السعودية، واتهمت الرياض ومسؤولون أمريكيون إيران بالتسبب فيها، رغم نفي طهران الضلوع في الهجمات التي خفضت إنتاج النفط إلى النصف في السعودية، ولكن لاحقًا أعلن الحوثيون في اليمن مسؤوليتهم عن الهجوم.
الإجراءات الجديدة التي هدف منها ترامب إلى ضرب طهران، شلت بالفعل عائدات النفط الإيراني وقطعت علاقات بنوك الجمهورية الإسلامية بالعالم المالي بعدما انسحبت البنوك العالمية من تعاملاتها مع نظيراتها الإيرانية خوفًا من عقوبات ترامب التي لا ترحم، وخاصة بعد حملة الضغط القصوى التي قامت بها الإدارة الأمريكية لاستهداف قطاعات البنوك والطاقة والشحن، وقطع الصلة بينها وبين حكومات وشركات شتى من جميع أنحاء العالم كانت تتفاعل معها، قبل تشديد التحرك المنفرد لترامب إثر إعلانه انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي أو خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) وإعادة فرض العقوبات النووية الأمريكية عليها.
حتى يكسب البيت الأبيض وساكنه بالقاضية، كان لا بد من منع أي دولة تساعد إيران ماليًا أو تقيم معها علاقات من أي نوع، وبموجب هذا التصعيد أعادت الولايات المتحدة فرض عقوبات ثانوية، تطال أي عمليات شراء للأوراق النقدية بالدولار الأمريكي من الحكومة الإيرانية أو التجارة معها في الذهب أو المعادن الثمينة، أو حتى التحويلات إليها أو منها.
حاولت إيران امتصاص الصدمة وقدمت خطوة أخرى تجاه روسيا، ليعلن محافظ البنك المركزي عبد الناصر همتي ربط مصرفي جديد بين البنوك الإيرانية ونظيرتها الروسية
كان واضحًا أن المؤسسات الأمريكية المعنية تسعى لتطويق كل المعاملات مع البنك المركزي الإيراني ومؤسسات النقد الأخرى، ولهذا لم تترك أضيق نافذة يمكن أن تمر منها البنوك الإيرانية إلا وأغلقتها أمامها، لدرجة أنها أنذرت جمعية المراسلة العالمية للاتصالات المالية بين البنوك (SWIFT) ومقرها بلجيكا، التي تعتبر شبكة مراسلة عالمية تهدف لإرسال معلومات آمنة للمعاملات المالية في بلدان العالم أجمع.
هددت الإدارة الأمريكية “سويفت” أنها ستكون هدفًا محتملًا لعقوباتها، إذا لم تلتزم الشبكة بفصل أي مؤسسة مالية إيرانية تكنولوجيًا عن باقي بلدان العالم، وبالفعل قطعت سويفت خدماتها عن جميع البنوك الإيرانية، الأمر الذي هدد إيران بشلل مصرفي ومالي، في ظل اعتماد أغلب المؤسسات المالية في العالم على الشبكة لإنجاز معاملاتها المالية، وخاصة تحويل الأموال، ما يجعل من الصعب على إيران الحصول على أموال مقابل الصادرات والدفع مقابل الواردات.
حاولت إيران امتصاص الصدمة، وقدمت خطوة أخرى تجاه روسيا، ليعلن محافظ البنك المركزي عبد الناصر همتي ربط مصرفي جديد بين البنوك الإيرانية ونظيرتها الروسية بعيدًا عن منظومة الاتصالات المالية العالمية بين البنوك “سويفت”، وذلك عن طريق نظامي الرسائل الروسي والإيراني “سبام” التابع للمركزي الإيراني.
وبهذه الخطوة عززت إيران عضويتها بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم “روسيا، بيلاروسيا، كازاخستان، أرمينيا، قرغيزستان”، فمن ناحية تقلل أهمية الضربة الأمريكية، ومن ناحية أخرى، سيعني ذلك تحفيز التجارة الخارجية الإيرانية، ولهذا عقد الرئيسان الإيراني حسن روحاني ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لقاءً بحثا فيه القضايا المصرفية المثارة وسبل تطويرها، وأصبحت هذه الخطوات دليلًا من ناحية أخرى على تأثير العقوبات الضار بالولايات المتحدة نفسها، بعدما تراجع دور الدولار في العلاقات الاقتصادية الدولية، وأصبح من الضروري تنفيذ عمليات تبادل تجاري بين البلدان الرافضة للسياسات الأمريكية، بواسطة عملاتها المحلية.
وقعت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات بالفعل على بنك ميلي عام 2018، وزعمت أنه يدعم الحرس الثوري الإيراني المصنف ـ إرهابيًا ـ من أمريكا
برلين في عمق العاصفة
تحوم شبهات أمريكا دائمًا حول ألمانيا في مساعدة إيران ماليًا، فهي الشريك التجاري الأكبر لأوروبا مع طهران، ولهذا صدرت لها عام 2019 وحده سلعًا بقيمة 1.64 مليار دولار، رغم كل هذه التضييقات المحكمة بعناية، وربما هذا ما دفع منظمة “متحدون ضد إيران النووية” الأمريكية، التي تقود جهودًا للضغط على الشركات من كل أنحاء العالم لوقف الأعمال التجارية مع إيران كوسيلة تراها ضرورية لوقف البرنامج النووي للحكومة الإيرانية وتطورها المزعوم للأسلحة النووية، إلى تتبع البنوك الإيرانية التي فرضت عليها الولايات المتحدة عدة عقوبات، وأكدت أنها ما زالت تعمل داخل ألمانيا، وحددت بالاسم أقدم بنك في هامبورج “ميلي” وأكدت أنه لا يزال على علاقة وثيقة ببنك إيران الوطني المملوك بالكامل للحكومة الإيرانية.
وقعت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات بالفعل على بنك ميلي عام 2018، وزعمت أنه يدعم الحرس الثوري الإيراني المصنف إرهابيًا من أمريكا، هو والشركات التابعة له، وأكدت أنه ينقل الأموال داخل وخارج إيران، وإلى جانب بنك ميلي، تتهم المنظمة أيضًا بنك “سبه Sepah” في هامبورج بتقديم خدمات مالية مباشرة وواسعة النطاق لوكالات شراء وتطوير الصواريخ البالستية الرئيسية في إيران، بما في ذلك منظمة الصناعات الفضائية الجوية والشركات التابعة لها.
كما تتهم البنك الأوروبي الإيراني الذي يقع مقره الرئيسي في ألمانيا، بتمويل مليارات الدولارات من صفقات التجارة الألمانية الإيرانية، بجانب مؤسسة “EIH” وهي مجموعة تعليمية كبرى تساعد العديد من المؤسسات العسكرية والدفاعية الإيرانية، وسبق لشبكة مكافحة الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة الأمريكية، تصنيف هذه المؤسسة، على أنها مركز تهديد لغسل الأموال بسبب علاقاتها مع المؤسسات العسكرية الإيرانية.
الصحافة الألمانية من جانبها لم تنف هذه الاتهامات وتنوعت التحليلات التي كشفت لماذا توجد إيران بقوة في ألمانيا حتى الآن، وأوضحت صحيفة SÜDKURIER في تقرير لها استندت فيه إلى رأي أحد خبرائها، أن انسحاب البنوك الكبرى التي تراقبها الولايات المتحدة، يفتح نفس الفرص للبنوك والمؤسسات الصغيرة، خاصة أن إيران دائمًا حالة خاصة، فالخلاف والصراع الدولي بشأنها يخلق فجوات كبرى للبنوك الصغيرة خاصة أن الكثير منهم لا يملكون علاقات مالية مع أمريكا، وهذا يحصنهم من المراقبة، ولهذا لا يرغبون في ترك فرص التعامل مع المؤسسات والشركات الإيرانية التي تدر عليهم الكثير من المكاسب.
يمكن القول إن وضع إيران الصعب، بعدما تضررت بشدة من جائحة كورونا، لم يجعل أمريكا تفرط في مكاسبها من إحكام الخناق حولها
أمريكا وفوبيا البنوك في حربها ضد إيران
محاصرة أمريكا للبنوك الإيرانية، يكشف حالة من الهستيريا، للسيطرة على المؤسسات المالية وتجميد أنشطتها، لا سيما أن واشنطن تعلم جيدًا أن البنوك الإيرانية أقوى رعاة الجيش الإيراني، لا سيما الحرس الثوري، وهي مصدر تضخيم ثروته وأهم ممولي أجندته، وخاصة “فيلق القدس” الذي توفر له كل ما يحتاجه لمد أذرعه خارج البلاد، كما ترعى برنامجه لتسليح الجماعات الإسلامية، سواء التي تدين بعقيدته الشيعية أم التي تتولى مسؤولية محاربة “إسرائيل” وإخافتها.
في 2018 كان واضحًا استهداف أمريكا للظام المصرفي الإيراني بعقوبات مشددة، لدرجة أنها ضربت نحو 50 بنكًا إيرانيًا بفروعه الأجنبية والمحلية، وهددت بكل قوة البنوك التابعة للبلدان التي تضع فيها إيران أقدامًا لها، بداية من لبنان التي وضعت الخزانة الأمريكية مصرف “جمال ترست بنك” على لائحة العقوبات بتهمة تقديم خدمات مصرفية لحزب الله، ما أثار مخاوف في البلاد من أن تتوسع الدائرة لتطال مصارف أخرى، في ظل وضع اقتصادي هش تعاني منه، لا سيما أن القرار اعتبره متخصصون رسالة صارمة وواضحة للحكومة اللبنانية وحزب الله، ضمن حزمة ضغوط طالت شخصيات قيادية بارزة من الحزب بينهم نواب في البرلمان اللبناني.
ولم تتوقف المحاصرة على لبنان فقط، بل امتدت للبلدان التي منحت بعض الاستثناءات، ومنها العراق، إذ حذرت حكومته من التعامل مع بنوك تابعة لإيران، ومن ثم الالتفاف على العقوبات الأمريكية من بوابة بلاد الرافدين، بسبب منحها استثناءً من العقوبات لاستيراد الكهرباء إلى جنوب العراق تحقيقًا لمصلحة الشعب حسب الزعم الأمريكي، ولكن هذا لا يعني أن تذهب العوائد إلى صندوق خاص وتوفر لإيران موردًا للعملة الصعبة.
يمكن القول إن وضع إيران الصعب، بعدما تضررت بشدة من جائحة كورونا، التي أصابت ما يقرب من 77 ألف إيراني، وتسببت في وفاة ما يقرب من 5 آلاف مصاب بالفيروس حتى الآن، لم يجعل أمريكا تفرط في مكاسبها من إحكام الخناق حول طهران، ولهذا لم تجمد العقوبات ولو مؤقتًا استجابةً للمناشدات العالمية، ولكن لم تسمح للبنك المركزى الإيرانى – الخاضع للعقوبات الأمريكية – إلا بإجراء بعض المعاملات التجارية لاعتبارات إنسانية، وذلك من خلال إحدى قنوات المساعدات الإنسانية السويسرية.
سمحت أمريكا لسويسرا بتصدير المواد الغذائية والأدوية والإمدادات الأخرى المهمة إلى إيران، لا سيما أنها تتولى رعاية المصالح الأمريكية مع إيران نظرًا لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، ولكن حتى الآن ليس في حساباتها إعادة الحياة للبنوك والمؤسسات المالية الإيرانية، وإن كانت تمثل فرصة كبرى للبنوك والمؤسسات الصغيرة للاستفادة من “الهوشة” الدولية مع إيران.